مع هذا كله وما هو أكثر منه مما لم يذكر؛ كانت روح الإخوان عالية، ومعنوياتهم قوية، وإيمانهم راسخًا، وثقتهم بالله لم تضعف أبدًا، وأملهم في فرج الله ونصره لم تنقطع خيوطه من قلوبهم يومًا. كانوا يؤمنون بأن هذه سُنة أصحاب الدعوات، وحمَلة الرسالات، وأن الطريق إلى النصر في الدنيا، وإلى الجنة في الآخرة؛ مفروش بالأشواك، مضرج بالدماء، مليء بجثث الشهداء، وأن الأمر كما قال ابن القيم: يا مخنث العزم! الطريق تعب فيه آدم، وناح نوح، وأُلقي في النار إبراهيم، وتعرض للذبح إسماعيل، وأوذي فيه موسى، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح فيه السيد الحصور يحيى… إلى آخر ما قال.

وحسبنا ما ذكره القرآن: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214). كان عامة الإخوان يقابلون هذه الأهوال بصدور منشرحة، وقلوب منفتحة، وثغور مبتسمة، فتراهم داخل الزنازين يضحكون وينكتون، ويرددون المُلَحَ والطرائف، ويتفننون في ذلك مما لا يخطر على بال.

فهناك الشعراء الذين ينشئون القصائد، مثل قصيدتي "النونية"، وهناك الزجالون الذين يؤلفون الأزجال، مثل زجل أحد الإخوة: اللي ما شافش السجن الحربي   مهما اتربّى ما تربّاش. وهناك الذين يقلبون الأغنيات المشهورة لتصبح لائقة بالحال، ويتغنون بها، مثل أحد الإخوة الذي كان يقلد أغنية أم كلثوم الشهيرة: يا ظالمني. وكان يغير عباراتها وينشدها بصوته العذب، فيقول:

وتضربني وتؤذيني  **  وتنفخني وتكويني

وتزعل لما أقول لك  **  يوم: يا ظالمني

وكان قليل من الإخوة هم الذين قصرت طاقتهم عن احتمال هذه الألوان من الأذى والعذاب البدني والنفسي. وهم في هذا معذورون؛ لأن هذا فوق طاقتهم، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. والشاعر يقول:

ما كلَّف الله نفسًا فوق طاقتها  **  ولا تجود يد إلا بما تجد

حكى لي الأخ الشيخ عبد التواب هيكل وكان رفيقنا في السجن، كما كان زميلي في كلية أصول الدين؛ أن أحد الإخوان في زنزانتهم كان رجلًا رقيقًا جدًا، مرهف الإحساس، لا يتحمل الضرب بحال من الأحوال، إذا وقع له، ويرتعد خوفًا منه قبل أن يقع، وكان رفقاؤه من الإخوان في زنزانة يحاولون تصبيره وتسكينه والتخفيف عنه، فيستجيب لهم، ولكن طبيعته تغلبه، حتى إنه نذر على نفسه نذرًا لله تعالى إذا خرج من السجن حيًا أن يضرب أبناءه بالسياط حتى يتعودوا الضرب، ويتحملوا ألمه، ولا يشق عليهم، كما شق عليه، إذا ابتلوا بمثل ما ابتلي أبوهم.

وكالة "أبشروا"

من المعروف أن السجون من قديم مظنة لكثرة الرؤى والأحلام من نزلاء السجن، كما أنهم يهتمون بها وبالحديث عنها وبتعبيرها ومعرفة ما تؤول إليه من خير أو شر، وقد ذكرنا فيما سبق قول الشاعر عن المسجون معبرًا عن نفسيته ونفسية رفقائه من المساجين:

ونفرح بالرؤيا، فجل حديثنا  **  إذا نحن أصبحنا: الحديث عن الرؤيا

ولقد ذكر لنا القرآن الكريم في قصة يوسف حكاية الفتيين اللذين دخلا مع السجن ورأى كل منهما رؤيا، قصَّها على يوسف، ونشداه تأويلها لهما، لما لمسا من فضله وإحسانه ومكارم أخلاقه. يقول تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:36).

وقد نبأهما بتأويل ما رآياه، ولكن بعد أن أراهما من فضل الله عليه، ثم دعاهما إلى توحيد الله تعالى والإيمان به، ونبذ الشرك؛ ولهذا لا نعجب إذا وجدنا في إخواننا من نزلاء السجن الحربي فئة مشغولة أبدًا بالأحلام والرؤى، وفي كل صباح عند النزول إلى دورات المياه، تسأل الإخوان عما رأوا في تلك الليلة، وقد سماهم الأستاذ عبد العزيز كامل جماعة القسم الليلي؛ لأن كل عملهم في الليل.

وقد وجدوا كثيرًا من الإخوة الذين لا تكاد تخلو لياليهم من منامات. ومن المعلوم شرعًا أن ما يراه الإنسان في نومه بعضها حديث نفس، كما قيل: الجوعان يحلم أنه في سوق العيش. وبعضها رؤى صادقة، وبعضها من الشيطان.

وبعض الرؤى الصادقة يكون صريحًا ناطقًا، وهو قليل، وأكثرها يكون رموزًا تحتاج إلى تأويل، كرؤيا صاحبي يوسف، ورؤيا ملك مصر في عهد يوسف عليه السلام. وصدق الرؤيا لا يدل على إيمان صاحبها ولا تقواه، فقد صدقت رؤيا الفتيين صاحبي يوسف، وكانا مشركين، وصدقت رؤيا الملك في البقرات السمان، والبقرات العجاف، وكان الملك مشركًا.

المهم أن هذه المجموعة من الإخوان ـ وعلى رأسهم الأخ عبد الفتاح الشريف من إخوان دمنهور ـ يرصدون في كل صباح الرؤى من الإخوان، ويؤولونها على ما يحبون دائمًا، تأويلًا يبشر بالنصر، ويؤذن بالفرج القريب، وبهلاك الظالمين، وذهاب سلطانهم.

فإذا رأى أحدهم في المنام شمسًا تبزع وتشرق؛ كان تأويلها أن شمس الإسلام ـ أو شمس الإخوان ـ قادمة، وستملأ الدنيا نورًا، وإذا رأى أحدهم في منامه شمسًا تغرب؛ قالوا: هذه شمس الأعداء، أو شمس الثورة، توشك أن تغرب وتغيب.

وإذا رأوا أرضًا خضراء نضرة؛ قالوا: أبشروا، هذه أرضنا نحن الإخوان، وإذا رأوا أرضًا أصبح نباتها هشيمًا تذروه الرياح؛ قالوا: أبشروا هذه أرض عبد الناصر وجماعته؛ ولهذا أطلق الإخوان على هؤلاء الإخوة: وكالة "أبشروا" فإذا كانت وكالات الأنباء تذيع الأخبار، فهذه الوكالة تذيع الأحلام المبشرات.

لجنة الفرفشة

وإذا كانت جماعة "أبشروا" مهمتها نشر الأمل بين الإخوان عن طريق الرؤى والمنامات؛ فقد وُجدت جماعة بين الإخوان تشيع الرضا وسكينة النفس بين الإخوان عن طريق نشر النكت والفكاهات والمداعبات الإخوانية؛ حتى لا يغلب جو الكآبة على السجن.

مثل نكتة أن بعضهم ضبطه شرطي، وهو يقول: الله يخرب بيتك يا عبد الجبار، فقبض عليه وقدمه إلى الضابط، فسأله: ماذا فعل؟ قال: يا سيادة الضابط، أخطأ في اسم رئيس الجمهورية! ومثل نكتة أن بعضهم قُبض عليه وهو يشتم الحكومة الظالمة، فلما سُئل عن ذلك قال: أنا أقصد حكومة المجر، فقال له: تريد أن تضحك علينا، وهل فيه حكومة ظالمة إلا حكومتنا؟!

ومثل نكتة أن الحكومة كانت تقبض على الجِمال، فوُجد حمار يعدو ليختبئ من رجال الحكومة، فقيل له: لماذا تختبئ وإنما تأخذ الحكومة صنف الجمال، وأنت من صنف الحمير؟ فقال: حتى أثبت لهم أني حمار ولست جملًا، يكون قد ضاع نصف عمري! كانت إشاعة هذه النكات وأمثالها من عمل جماعة من الإخوان كنت منهم، سميناها: "جماعة الفرفشة".

وكان قد ظهرت شائعة بين المعتقلين، وهي أن ما نزل بالإخوان من أهوال ومحن شداد؛ قد أفقدتهم القدرة على الإنجاب، وأنهم لن يقدروا على متطلبات الزواج، وإذا تزوجوا فلن يقدروا على إنجاب الأولاد؛ فاتخذت جماعة الفرفشة شعارات لها هي: تشجيع العزاب على الزواج، والمتزوجين على كثرة الإنتاج، والفرفشة حتى الإفراج!

الملحمة النونية.. سجل الآلام

كان الإخوة قد علموا من قبل أني أقول الشعر، وأن المحن تفجر الطاقة الشعرية عندي، وقد سمع منهم من سمع بعض شعري في معتقل الطور، مثل "مناجاة ليلة القدر"، ومنهم من سمع قصيدتي في ميدان السيدة زينب في القاهرة.

ولهذا كان بعضهم يلقاني في دورة المياه ويسألني: ألم تقل شيئًا في هذه المحنة؟ فأقول لهم: لا، لم يفض علي بشيء. وكانت السنة الأولى من الاعتقال جد قاسية، لا يكاد يجد المرء فيها فرصة، ليخلو إلى نفسه، ويناجي خواطره، والهول شديد، والسكين حامية، والنار موقدة، والمعركة منصوبة، فمن أين يصفو الفكر، ويفيض الخاطر، ويتدفق الشعر؟!

ولكن في أواخر سنة 1955، وبعد أن استقر بنا المقام في السجن، وهدأت الأحوال نسبيًا؛ بدأت خواطر الشعر تفيض عليّ فيضًا، وكان المشكل أني في حاجة إلى أن أكتبها حتى لا تتفلت مني، ولكن أنّى لي أن أكتب ولا قرطاس عندي ولا قلم؟ فقد أخذوا منا الأوراق والأقلام، وكل ما له علاقة بالعلم والثقافة والفكر.

ولهذا كان علي أن أقول الأبيات، وأرددها على من حولي حتى أحفظها، ثم إذا نزلنا إلى دورة المياه، رويتها للإخوة المشهورين بالحفظ، الذين يحفظون الأبيات من مرة أو مرتين، وفي مقدمتهم الأخ عبد الشفوق عبد الباري الشحات من طلبة المعهد الديني بدمياط، رحمه الله. وكذلك الأخ "علي" من إخوان المحلة من طلاب الأزهر، من قرية منية ششتا غياش بجوار قريتنا، والأخ فؤاد قنديل، والأخ مسعد زين العابدين سلامة، وكلاهما من طلبة الإخوان بطنطا، وآخرين من الإخوان.

وفي كل يوم أنشئ نحو عشرين أو ثلاثين بيتًا، وأعتمد في تثبيتها على الرواية الشفهية، كما كان يفعل العرب في الجاهلية غالبًا، فلم يَكتب فيهم إلا القليل، بل النادر، وكانوا يختزنون الأشعار في ذواكرهم. ولم أزل كذلك حتى اكتملت القصيدة، وزادت أبياتها على الثلاثمائة. وكان الإخوان يحفّظها بعضهم لبعض، فغدا رواتها عددًا يبلغ التواتر كما يقول العلماء، وإن كان أكثرهم كل منهم يحفظ جزءا منها لا كلها.

ونظرًا لاختلاف وقت التلقي، فربما اختلفت الرواية، واختلف الرواة في بعض الألفاظ، وتبدأ القصيدة بهذه الفقرة التي تصور كيف بدأت أنشئ القصيدة:

ثار القريض بخـاطري فـدعوني  **  أُفْضِي لكـم بفجائعي وشُجـوني

 فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى  **  والشعر عُودي عند عَزْف لُحوني

 كم قال صحبي: أين غَرّ قصائد  **  تُشْجِي القلوب بلحنها المحزون؟

 وتخلد الذكرى الأليمة للورى  **  تُتلى على الأجيال بعد قرون

 ما حيلتي والشعر فَيْض خواطر  **  ما دمت أبغيه ولا يبغيني؟!

 واليوم عاودني الملاك فهزني  **  طربًا إلى الإنشاد والتلحين

 ألهمتها عصماء تنبع من دمي  **  ويمدها قلبي وماء عيوني

 نونية والنون تحلو في فمي  **  أبدًا فكدت يقال لي: "ذو النون"

 صورت فيها ما استطعت بريشتي  **  وتركت للأيام ما يعييني

 ما همت فيها بالخيال فإن لي  **  بغرائب الأحداث ما يغنيني

 أحداث عهد عصابة حكموا بني  **  مصر بلا خلق ولا قانون

 أنست مظالمهم مظالم من خلوا  **  حتى ترحَّمنا على "نيرون!"

 حسبوا الزمان أصم أعمى عنهم  **  قد نوَّموه بخطبة وطنين

 ويراعة التاريخ تسخر منهم  **  وتقوم بالتسجيل والتدوين

 وكفى بربك للخليقة محصيًا  **  في لوحه وكتابه المكنون

التنقل بين الزنازين

وكان من أشد المحرمات علينا في السجن: أن يزور بعضنا بعضًا، ولو ضُبط أحدنا يفعل ذلك لعوقب هو وزنزانته، والزنزانة الأخرى عقوبة بليغة؛ فكنا لا نلتقي إلا في دورة المياه، ولكن دورة المياه لا يلتقي فيها إلا نزلاء ضلع واحد من الأضلاع الاثني عشر في السجن، فلا نلتقي بشكل جماعي إلا في تكدير عام، ينادى على الجميع لينزلوا في الساحة، ويقفوا في الشمس قيامًا على أقدامهم مددًا طويلة، فيسقط منهم من يسقط إغماء من طول الوقوف، وضعف الجسم من قلة الغذاء، أو من ضربة الشمس، ومع هذا كنا نجد في هذا التكدير العام فسحة يرى فيها بعضنا بعضًا، فكثيرًا ما يوجد عدد من الإخوة في السجن أو من الأقارب، أو من الأصدقاء المقربين، ولا يرى بعضهم بعضًا.

وعلى الرغم من هذا التضييق والتشديد؛ كنا ننتهز بعض الفرص، ليزور بعضنا بعضًا، وكنت أنا من أكثر الناس تنقلًا بين الزنازين، مع ما في ذلك من خطورة؛ لأن الإخوان كانوا يطلبونني ليسألوني في بعض النواحي الشرعية، وكانت الفرصة المناسبة للتنقل ما بين النزول إلى الدورة قبل الفجر، وما بين توزيع الفطور عند شروق الشمس، فيمكن لأحدنا أن ينتقل خلسة إلى الزنزانة الأخرى، وكلما كانت في الدور نفسه وفي الضلع نفسه كان الأمر أسهل.

وأذكر أني كدت أُكشف مرة، ولكن الله سلَّم، وذلك حين دخل أحد العساكر يطلب شيئًا معينًا؛ وهنا وقفت مع أهل الزنزانة كأني واحد منهم، ولم يلتفت العسكري للعدد. وكان مما يطلبه مني الإخوة أن أنشدهم ما تيسر من "النونية" فقد انتشر خبرها بين المعتقلين.

نزح بئر الصرف الصحي

ومما لا أنساه أن فُتحت الزنزانة في صباح يوم، وكان يوم جمعة، وأشار العسكري إليّ، وقال: تعال أنت، فسأله الإخوة: ماذا تريدون منه؟ قال: تنظيف "البكابورت". قالوا له: إنه لا يصلح لهذه المهمة، خد أحدنا مكانه، فهذا شيخنا وعالمنا. قال: لا، لا أريد غيره.

وذهبت معه إلى هذه البئر الذي سدته بعض الأوساخ والقاذورات، وكان لا بد من تسليكه، وقد وجدت هناك عددًا من الإخوة كأنهم انتقوهم انتقاءً، كلهم من الأطباء والمهندسين والمحامين، أذكر منهم الأخ أحمد حشاد "الدكتور العالم أحمد حشاد بعد ذلك".

وكنا نؤدي عملنا بهمة ونشاط، ونحن نضحك ونمزح، وماذا جرى؟ ذهبت وأنا يوسف القرضاوي، ورجعت وأنا يوسف القرضاوي! وشكر الله لإخواني الذين حرصوا على أن يعفوني من هذه المهمة الكريهة في نظرهم، فأُجروا بنيتهم، وإنما لكل امرئ ما نوى.

مرض الصدر

وكنت في السجن أدعو الله تعالى دائمًا أن يعافيني وإخواني من الأمراض كلها، وأن يمنحنا من فضله العفو والعافية، وهذا شأن المسلم في كل حين وكل حال، أن يسأل ربه العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة. ومن الأدعية المأثورة التي أرددها ولا أمل من ترديدها أبدا: "اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي. واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي".

ومن الأدعية المأثورة بين السجدتين في الصلاة: "اللهم اجبرني وارزقني وعافني"..

وفي القنوت الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت"..

ومن المأثور أيضًا: "اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت".

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من أمراض شتى مثل الجذام والبرص ويستعيذ من سيئ الأسقام.

وإذا كان هذا هو شأني ـ وشأن كل مسلم ـ في الأحوال العادية، ففي السجن الحربي يكون المرء أحوج إلى العافية وسلامة البدن من الأسقام؛  لعدم توافر الدواء، وقد لا يوجد الطبيب المختص، وإذا وُجد من الإخوة المعتقلين الطبيب المتخصص؛ فقد لا يمكنك الوصول إليه.

وقد أصيب أحد إخواني في الزنزانة ـ الأخ محمد الشافعي ـ بمغص كُلوي حاد، عافانا الله وإياكم منه، وكان الأخ يتلوى ويصرخ من شدة الألم، ويقوم ويقعد، ويبكي ويصيح، ولا من مجير ولا من سميع، وكان ذلك بعد منتصف الليل، واستيقظنا كلنا على ألمه وصراخه الذي يحاول أن يكتمه ويكبته حتى لا يقلقنا، ولكن طفح الكيل، وطغى السيل، فاجتهدنا أن نخفف من آلامه بالدعاء والرقية الشرعية: "اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا".

لم نجرؤ أن نقرع باب الزنزانة، حتى لا تحدث مأساة كمأساة الذين قرعوا الباب لطلب الماء. وصبرنا حتى فتح الباب قبل الفجر للنزول إلى دورة المياه، وسألنا بعض الإخوة الذين دلونا على من أعطانا بعض المسكنات للأخ، وقد تناوله وسكت عنه الألم، ولله الحمد والمنة.

وأنا لم أنس ما حدث لي حين أصابني الإسهال، وهو مرض خفيف إذا قيس إلى غيره من الأمراض. على كل حال مرت معظم المدة بخير، وحمدنا الله على السلامة رغم موجبات المرض. ولكن شاء الله سبحانه في الأشهر الأخيرة أن أُصبت بمرض في صدري، ولم أعرف له سببًا، حيث ابتليت بنوع من السعال أمسى يقلقني في ليلي، ويكدر علي نهاري، أشبه بالربْو، وما هو بربو.

وكان الجو قد هدأ كثيرًا، وأضحى بإمكاننا أن نذهب إلى الأطباء من الإخوان في السجن ليفحصونا، كما كان بالإمكان الإرسال إلى الخارج لشراء بعض الأدوية الضرورية، وكان في السجن عدد من الأطباء المهرة في عدد من الاختصاصات مثل الدكتور أحمد الملط، والدكتور يوسف جعفر، والدكتور كمال العشماوي.

وكان معالجي هو الدكتور العشماوي الذي أخذ الأمر بعين الجد، وقال لي: الحمد لله الذي أتاح لنا كشف المرض قبل أن يستفحل، وطلب عددًا من الإبر، فأُحضِرت من الخارج، ودفع ثمنها بعض الموسرين من الإخوان، وظللت آخذ إبرة لا أذكر كل يوم أو كل يومين. وما هي إلا مدة لم تطل، حتى بشرني الدكتور ـ جزاه الله خيرًا ـ بأني شفيت تمامًا، وفي وقت قياسي، وقال لي: إن هذا المرض عادة يحتاج على الأقل إلى شهرين كاملين، مع الراحة التامة، والغذاء الجيد، بحيث يطلب من المريض أن يأكل في كل يوم فرخة!

وأوصاني أن أتابع الفحص بعد خروجي من المعتقل، حتى أطمئن تمامًا إلى كمال الشفاء واستقراره. وفعلًا بعد الإفراج ذهبت إلى الدكتور فتحي قداح طبيب الصدر بالمحلة، وفحصني فحصًا كاملًا، وزادني اطمئنانًا إلى أني سليم الصدر تمامًا. نسأل الله جل وعلا سلامة الصدر من الأمراض المادية، ومن الأمراض المعنوية جميعًا.

توعية المعتقلين

كان المعتقل أيام الملكية في جبل الطور يعد فرصة للإخوان لتنمية إيمانهم بدعوتهم، وتقوية صلتهم بربهم، وتوثيق ترابطهم فيما بينهم، وتعميق ثقافتهم الإسلامية؛ حتى اعتبرنا معتقل الطور هو المخيم الدائم للإخوان لسنة 1949م، وأن نفقات السفر والإقامة على حساب الحكومة المصرية!

أما معتقل سنة 1954 ـ 1956 فكان شيئًا آخر، فقد استفاد رجال الثورة من تجربة العهد السابق؛ ولهذا رأوا أن يحرموا الإخوان من أي فرصة للتجمع، ووضعوهم في زنازين مغلقة، وسحبوا منهم الكتب حتى لا يقرءوا، والمصاحف حتى لا يأنسوا بها، وفرضوا عليهم ألوانًا من الأذى والتكدير الدائم؛ حتى يكرهوا أنفسهم، ويكرهوا دعوتهم التي جلبت عليهم ما جلبت.

ومع هذا كله لم يكفهم ذلك، فأرادوا أن يهيئوا للإخوان لونًا من "غسيل المخ" تستخدم فيه الأساليب العلمية، بعدما جربوا الأساليب الوحشية. فخصصوا محاضرات لتوعية الإخوان؛ لمحاولة التأثير عليهم، وإقناعهم بتغيير أفكارهم، وإخراج هذا "التعصب" الأعمى! وهذا الهوس المجنون من صدورهم، وأن يعيشوا في المجتمع كما يعيش الناس.

وانتقوا لهذه التوعية المنشودة عددًا من الأساتذة النفسيين والاجتماعيين والوعاظ الدينيين؛ ليلقوا بعض المحاضرات على الإخوان. وما زلت أذكر من علماء النفس الذين حاضرونا. أ. د. ملاك جرجس. كما أذكر من الوعاظ فضيلة الشيخ محمد عثمان مفتش الوعظ الذي كان يأتينا مرة أو مرتين في كل أسبوع، وكان رجلًا عاقلًا، يعلم من هم الذين يخاطبهم، فكان يبتعد عن الأمور الشائكة، والقضايا المحرجة، ويتناول في أحاديثه "الرقائق" المتفق عليها، والتي تنشرح بها الصدور، وتطمئن بها القلوب. وأذكر مما كان يستشهد به كثيرًا هذين البيتين:

اللهُ قل، وذر الوجود وما حوى  **  إن كنت مرتادًا بلوغ كمالِ

فالكون دون الله -إن حققتــه  **  عدم على التفصيل والإجمال

يشير إلى قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام:91) والآية لا تدل على المعنى الذي يشير إلى وحدة الوجود كما يُفهم من الشعر المذكور، وأنه لا يوجد سوى الله، إن أخذ الكلام على حقيقته؛ بل الآية لا بد أن تُفهم في سياقها، فقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي قل: الله هو الذي أنزل الكتاب النور الذي جاء به موسى فلا دلالة فيها على نفي ثنائية الوجود، بل إن هناك كونًا ومُكَوِّنًا، وخالقًا ومخلوقًا.

وقد استمرت دروس الشيخ عثمان فترة ثم انقطع، ربما لأن التقارير عنه أثبتت أن دروسه لم تؤثر في تفكير الإخوان، وربما لغير ذلك.