هذه القسوة الوحشية التي رأيناها ولمسناها وعايشناها في السجن الحربي، وعلى أيدي جنود من أبناء مصر كيف نفسرها؟! وهذا الشعب معروف بالطيبة والدماثة والرقة، فكيف تصدر من أبنائه هذه التصرفات التي تدل على فقدان الرحمة من القلب، والحياة من الضمير؟!

كنا نتناقش فيما بيننا إزاء قسوة هؤلاء الجنود وشراستهم الغريبة ضدنا ، وكثيرًا ما دعانا هذا الذي نشهده ونعيشه من وحشية الجلادين في السجن الحربي إلى تساؤل مهم : هل الأصل في الإنسان : الخير أو الشر؟ العدل أو الظلم؟ وكثيرا ما تناقشنا حولها .

فمنا من انتصر لخيرية الإنسان في الأصل، ومنا من ناصر الفلاسفة الذين يقولون: الإنسان ذئب مقنَّع! وأيد بعضنا ذلك بقوله تعالى عن الإنسان: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} (الأحزاب:72)، وأنشد قول أبي الطيب :والظلم من شيم النفوس فإن تجد  **  ذا عفة فلعله لا يظلم

ولعل من أعظم العلل الرادعة عن الظلم: خشية الله، وخوف الحساب والقصاص يوم توفى كل نفس ما كسبت، ويوم يأخذ المظلوم حقه من الظالم، فمن لم يخش الله وحسابه لم يبال أن يبطش بكل ضعيف لا يقدر على الدفاع عن نفسه .

والشاعر زهير بن أبي سلمى يقول في معلقته :

ومن لا يذد عن حوضه سلاحُه  **  يهدَّمْ، ومن لا يظلم الناس يظلم

كأن الشاعر الجاهلي يقول: اظلم الناس حتى لا يظلموك!

والحق أن الإنسان بفطرته مستعد للخير استعداده للشر، متهيئ للفجور تهيؤه للتقوى، والمدار على بذل الجهد للرقي بالنفس وتزكيتها ولا يدعها تهبط به حين تتبع هواها وشهواتها، يقول تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس:7-10).

هكذا كنا نفكر فيما يجري علينا من ألوان الأذى والعذاب، من أناسي هم من قومنا ومن بني جلدتنا، ما الذي حول هؤلاء البشر إلى سباع؟! وما الذي حول أبناء قومنا إلى أعداء لنا؟!

وأود أن أؤكد هنا عدة حقائق أحسب أنها مسلمة، وتساعدنا في تفسير هذا السلوك الإجرامي:

أولًا: إن أي شعب من الشعوب مهما بلغ من طيبة قلبه، ورقة أفراده، لا يخلو من أشرار قساة فرغت قلوبهم من الرحمة، وغلبت عليهم الشقوة. وقد قص علينا القرآن أن البشر حين كانوا أسرة واحدة، أبناء لأب واحد، وأم واحدة، وجد منهم الشرير القاسي، الذي قتل أخاه بغير ذنب ولا جريرة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (المائدة: 27-30)..

فلا غرو أن تجد في الشعب المصري ـ على طيبته ورقته وأصالته ـ أناسًا تدفعهم دوافع مختلفة إلى سفك دم الآخرين بغير حق، كما تقرأ في الصحف مَن قتل أولاده، أو من قتل أمه وأباه، أو أخته وأخاه، أو عمته أو خالته، ومن قتل زوجته، ومن قتلت زوجها ومزقته إلى قطع ووضعته في أكياس من البلاستيك!

لا غرو أن تجد في مصر مثل حمزة البسيوني الذي جعله عبد الناصر قائدًا للسجن الحربي، وهو رجل يتفجر الشر من جميع جوانبه، فلا يفكر إلا في الشر، ولا ينوي إلا الشر، ولا يتكلم إلا بالشر، ولا يفعل إلا شرًا، إنه من نوع قابيل الشرير الذي قتل أخاه بلا ذنب جناه. فهو رجل فارغ الرأس من الفكر والثقافة، فارغ القلب من الإيمان والعاطفة، فارغ النفس من الطموح إلى المعالي، حُرِم الخشية من الله، والحياء من الناس، فلا يخاف الله، ولا يرحم عباده، ونظرًا لشعوره بالنقص الكامن في ذاته أراد أن يكمله بادعاء القوة، والظهور بمظهر الجبروت، وعلى من؟ على من لا حول له ولا قوة، على أسراء سجناء لديه جُرِّدوا من كل سلاح، ومن كل قوة. والتجبر على من لا حول له ولا قوة شأن الضعفاء المهازيل الأخسّاء.

ولو أن حمزة هذا خلع بِزته العسكرية، وخرج من دائرة نفوذه، وتعامل مع الناس بشخصه وملكاته، فكم يساوي في الناس؟! إنه لا يساوي صفرًا. ومن نكد الدنيا على الأحرار الشرفاء، أن يتحكم في مصيرهم مثل هذا الأحمق الفاجر، المستكبر في الأرض بغير الحق، بل المتأله، الذي أعطى لنفسه سلطان الألوهية، حتى قال ما قال نمرود من قبل لإبراهيم حين حاجه في ربه: أنا أحيي وأميت!

ثانيًا: بالنسبة لقسوة الجنود في السجن، فيجب أن نلاحظ أن الجيوش ـ بصفة عامة ـ مظنة الشدة والقسوة؛ لأنها تعد لمواجهة الأعداء، مواجهة مسلحة، إذا اقتضت الظروف إعلان الحرب عليهم، والحرب لا تعرف الرقة والرحمة المطلقة، بل تقتضي قدرًا من الغلظة والشدة. كما أن الجيوش تخلو من العناصر التي تجلب الرقة والرأفة، فليس فيها أطفال، ولا نساء ولا شيوخ، وهم الذين يشيعون الرحمة في المجتمع.

ثالثًا: إن الذين قادوا حملة التعذيب للإخوان، كانوا يختارون الجنود المعروفين بالقسوة والخشونة، وربما وضعوا لهم اختبارات تكشف عن ذلك، وترشحهم للقيام بهذه المهمة دون أن يخفق لهم قلب.

رابعًا: إنهم كانوا يلقون عليهم دروسًا وتوجيهات معينة تفهمهم أن هؤلاء الذين سيذهبون للتعامل معهم أناس أشرار، وهم خطر على أمن الوطن واستقراره ووحدته، وأنهم لو ترك لهم ما أرادوا لدمروا الوطن تدميرًا.

ومعظم هؤلاء العساكر أميُّون لا يعرفون شيئًا، وليست عندهم أي ثقافة تمنعهم من تصديق ما يقال لهم عن الإخوان. ولا عجب أن سمعت أحد الجنود يقول لأحد الإخوان: يا مختلس الوطن! ومعنى هذا: أنهم أفهموه أن تهمة هؤلاء ليست اختلاس خزينة أو متجر، بل اختلاس الوطن كله.

ومما يدل على جهل هؤلاء تعليقاتهم الغريبة على بعض الوقائع، فأخونا الدكتور عبد الله رشوان سألوه: بتشتغل إيه؟ قال لهم: أنا محام، قالوا: يعني بتشتغل شغلتين في وقت واحد: دكتور ومحام !

وأخونا الشيخ محمد مصطفى الأعظمي من علماء الهند، كان يدرس في الأزهر العالمية مع إجازة التدريس، وأخذوه مع الإخوان، وكان يلبس زي إخواننا الهنود من البالطو الأسود، والقلنسوة السوداء، واللحية السوداء، فحينما رأوه حسبوه قسيسًا! فقالوا: يا ولاد الـ … حتى القسس دخلوا فيكم!

ومن دلائل الجهل المطبق عند هؤلاء العساكر أن أحدهم ممن كان يشرف على الإخوان في دورة المياه، يجد تسعة منهم يدخلون المراحيض، والباقين ينتظرونهم حتى يخرجوا، فقال لهم: يا بهايم، بدل وقوفكم بلا عمل، تنتظرون الذين في المراحيض، استغلوا هذا الوقت في الوضوء، حتى إذا جاء عليكم الدور في الدخول، تكونون قد كسبتم الوضوء، بدل انتظاركم من غير لازمة، لتدخلوا ثم تتوضأوا!! لا يعرف المسكين أن دخول المرحاض لقضاء الحاجة ينقض الوضوء، مع أن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، يعرفه الخاص والعام.

خامسًا: إنهم كانوا يغرونهم بعلاوات خاصة تدفع لمن كان منهم أشد قسوة، وأكثر وحشية، تسمى هذه العلاوة "علاوة إجرام"، فهذه رشوة مادية تقوي من ضعف منهم، وتزيده خشونة على خشونته، وجمهور هؤلاء ـ بل كلهم ـ من الفقراء ممن يغريه القليل من المال لفعل ما يراد منه.

سادسًا: إنهم ـ برغم هذا كله ـ كثيرًا ما رأيناهم يتغيرون تمامًا في معاملتهم للإخوان 180 درجة؛ حينما يعاشرونهم ويخالطونهم بالفعل، ويرون بأعينهم، ويلمسون بأيديهم أن هؤلاء ليسوا كما قيل لهم، بل هم أناس حريصون على إقامة الصلاة وتلاوة القرآن، وإيثار بعضهم لبعض، والتعامل معهم بمنتهى اللطف وحسن الخلق، مع أن منهم الأطباء والمهندسين والمحامين والمدرسين وأساتذة الجامعات والتجار وغيرهم.

وقد رأيت بنفسي كثيرًا من الجنود الذين كانوا في غاية الفظاظة والغلظة أول أمرهم؛ سرعان ما تحولوا إلى أصدقاء متعاطفين مع الإخوان، متعاونين معهم، مثل العسكري "متولي" الذي كان يبكي ويطلب من الإخوان بحرارة أن يسامحوه على ما آذاهم به أولًا؛ حتى أصبحنا نخاف عليه أن ينكشف أمره لدى رؤسائه، ويصيبه من وراء ذلك أذى، ولكنه لم يكن يبالي بما يصيبه إذا كان في ذلك تبرئة ذمته وعفو الإخوان عنه. وقد غلب عليه التدين والصلاح ومن يهده الله فلا مضل له؛ ولهذا كانت السياسة المتّبعة: أن يغيروا هؤلاء العساكر كل عدة أشهر، حتى لا يتأثروا بالإخوان، ويتآلفوا معهم.

حادثة غريبة وقعت لي

وأنا أذكر هنا حادثة غريبة وقعت لي في السجن الحربي، فقد كنا في فترة من فترات الهدوء التي كانت تمر بنا في السجن، من لطف الله بنا وتخفيفه عنا، فلا جهاز جديدًا ضُبط لتمويل الأسر، ولا حوادث تعكر الصفو، ومع هذا فوجئت بأن نودي على اسمي منفردًا، وكان أي واحد منا ينادى عليه لا يتوقع خيرًا، إذ لا يُسمح لنا بزيارات، ولا ترسل إلينا رسائل، فماذا وراء هذا النداء إلا شرًا، نعوذ بالله منه، فنزلت وأنا أقرأ "المعوّذات" حتى وصلت إلى "أمين السيد" باش جاويش السجن، الذي كان صوته يزلزل السجن كله لشراسته وعنفه وعدوانه، ولكني وجدت أمينًا هذا على غير ما توقعته، فقد سألني بأدب: هل حصل منك شيء؟ قلت: وهل يحصل من أحد هنا شيء ولا تعلمه؟

قال: إن القائد "صرف لك" خمسة عشر كرباجًا، ولا أدري سبب هذا؟! ثم أغلق الحجرة وقال لي: اسمع، أنا سأضرب بالكرباج على الأرض، وأنت قل: آه بصوت عال، ثم احمل حذاءك في يديك، واخرج في هيئة المضروب المتألم. وقد كان، ونفذ الرجل ما اقترحه، ولم يمسسني بأذى.

ولما صعدت إلى الزنزانة، ورآني إخواني أمسك بنعلي في صورة المضروب، أحبوا أن يواسوني ويهونوا علي، فقصصت عليهم الحكاية، فعجبوا منها، من صرف الكرابيج الخمسة عشر لي بغير مناسبة، ومن موقف أمين السيد، الذي لم يكن يتوقعه أحد، وذكرت هذا لبعض الإخوة عندما كنا ننزل لدورة المياه، قال لي أحدهم: سبحان مغير القلوب! وقال آخر: الذي حدث من أمين معك يعد من الكرامات؛ لأنه أمر خارق للعادة! وأحب أن أذكر هنا أن أمينًا هذا لا يعرف عني شيئًا، ولا من أكون، هل أنا عالم أو جاهل؟ تعاطف معي إنسانيًا لا أكثر. وهذا دليل على أن الإنسان وإن بلغ من الشر ما بلغ؛ تبقى في أعماقه رواسب خير، تظهر في بعض الأحيان، تنزع به إلى جهة الخير والرحمة. ولا سيما الإنسان المصري فهو معجون بالطيبة .

أما سبب هذا الأمر الغريب، فقد تحيرت فيه، وقلت لإخواني: عندي تفسير يحتمل أن يكون هو السبب، فقد كان شقيق حمزة البسيوني طبيبًا يعمل في هيئة التحرير بالمحلة، واسمه الدكتور عمر البسيوني، فربما جاء يزوره، وجاء ذكر المحلة ونشاطها، ولا بد أن يذكر اسمي في تلك الحالة، فلا يبعد أن يقول له حمزة: يمكننا أن نكرمه بهذه الهدية بمناسبة زيارتك، فنصرف له من عندنا خمسة عشر كرباجًا. هذا ما ترجح لي، والعلم عند الله تعالى.

عيشتنا في السجن

كان المعتاد أن ننزل لدورة المياه مرتين كل يوم: مرة قبل الفجر، ومرة بعد العصر، ويا ويل من يصيبه إسهال أو يغلبه البول لسبب من الأسباب. وكان من فضل الله علينا أن معظمنا شباب، فكانت تكفينا المرتان، ولكن كان فينا شيوخ أيضًا، من المبتلين بالبورستاتا وغيرها، على أن الشباب لا يخلو من وعكات تنزل به، فكل إنسان معرض للآفات والنزلات.

وكان من لطف الله بنا: أن أكلهم كان قليلا جدًا، كما كان رديئًا جدًا، وكانت قلته هذه من رحمة الله لنا، حتى لا نحتاج إلى دورة المياه كثيرًا. على أن مشكلة البول كانت محلولة عند الضرورة، فقد كان في كل زنزانة إناء للبول نستعمله عند اللزوم، وإن كان قلما يُستعمل من أجل سوء الرائحة، ولكن المشكلة تكمن في الغائط، وخصوصًا عند الإسهال. على أن إناء البول ـ أو قصعة البول وكانت من الجلد ـ كانت تستعمل بالليل، وتغسل في الصباح، لتملأ بالماء الذي نشرب منه طول النهار!

ومما لا أنساه أني أصبت يومًا بإسهال مصحوب بمغص شديد، ودققت على الزنزانة أطلب منهم أن يسمحوا لي بالنزول إلى الدورة لهذا المغص الطارئ، فلم ينلني منهم إلا السب والشتم الذي هو ديدنهم، فقلت لهم: ماذا أفعل؟ فقالوا: تصرف في أي شيء عندك، المبولة أو غيرها، وقال الإخوة: لا تعذب نفسك أكثر من هذا، نحن نواري عليك بالبطانية، وأنت تقضي حاجتك في هذه المَبْوَلة، قلت لهم: وتبقى بجوارنا حتى المساء! قالوا: للضرورة أحكام، ألم تعلمنا أن الله أباح لنا أكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة؟

وعلى الرغم مني قضيت حاجتي بهذه الصورة الكريهة، وأنا أتصبب عرقًا، وأتمزق خجلًا، ولا سيما أن الحياء من أبرز الخصال عندي، فطرة فطرني الله عليها، لم أتكلفها، ولكن المكره له عذره، والمضطر يركب الصعب، والشاعر العربي يقول: إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا  **  فما حيلة المضطر إلا ركوبها!

وبقي الإناء بما فيه نحو ساعتين حتى فتحوا لنا، وأبى الأخ رضوان من إخوان المحلة إلا أن يحمله هو ويصبه في الدورة ويغسل الإناء بالماء والرمل؛ تكريمًا لي أن أحمله بنفسي وأنا أولى به، وحلف على ذلك، جزاه الله خيرًا إن كان حيًا، ورحمه الله وغفر له إن كان قد لقي ربه.

والمفروض أن الزنزانة مبنية ليسجن فيها شخص واحد، فكيف تسع سبعة أو ثمانية؟ لقد كنا أحيانا ننام ـ كما يقولون ـ خلف خلاف، بعضنا رأسه في ناحية ورجله في الأخرى، ورفيقه على عكسه؛ بهذا نأخذ مساحة أقل، وكان هذا مهمًا في الشتاء؛ لأنه يدفئنا من شدة البرد الذي نعانيه، فقد كان البرد في فصل الشتاء قارسًا، وكنا ننتفض انتفاضًا، ولا سيما مع خفة الثياب التي معنا، وعدم كفاية الأغطية، وبرودة الأسفلت الذي ننام عليه.

وكلنا عانينا من أمر آخر هو حشرة "البَقْ" التي تختفي في الخشب، وتظهر في الليل، فتقرص القرصة المؤلمة، فتذهب النوم من عين مقروصها، وكان هذا البق معششًا ومفرخًا في الألواح الخشبية التي فرشوا بها الزنازين، فأجمع المعتقلون أن ارحمونا من هذه الألواح وما فيها من خلق الله المستور، وكان من كرمهم أن استجابوا لطلبنا، وأراحونا منها، وإن كان هذا جعلنا نقاسي من لذعة الإسمنت وبرده في الشتاء، ولكنه أخف من لذعة البق.

أخذ الكتب التي معنا

وكان حمزة البسيوني وزبانيته يتفننون في تعذيبنا بكل وسيلة يقدرون عليها، ويبحثون عن كل ما يكدر خواطرنا، ويزعج سرائرنا؛ من ذلك أن عددًا منا كان يحمل معه بعض الكتب ليشغل الوقت بقراءتها، وينفع نفسه، ويسلي وقته، وكان بعضنا يعير لإخوانه ما لديه من كتب ويستعير منهم، وكان معي كتابان حرصت على اصطحابهما، لأقرأهما بإمعان وأناة، وهما: الموافقات للشاطبي، وإعلام الموقعين لابن القيم، رحمهما الله، فلما عرفوا ذلك حرصوا على أن يحرمونا من هذه المتعة العقلية التي لا تكلفهم شيئًا، ولا ترهقهم عسرًا.

والذين جربوا هذه السجون، يعلمون أن الوقت فيها يمر بطيئًا بطيئًا، ولا بطء السلحفاة، وكدنا نصدق ما يقوله الشعراء العاشقون: أن ساعته شهر، وليلته دهر. وهذا أمر جربه الناس في حياتهم وعبروا عنه في نثرهم وشعرهم، حتى قال الشاعر:  وأيام الهموم مقصّصات  **  وأيام السرور تطير طيرًا

فلا غرو أن اصطحبت معي بعض الكتب المهمة آملًا أن أجد الفرصة لقراءتها قراءة متأنية ولا سيما أني كنت معتقدًا أن الاعتقال سيطول وأن ستكون لدينا أوقات فراغ طويلة مملة، وخير ما يُشغل به مثل هذا الوقت: القراءة، وقد قال أبو الطيب :  أعز مكان في الدنيا سرج سابح  **   وخير جليس في الزمان كتاب

وروت كتب الأدب أن أحد الأمراء أرسل أحد العلماء، يطلب زيارته فقال لرسول الأمير: إني مشغول بلقاء بعض الحكام والأدباء، فإذا فرغت منهم جئت الى الأمير، فرجع الرسول الى الأمير، وأبلغه ما قاله العالم، ولكنه قال له: إنه لم يحلظ عنده أحدًا، لا من الحكماء ولا من غيرهم، وعجب الأمير من ذلك: كيف يكذب مثل هذا العالم الكبير؟!

وبعد برهة جاء العالم، وسلم على الأمير، وذكر له ما بلغه رسوله من اعتذار، ثم قال له: ولكن رسولي لم يرَ عندك أحداً؟! قال له: أيها الأمير، إن رسولك نظر بعين بصره، ولو نظر بعين بصيرته لرأى هؤلاء العلماء والأدباء والحكماء في الكتب التي كانت أمامي! إن هؤلاء ليسوا موتى كما يظن الناس، إنهم أحياء موجودون في هذه الكتب بآرائهم وأقوالهم، وهم الذين قال فيهم الشاعر:

لنا جلساء ما نمل حديثهم  **  ألبّاء مأمونون غيبًا ومشهدًا

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى  **  وفضلًا وآدابًا ورأيًا مسددًا

بلا ريبة تخشى ولا سوء عشرة  **  ولا نتقي منهم لسانًا ولا يدًا

فإن قلت: أموات، فلست بكاذب  **  وإن قلت: أحياءً: فلا مفندًا

فقال الأمير للعالم: صدقت وأحسنت.

وكنا نعلم أن الأشهر الأولى لن تتاح لنا فيها القراءة؛ لأن الجو فيها ملتهب شديد السخونة، والتعذيب على قدم وساق، والسياط تأكل اللحم وتشرب الدم، والأدوات الحديدية الأخرى المستوردة من النازية والشيوعية تعمل عملها في الأجساد والنفوس، ولكن الساخن لن يظل ساخنا أبد الدهر، لابد له أن يبرد، ولابد للقائمين على التعذيب أن يملوا، ولابد من وقت يسود فيه الهدوء .

وهنا تحلو القراءة والأنس بالكتب، وهذا ما كان، فقد أقبلنا على ما معنا من الكتب نلتهمها، وقد يستعير بعضنا من بعض ما عندهم، تعميمًا للنفع، ولكن الزبانية الذين يشرفون علينا كانوا لنا بالمرصاد، فقد استكثروا علينا هذه المتعة الفكرية، والسعادة الروحية التي عبر عنها أحد الأئمة حين سُئل: فيم سعادتك؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحًا، وشبهة تتضاءل افتضاح!

وسرعان ما فتشوا الزنازين وأخرجوا كل ما فيها من كتب وأخذوها - ما عدوا المصاحف - أخذوها منا، وكأنما أخذوا قطعة من جلودنا، وتذكرنا قول سلفنا: العلم ما طوته الصدور وليس ما حوته السطور، وقول أحد الحكماء: العلم ما يدخل معك الحمام، أي ما في رأسك وصدرك، وقال الشاعر :

علمي معي حيثما يممت ينفعني  **  قلبي وعاء له لا بطـن صنـدوق

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي  **  أو كنت في السوق كان العلم في السوق

ولهذا حذَّر الأولون من الاعتماد على الكتب دون الحفظ، وفي ذلك قال الشاعر :

عليك بالحفظ بعد الجمع في كتب  **  فإن للكتب آفات تفرقها

الماء يغرقها والنار تحرقها  **  والفأر تخرقها واللص يسرقها

ونسي الشاعر أمرًا خامسًا وهو: أن السلطة تصادرها

إحراق المصاحف

ولما أخذوا منا الكتب بقيت معنا المصاحف، فيكاد كل واحد من الإخوان يحمل معه مصحفًا، يقرأ فيه ورده اليومي وما تيسر من كتاب الله؛ ولهذا لما أخذوا منا الكتب وضعنا همنا في تلاوة القرآن وحفظه، ولا تكاد تخلو زنزانة من أخ يحسن التلاوة، ويعرف أحكام التجويد، يتقرب إلى الله تعالى بتعليم إخوانه ما تعلمه، وفي حديث البخاري عن عثمان مرفوعًا: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، ولكن البسيوني وجنده انتبهوا لهذا الأمر، ووجدوا الزنازين تدوي بالقرآن كدوي النحل، وأن القرآن أصبح للإخوان أنيس وحشتهم، وربيع قلوبهم، ونور صدورهم، وجلاء أحزانهم، فغاظ ذلك البسيوني كل الغيظ، وكان ممن قال الله في مثله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر:45)..

فأمر حمزة جنوده أن يجمعوا المصاحف ـ كل المصاحف ـ من المعتقلين، ودخلوا الزنازين يفتشونها خشية أن يكون أحدهم خبأ مصحفًا، ثم جمع القائد الهمام عددًا كبيرًا من هذه المصاحف في ساحة السجن، وصب عليها البترول وأشعل فيها النار قائلًا: حتى يبطّلوا زنّ!! {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (البروج:4-8).

وقد قلت في النونية:

يا عصبة "الباستيل" دونكمُ، فلن  **  آسى على الإغلاق و التأمين

سدوا على الباب كي أخلو إلى  **  كتبي فلي في الكتب خير خدين

وخذوا الكتاب فإن أنسى مصحفي  **  أتلوه بالترتيل والتلحين

وخذوا المصاحف، إن بين جوانحي  **  قلبًا بنور يقينه يهديني

الله أسعدني بظل عقيدتي  **  أفيستطيع الخلق أن يشقوني؟!

تكديرات مستمرة

وفي بعض الأوقات فرضوا على المعتقلين إذا فتحوا عليهم الزنازين أن يقوموا وقوفًا، يديروا وجوههم إلى الحائط، ويرفعوا أيديهم، ويلصقوها بالجدار، وأي معتقل تلكأ في ذلك فجزاؤه أن يضرب على يديه بما في أيدي الجنود من عصي هي في حقيقتها خشب غليظ، وقد أخذت حظي من هذا الضرب في أحد الأيام.

وكنا نصلي جماعة، ونقرأ القرآن داخل الزنزانة، ولكن بصوت لا يخرج من الزنزانة، حتى لا يسمعونا، ونحن نتلو القرآن، وإلا فالويل لنا جميعًا. وكانوا يمرون أحيانًا، ويقولون: تمام، فيرد النزلاء، قائلين: تمام يا افندم. وكانوا إذا مروا ونحن في الصلاة وقالوا: تمام، رد واحد منا أو أكثر فقال: تمام يا افندم.

وكانوا يتصيدون أي غلطة لأي معتقل، لينزلوا به أشد العقوبة. وهي في الحقيقة ليست غلطة إلا في نظرهم ومذهبهم، فقد ضبطوا واحدًا من المعتقلين يستحم داخل المرحاض، حيث أصابته جنابة، فانهالوا عليه ضربًا، وعادة الإخوان في مثل هذه الحالة يأخذون برخصة التيمم.

ونزل أحدهم من الدور الثالث، وهو يحمل "قصرية البول" التي يبول فيها المعتقلون ليلًا ثم يغسلونها في النهار ليملئوها ماء يشربون منه، إذ كانت قصرية البول مليئة، فتساقط منها شيء من البول على السلم، فما كان من العسكري إلا أن أمر الأخ أن يلحس السلم حتى ينظفه!

وكان من وسائل التكدير والإيذاء: أن يجمع المعتقلون في ساحة السجن، فيوقفوا قيامًا على أرجلهم مدة طويلة في هجير الصيف، دون أن يسمح لهم بالتحرك يمنة أو يسرة، فيسقط بعضهم إعياء، ويسقط غيرهم إغماء. ويظلون هكذا ربما ساعتين أو ثلاثًا حتى يتفضلوا عليهم، فيصرفوهم إلى زنازينهم.

وأحيانًا يؤمر المعتقلون بالقيام والقعود ثلاثين أو أربعين مرة، وهذه تحتاج إلى ركب قوية، والحمد لله، فقد كنا شبابًا، وكنا متمرنين على هذه الحركات في شُعَب الإخوان وفي رحلاتهم، فكنت أؤديها بيسر وسهولة، ولكني كنت أجدني في غاية الإشفاق على الإخوة كبار السن والمرضى، والذين يشكون من البدانة والسمن، ممن لا يستطيعون القيام بهذه الحركات، ولا يقدرون عليها، والجنود بكرابيجهم لا يرحمون شيخًا ولا ضعيفًا ولا مريضًا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وكان النداء على أي اسم مطلوب يكوِّن مشكلة، ويحدث بلبلة في السجن، فقد كان المسئولون في مكاتب الإدارة في السجن يطلبون اسمًا معينًا، فيرد عليهم العسكري أو "الأومباشي" المكلَّف بتلقي المكالمات، فيسمعه على غير ما يمليه المسئول، وقد يكنيه غير ما يسمعه، وربما يقرأه على غير ما كتبه، وقد يمليه على عسكري آخر لينادي عليه في ساحة السجن فيكون النداء شيئا آخر. وهذا يذكرني بقول الشاعر: أقول له: زيد فيسمع: خالدًا  **  ويكنيه بكرًا ويقرأه عمرًا!

ولذلك كثيرًا ما ينادى على الاسم بطريقة تحتمل عدة أسماء مثل: مد عبدالله الـ .. اوي ! ، ولا تعرف هل المطلوب اسمه : محمد أو أحمد أو حامد أو حمد ، وهل هو الشرقاوي أو الغرباوي أو المنشاوي أو السعداوي ، فليس شيء منها بيننا. وكثيرا ما يتجمع عدد من هؤلاء المحتملين في ساحة السجن ، ولا يُدرى من المطلوب منهم ، ومن حضر ولم يكن هو المطلوب تعرض للإيذاء ، وإذا لم يحضر وكان هو المطلوب تعرض للإيذاء أكثر .

وصايا بسيونية باستمرار الأذية

وكانت وصايا حمزة البسيوني لزبانيته: ألا يدعونا ننعم بالهدوء، وراحة البال، وطيب الخاطر، وأن يجتهدوا في التفتيش عن أسباب (التكدير) والإيذاء لنا، فإن لم يجدوا سببا اختلقوه اختلاقا، على طريقة الذئب مع الحمل، حين قال له: قد عكرت علي الماء، والذئب في الأعلى، والحمل في الأسفل!

من ذلك أن بعض الإخوة احتاجوا إلى الماء لضرورة الشرب، فقرعوا باب الزنزانة ليسمعهم الحراس، ويطلبوا منهم أن يمدوهم بقليل من الماء، الذي جعل الله فيه كل شيء حي. وكان هذا سببا كافيا لإشعال معركة مع هؤلاء الإخوة، ومع الدور الذي كانوا فيه، وقد كانوا في الدور الأرضي. ولا أنسى المعركة التي نصبت للأخ الصبور البطل محمد حلمي مؤمن من إخوان دمياط.

الضرب الوحشي للأخ محمد حلمي مؤمن

وأنا أنقل هذه الواقعة من كتاب (الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ) للأستاذ محمود عبد الحليم الجزء الثالث حيث قال: نعرض هنا لأخ كريم كان إذ ذاك في مقتبل شبابه، وقد هاله ما يلقاه كرام الإخوان على يد هؤلاء الوحوش الآدمية التي تسمى عساكر.. رأى الأخ محمد مؤمن وهو من إخوان دمياط منظرا حز في نفسه، ولذع كبده.. وكثر وتكرر هذا المنظر أمامه، فهانت عليه الحياة، وأسر في نفسه أن يمنع تكرار هذا المنظر، أو يموت دونه.

والمنظر المثير يتلخص في أن يأمر العساكر أن يصفع الإخوان بعضهم وجوه بعض وبطريقة قاسية، وإلا أذاقهم هؤلاء العساكر ألوان العذاب. وطوى الأخ محمد جوانحه على هذا العزم. وطرأ طارئ جديد زاد نار هذا العزم اشتعالا، ذلك أن إدارة السجن منعت الماء عن الإخوان، واتخذت من الإجراءات التعسفية ما يكاد يصل إلى حد منعهم من قضاء حاجتهم في دورة المياه.

وفي خلال هذه المأساة استطاع أحد الإخوان ـ وهو الأخ حسن عبد الفتاح من إخوان كرداسة وأحد زملاء الأخ محمد مؤمن في الزنزانة ـ أن يحصل على قليل من الماء، وبينما هو في دورة المياه ضبطه أحد العساكر فأخذ منه الماء، وأخرج زملاءه في الزنزانة، وأمرهم بصفعه في وجهه. وتصادف أن كان الأخ محمد هو أول الصف، فامتنع عن تنفيذ الأمر.. فهجم عليه العسكري ليصفعه ويضربه كالمعتاد، فقاومه الأخ محمد مقاومة شديدة، انتهت بوقوع العسكري على الأرض.. وكان في نية الأخ محمد أن يقتل العسكري دفاعا عن كرامة الإنسانية أو حتى الآدمية، ولكن الإخوان حالوا بينه وبين العسكري.. فما كان من العساكر الآخرين إلا أن اجتمعوا على الأخ محمد لينتقموا منه؛ فجاءوا به إلى السارية، وأردوا أن يربطوه إليها بحبل، فرفض الأخ محمد، وقال لهم: إنني سأحتضن السارية دون حبل، واضربوني كما تشاءون.

واحتضن الأخ محمد مؤمن السارية، وجاء كل عسكري بكل ما يضرب به من كرابيج وقطع من الخشب وعصي، وظلوا يضربونه حتى تعبوا جميعا.. فألقوا ما بأيديهم متعجبين ذاهلين.. والذي أذهلهم وأدخل اليأس في نفوسهم هو أن الأخ محمد ـ مع كل هذا الضرب القاتل ـ لم يتأوه، ولم ينبس ببنت شفة، وهو أمر لا عهد لهم به.. بل إننا نحن الإخوان كنا في دهشة من هذا الصبر العجيب.. حتى إننا سألنا الأخ محمد بعد ذلك كيف استطاع أن يصبر على هذا الضرب المميت دون أن يصرخ أو يتأوه؟ فقال: إن الذي أقدم على ما أقدم عليه وهو ينتظر الموت؛ إذا جاء ما هو دون الموت، فإنه لا يكاد يحس له بألم.

واعتقد هؤلاء العساكر ـ بسذاجتهم ـ أن الأخ محمد وليّ من أولياء الله؛ ولهذا لم يحس بألم الضرب، واعتقدوا أنهم إذا لم يعتذروا إليه، ويطلبوا منه الصفح عنهم، فسيصيبهم شر مستطير. فذهبوا إليه في الزنزانة التي كان ملقي بها يتشحط في دمه، واعتذروا إليه، وأحضروا له الأخوين: الدكتور أحمد الملط والدكتور كامل سليم، فضمدا جروحه. أ.هـ

وأود أن أعلق على كلام الأخ محمود عبد الحليم على اعتقاد الجنود في الأخ محمد حلمي مؤمن ـ لسذاجتهم ـ أنه ولي من أولياء الله الصالحين، فأقول: بل هو بالعقل ولي من أولياء الله بالمعنى القرآني، لا بالمعنى الخرافي، الشائع لدى المسلمين، وهو أن كل مؤمن تقي هو ولي من أولياء الله، فلم لا يكون الأخ مؤمن من أولياء الله تعالى، وقد رضي بمثوبة الله غاية، وبالقرآن دستورا ومنهاجا، وبالرسول قدوة وزعيما، وبالجهاد سبيلا، وثبت على ذلك، وصبر على ما يلقاه في سبيل الله؟! وقد قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (يونس:62-63)، فكل مؤمن تقي هو من أولياء الله تعالى ، فَلِمَ لا يكون الأخ مؤمن من أولياء الله تعالى، وقد رضي بمثوبة الله غاية وبالقرآن دستورا ومنهاجا وبالرسول قدوة وزعيما وبالجهاد سبيلا وثبت على ذلك وصبر على ما يلقاه في سبيل الله .

وهكذا كلما مرت فترة هدوء وحمدنا الله فيها على السلامة، سرعان ما يخترعون لنا من الأسباب، ما يبقي النار حية متأججة، وهم أبدا يلقون عليها بالوقود، حتى لا تخبو وتستحيل إلى رماد.

أجهزة تمويل الأسر

وكان مما ينفخ في الجمر فيتوقد: القبض على بعض الإخوة الذين يساعدون أسر المعتقلين، ويطلقون على كل مجموعة منهم اسم (جهاز التمويل) أي تمويل الأسر، حتى لا تموت من الجوع والعري والمرض والحاجة.

فقد رسموا سياستهم على إذلال هذه الأسر، حتى تقهرها الحاجة، ويكسر أنفها الجوع، والجوع كافر، ويتعرض الأطفال للضياع، والنساء لمد الأيدي، وكاد الفقر أن يكون كفرا. ولا عجب أن كان يزعجهم كل الإزعاج أن يجدوا من شباب الإخوان من نذر نفسه ليأخذ المساعدات من أهل الخير من الإخوان، ويوصلها لهذه الأسر المتعففة، فكانوا يأخذون المحسنين إذا عرفوهم، والمحصلين للمال من الشباب، ومعظمهم من طلاب الجامعات.

وفي كل عدة أشهر نستقبل فوجا من هؤلاء، الذين كنا نسمع صراخهم وهم يعذبون، في مكاتب التحقيق، وصوت أم كلثوم يغطي على صيحات العذاب والآلام بأغنية يذيعها ميكروفون السجن، وتتكرر كل ليلة، وهي أغنية (شمس الأصيل ذهبت روس النخيل يا نيل. تحفة ومتصورة في صفحتك يا جميل) . ولقد كرهت هذه الأغنية لكثرة ما كرروها في السجن، وكلما سمعتها ـ حتى اليوم ـ تذكرت آهات المعذبين هناك.

صورة عبد الناصر في ساحة السجن

ومن غرائب الطرائف: أن يكلف أحد الإخوان الرسامين البارعين في رسم الصور الشخصية، أن يرسم بيده صورة زيتية كبيرة على جدار السجن الحربي بأمر حمزة البسيوني، وأن يكتب تحت هذه الصورة عبارة عبد الناصر الشهيرة: ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد!

وكانت هذه الكلمة موضع السخرية والتنكيت من الإخوان، فهذا يقول: كان الواجب أن يكتبوا تحت الصورة: ارفع رجلك يا أخي فأنت في عهد الكرباج! وآخر يقول: ارفع رأسك يا أخي لنقطعها، فنحن في عهد الإطاحة بالرءوس! إلى آخر هذه التعليقات التي يتقنها المصريون؛ فهم شعب الفكاهة والنكتة حقا.

حتى إني اقترحت يومًا أن يتتبع أحد الباحثين النكات السياسية التي قيلت منذ أول عهد الثورة حتى اليوم، منذ عهد عبد الناصر والسادات ومبارك، فسيجد كمًّا هائلاً، يمكن أن يكون مجالاً لدراسات أدبية وفلكلورية ونفسية وسياسية واجتماعية. وقد بلغني أن بعضهم جمع شيئًا غير قليل في ذلك.

طعام السجن

كان طعامنا في السجن ـ كما أشرت من قبل ـ قليلاً من حيث الكمية، رديئا من حيث الكيفية. كان فطورنا غالبا من العدس المليء بالحصى والرمل، ولا أدري: أذلك لرداءة نوع العدس أم هم يتعمدون إلقاء الرمل فيه، ليحرمونا لذة الطعام؟

وأحيانا يأتون لنا بالفول بدل العدس، ولا أسوأ من هذا إلا هذا. فالسوس يطفو على سطحه بكثرة تلفت النظر، حتى قال بعض الظرفاء من إخواننا: هذا لا يقال له: فول مسوِّس، بل سوس مفوِّل! فصارت مثلا. وفي الغَداء كانت الفاصوليا الجافة مع الأرز، هي الطعام اليومي المقرر إجباريا علينا. وقد كانت الفاصوليا هي طعامنا اليومي حينما اعتقلنا في الطور سنة 1949 في عهد الملكية.

ومن الطريف هنا أني حينما تزوجت قلت لامرأتي: هناك طعام عندي مخزون منه يكفيني لنصف قرن، فلا أريد أن تطبخيه أبدا؟ قالت: ما هو؟ قلت لها: الفاصوليا الناشفة. وفعلا، نفذت ما اتفقنا عليه، ولا أحسب أننا طبخنا هذه الفاصولية أو دخلت بيتنا إلى يومنا هذا! وفي العشاء كانوا يأتوننا بطعام لعله من بعض الخضار المطهو، أو من شيء لا نعلمه.

وكل زنزانة يغرف لها نصيبها في صحن متوسط الحجم، أو قل: في صحنين، صحن للفاصوليا أو الخضار، وصحن للأرز. أما خبزهم فكان عجيبا حقا، لا ندري من أي مادة عجنوه وخبزوه، حتى نحسبه أحيانا كأنما صنع من مادة الإسمنت.

ومع هذا، كان هذا الطعام يؤكل ولا يبقى منه شيء؛ لأن قلته وعدم كفايته جعلته مرغوبا، ومن أكل أي طعام وهو جائع شعر بلذته، وإن لم يكن من الطيبات المستلذات. وقد قيل لبضعهم: أي الطعام أطيب؟ قال: الجوع أعلم. وأكل أعرابي يوما على مائدة الحجاج فقال له الحجاج: كل، إنه طعام طيب. قال: والله ما طيبه خبازك ولا طاهيك، ولكن طيبه الجوع والعافية!

ولقد مر علينا شهر رمضان ـ وكان في عز الصيف ـ ونحن على هذا الحال من التقشف والإقلال، وقد مر بنا ـ بحمد الله ـ خفيفا ظريفا، رقيقا كنسمات الفجر، لا أذكر أننا شكونا فيه جوعا أو عطشا، رغم ما هو معلوم من طول أيام الصيف وشدتها، ولم نشعر بأنَّا فقدنا شيئا كبيرا حين مر علينا رمضان بلا تمر ولا زبيب ولا تين، ولا قمر الدين، ولا كنافة ولا قطائف. وأشد من هذا كله وأقسى أننا قضيناه بعيدًا عن أسرنا وأهلينا، ولا نستطيع أن نصلي التراويح جماعة في زنازيننا، فهذا محظور. واستعضنا عن طيب المأكولات بطيب الأذكار والدعوات، وبتلاوة ما نحفظ من القرآن بعد أن أخذوا منا المصاحف.

ومن الذكريات الأليمة في هذا الرمضان: مرور حمزة البسيوني علينا فيه، بوجهه الأغبر، وشعره الأشعث، وجبينه المقطب، وخده المشجوج، وشاربه المتهدل، ولسانه الذي يسيل بالكلمات البذيئة سيلا، كأنما لا يعرف من اللغة غير السباب والشتم وسوء الأدب، وقد كان يوم مروره ـ كما هو دائما ـ يوما أسود، لأنه لا يصدر عنه إلا الأذى، كما لا يصدر عن العقرب إلا أن تلدغ وتؤذي، ولا عن الأفعى إلا أن تعض وتنفث السم، وكل إناء بالذي فيه ينضح. ونحمد الله تعالى أننا لم نر وجهه في رمضان كله إلا هذا اليوم، لا أرانا الله وجهه!

وقد عرضت لطعامنا في السجن في النونية، فكان مما قلت في ذلك:

فطورنا عدس مزين بالحصى  **  إن الحصى فرض على التعيين

قد عفته حتى اسمه و حروفه  **  من عينه أو داله و السين

وغذاؤنا فاصولية ضاقت بها  **  نفسي، فرؤية صحنها تؤذيني

وعشاؤنا شيء يحيرك اسمه  **  وكأنما صنعوه من غسلين

لا طعم فيه و لا غذاء و إنما  **  يحلو لنا من قلة التموين

طبق يُكال لسبعة أو نصفه  **  وعلي أن أرضى و قد ظلمون

الماء والنظافة في السجن

كان الماء في السجن إحدى المشكلات العويصة، فالسجن ـ كما ذكرنا ـ لم يهيأ ليستقبل هذا العدد الضخم من النزلاء، الذي يزيد على عشرة أضعاف طاقته العددية، فلا يكفي الماء الواصل إلى السجن للشرب والطبخ والطهارة، وغسل الثياب، وغيرها. مهما قتر المقترون في استخدام المياه إلى الحد الأدنى.

وكنا نقضي مددا طويلة دون استحمام، كما تبقى ثيابنا كذلك دون غسل وتنظيف، وكانوا في أول الأمر يتلذذون بإبقائنا دون نظافة في أجسامنا وثيابنا، تشفيا فينا، وانتقاما منا، وبخاصة أن ظروف السجن في أشهره الأولى لم تكن تسمح لنا بذلك، فكان كل معتقل لا يكاد يحصل على خمس دقائق لدخوله المرحاض ووضوئه، وكانوا يدخلون على من اضطرته ظروفه أن يتأخر قليلا في المرحاض ليخرجوه منه بالكرباج، قائلين له: إنك لست في بيت أبيك وأمك، حتى تأخذ راحتك! وذلك ليخرج من أضلاع السجن، ليفسح المجال لنزلاء الضلع الآخر. على أنه لا يوجد من الماء ما يكفي لأن تأخذ راحتك في الطهارة والوضوء.

وفي يوم من الأيام كان بعض المعتقلين يحفرون في ساحة السجن، لا أدري لأي سبب، وإذا بالماء يتفجر من تحت أقدامهم، حتى فوجئ السجانون بهذه العين الثرة التي ساقها الله إلى المعتقلين وهم أحوج ما يكونون إليها، حتى قال أمين جاويش السجن: يا أولاد الـ … رزقكم تحت رجليكم. واتخذت الإجراءات للإفادة منها.

وكانت هذه البئر أو هذه العين مِنَّة من الله تعالى على المعتقلين، ليستطيعوا أن يشربوا ويرتووا، وأن يتطهروا ويغتسلوا، وأن يغسلوا ثيابهم ويتنظفوا، وكانوا يسمحون لنا في كل أسبوع مرة لمدة قليلة للنزول لغسيل الملابس والاستحمام إن أمكن ذلك. وكانوا يعطوننا قطعا رديئة من الصابون مصنوعة خصيصا لعساكر الجيش، قلما تصدر منها رغوة.

تمزق الملابس

وكان الكثير منا لم يحمل معه ملابس كافية، فلم نكن نقدر أن الزمن سيطول بنا، ولم نكن نحسب أننا سنمنع من زيارة أهلينا وأقاربنا، وبعضنا أُخذ من عمله أو منزله أو من الطريق، على أساس أنه مطلوب لخمس دقائق، ولم يصْدُقوه فينبئوه بما نووه وصمموا عليه من سجن طويل.

ولهذا بدأت ثياب الإخوان تتخرق وتبلى، وطفق الإخوان يرقعون ما معهم من ملابس، وهذا يحتاج إلى إبرة وخيط ورقعة وصنعة أيضا، فليس كلنا يحسن ترقيع ملابسه، وأنا من هؤلاء، ولم يعد منظرا غريبا أو شاذا أن تجد أخا يلبس جلبابا مرقوعا، كما كان سيدنا عمر رضي الله عنه. بل ذكر الأخ محمود عبد الحليم أنه كان في منامته (بيجامته) أكثر من ثلاثين رقعة.

كنت شخصيًا ممن حمل معه من الملابس ما يكفي لسنة على الأكثر، وكانت من الملابس المستعملة لا الجديدة، وبعد سنة بدأ البلى يظهر على الثياب، وخصوصا مع بدء الشتاء الثاني في السجن، وقد رآني بعض الإخوة الأصدقاء من جيران زنزانتنا أنتفض من البرد، فأسعفني وأتحفني بجلباب من عنده من الكستور المصري المحلاوي، ذلكم هو الأخ محمد كمال إبراهيم، وكان الأخ كمال أسمن مني بكثير، فكان ثوبه فضفاضا علي، ولكن المطلوب في تلك الفترة هو الستر لا التجميل.