كل كائن حي له مطالب وحاجات تتنوع وتكثر بمقدار رقي حياته، فحاجة النبات أقل من حاجة الحيوان، وحاجة الحيوان أقل من حاجة الإنسان، وحاجة الإنسان البدوي أقل من حاجة الإنسان الحضري، وحاجة الإنسان الأمي أقل من حاجة الإنسان المتعلم، والشاعر العربي قال من قديم:

نروح ونغدو لحاجاتنا  **  وحاجات من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته  **  وتبقى له حاجة ما بقي

لهذا كان كل إنسان في حاجة إلى العمل ليكسب منه رزقه، ويوفر حاجاته. صحيح أن الله تعالى قد ضمن لكل كائن حي رزقه، كما قال تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود:6)، {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} (العنكبوت:60).

ولكن معنى ضمان الرزق: أنه هيأ موارده وأسبابه في هذه الأرض، منذ خلقها وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها، وجعل لأهلها معايش تكفيهم. بيد أن سنته تعالى: أن رزقه المضمون لا ينال إلا بالسعي والكدح والمشي في مناكب الأرض، والتماس الرزق في خباياها، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} (الملك:15)، فمن سعى ومشى في مناكب الأرض استحق أن يأكل من رزق الله فيها، ومن قعد وتكاسل، كان خليقًا أن يُحرم من رزقه.

وقد رأى الخليفة عمر بن الخطاب جماعة قاعدين في المسجد بعد صلاة الجمعة؛ فسألهم: من أنتم؟ قالوا: متوكلون! فقال: بل متأكّلون! لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة. إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض. أما قرأتم قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة:10)؛ لهذا كان عليَّ أن أسعى للحصول على ما يكفي حاجاتي في هذه المرحلة، وقد أصبحت حاجاتي اليوم أكثر منها عندما كنت طالبًا. فقد كان يكفيني من قبل نصف حجرة وأنا أطلب الآن نصف شقة.

ولست ممن سمّوهم بعد الثورة «العاطلين بالوراثة»، فلم أرث من أبي وجدي من الأرض الزراعية أو من العقارات أو الأموال السائلة في الخزائن الخاصة والبنوك العامة ما يلبي حاجاتي، ويغنيني عن طلب العمل. وحتى لو كان لي مثل هذا لكان عليَّ أن أطلب العمل؛ لأن العمل في ذاته واجب على الإنسان كما أنه حق له، وهو كذلك شرف له. وما ينبغي للإنسان أن يأخذ من الحياة ولا يعطيها.

والتوكل على الله لا يعني: إهمال الأسباب، والحديث الذي يتوكأ عليه المتبطلون يرد عليهم، حيث يقول: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يزرق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا»، فهو لم يضمن لها الرواح والعودة بطانًا أي ممتلئة البطون؛ إلا بعد غدوها وسعيها خماصًا، أي فارغة البطون؛ ومن ثم جئت من القرية إلى القاهرة، بحثًا عن العمل، وأخذًا بالأسباب رجاء في فضل الله، الذي يرزق من يشاء بغير حساب.

التعيين في الأزهر ثم إلغاؤه

ثم كان أول ما اتجهت إليه: أن أقدم أوراقي إلى إدارة الأزهر؛ لأعين في معاهده مدرسًا، فقد كنت عينت قبل الاعتقال، ولكني لم أتسلم العمل، فسقط حقي، على أني لو كنت تسلمته؛ لفُصلت منه، كما فُصل كثير من إخواني. أما المسجد الذي كنت أخطب فيه في مدينة المحلة - وهو مسجد أهلي ضم إلى وزارة الأوقاف بعد - فقد فصلوني منه لغيابي.

وبعد تقديم أوراقي إلى الأزهر انتظرت نحو أسبوعين أو ثلاثة؛ وإذا إدارة الأزهر تعلق كشفًا بالمقبولين للتعيين في معاهدها، وكان أول اسم في الكشف هو: اسمي. ومعي الأخ العسال. وقلت: الحمد لله، قد حقق الله الرجاء. فقال لي الموظفون المختصون: لقد كان اسمك أول الأسماء المرشحة؛ لأنك حاصل على أكبر مجموع في المتقدمين من الكليات الثلاث، سواء في سنة تخرجك أم في هذه السنة. «فقد كان ترتيبي الأول في العالمية، وفي تخصص التدريس»، ولكن هناك عقبة يجب أن تجتازها. قلت: ما هي؟ قالوا: موافقة جهات الأمن «المباحث العامة». فقلت: وقعنا في الفخ. هذه هي العقدة، وعلى كل حال، يقضي الله ما يشاء، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

وبعد أيام جاء الرد من المباحث العامة بحذف اسمي واسم العسال من المعينين، ولاموا الأزهر على إعلانه النتيجة بالأسماء المقبولة، قبل مراجعة جهات الأمن المختصة في وزارة الداخلية؛ ولذا أضحى المعمول به بعد ذلك: إرسال أسماء المعينين أولًا إلى الداخلية، فمن قبلته منهم أُعلن عنه، وإلا فلا.

وقد أعلمونا أن أي عمل يتصل بالجماهير هو محظور علينا، فلا نطمع يومًا أن نُعيَّن مدرسين أو وعّاظًا في الأزهر، أو خطباء في وزارة الأوقاف؛ لأن هذه الأعمال لها تأثيرها في الجمهور، ونحن غير مأمونين عليها!

البحث عن المدارس الخاصة

وهنا لم يكن أمامنا باب مفتوح إلا المدارس الخاصة، التي تحتاج إلى مدرسين للغة العربية، فلم يكن الدين يحتاج إلى مدرس خاص به، فإن حصصه محدودة جدًّا، يأخذها مدرس اللغة العربية مضافة إلى جدوله، وربما لم تكن إجبارية في بعض السنوات.

وظللت أنا وأخي العسال نقرأ الصحف كل يوم نفتش في «إعلاناتها المبوّبة» لأول مرة، عن مدرسة خاصة تطلب مدرسين للغة العربية، فإذا وجدنا مدرسة في أي مكان في القاهرة أو الجيزة؛ سارعنا للذهاب إليها، لنقدم إليها أوراقنا، وقد صورنا منها عدة نسخ على صعوبة التصوير في ذلك الوقت.

ولكنا كنا نرجع بخفي حنين، إذ تعتذر إدارات المدارس عن عدم قبولنا، بسبب واضح؛ وهو أنهم يحتاجون إلى مدرس للغة العربية، ولذا هم في حاجة إلى خريجي اللغة العربية من الأزهر، أو كلية دار العلوم من جامعة القاهرة، وأنا خريج أصول الدين، والأخ العسال خريج الشريعة!

وهذا ما جعلني أقول عبارة تناقلها الإخوة الزملاء بعد ذلك، وهي: أبأس الناس: الموظفون، وأبأس الموظفين: المدرسون، وأبأس المدرسين: مدرسو اللغة العربية، وأبأس مدرسي اللغة العربية: خريجو أصول الدين والشريعة!

مدارس الشرق الخاصة بالزمالك

ثم شاء الله تعالى أن أقرأ إعلانًا عن حاجة مدارس الشرق الخاصة بالزمالك والمنيرة - التي يملكها الأستاذ يس سراج الدين، العضو الوفدي المعروف، وشقيق فؤاد باشا سراج الدين - إلى مدرسين للغة العربية. وكان الأخ العسال يئس من كثرة تقديمنا لمثل هذه المدارس ورجوعنا منها بالرفض والاعتذار، ولكني توكلت على الله وقدمت الطلب لمدير المدرسة بالزمالك، وجلست أنتظر ماذا يقول المدير بعد أن يقرأ الأوراق، ولم أكن أتوقع إلا أن يعتذر كما اعتذر إخوة له من قبل.

ولكني فوجئت بمن يناديني باسمي، ويقول لي: إن المدير يطلبك، وكان اسمه الأستاذ: عبد الحليم بشير، من رجال التربية، ومن خريجي دار العلوم القدامى. وقد رحّب بي، وقال لي: يا شيخ يوسف، نحن عادة لا نقبل خريجي أصول الدين في تدريس اللغة العربية؛ لأنهم في الغالب غير متخصصين، ويبدو ضعفهم في التدريس، ولكني حين نظرت في أوراقك وجدت أنك أول زملائك في الشهادة العالية من كلية أصول الدين، كما أنك أول زملائك في العالمية مع إجازة التدريس، وهذا يدل على أنك شخص متميز، ولست بالرجل العادي؛ ولهذا سأخرق القاعدة وأقبلك مدرسًا بمدرستنا على مسئوليتي. قلت له: شكر الله لك حسن ثقتك بي، وأرجو أن أبيض وجهك وأكون عند حسن ظنك إن شاء الله.

وكان المدير الإداري والمالي للمدرسة موجودًا - واسمه: صلاح ذهني - فقال لي: لكني يا أستاذ يوسف أريد أن أسدي إليك نصيحة أريد ألا تفسرها خطأ، قلت: خيرًا، ما هي؟ قال: تعلم أن هذه المدرسة في حي الزمالك، حي الأعيان والطبقات الراقية. وربما لم يكن زيك الأزهري هذا - الجبة والعمامة - مناسبًا لهذه البيئة؛ ولذا أنصحك أن تغير زيك هذا، وتلبس «البذلة» الإفرنجية. وقال الأستاذ عبد الحليم: وأنا أؤيد الأستاذ صلاح في هذا ولعلك تحفظ قول الشاعر العربي قديمًا: البس لكل حالةٍ لبوسها  **  إما نعيمها وإما بؤسها!

قلت: نعم أحفظه، وأحفظ قول فقهائنا بمراعاة العرف، ما لم يكن مخالفًا للشرع، وقول الناظم في الفقه: 

والعرف في الشرع له اعتبار  **  لذا عليه الحكم قد يدار

وعدت إلى مسكننا في شبرا، لأخبر أخي العسال بما حدث معي، وبقبولي في مدارس الشرق الخاصة بالزمالك، وبطلبهم مني أن أغير زيي، فأصبح بدل «الشيخ يوسف» «يوسف أفندي»! وضحكنا على هذا التغيير المفاجئ. وقال الأخ العسال: أنت الآن تطبق نظرية ماركس في أن الحاجات الاقتصادية هي التي تغير سلوك الإنسان، فما كان أحد يظن أن الشيخ يوسف سيخلع يومًا «كاكولته» وعمامته؛ لولا الضرورات الاقتصادية التي تفرض على الإنسان ما لا يحبه ولا يهواه.

وبالفعل اشتريت قطعتين من الصوف المحترم، ثم سألت بعض الإخوة عن «الترزية» المعروفين بالتفنن والإتقان؛ فدلوني على الأخ عبد العزيز البقلي، وكان من الطراز المتميز في صنعته وفنه، وكان هو الذي خاط بدلة الضابط لعبد المجيد حسن قاتل النقراشي! فقلت لهم: ألا يوجد ترزي آخر؟! فقالوا: هذا هو الذي نعرفه. قلت: على بركة الله. وفصَّل لي أول بدلتين في حياتي. وسرعان ما خاطهما لشدة حاجتي إليهما، وتسلمتهما. وكان عليَّ أن أتعلم كيف أستخدم رباط العنق «الكرافتة»، فهي تحتاج إلى مهارة، سرعان ما أتقنتها.

وأول ما لبست هذه الحلة؛ شعرت كأني إنسان آخر، لم يعد هو الشيخ يوسف القديم، وخيّل إليَّ أن الناس كلهم ينظرون إليَّ، ويقولون: هذا هو الرجل الذي غيّر زيه، وتزايد هذا الشعور عندي عندما ذهبت إلى قريتنا، ورآني أهلها لأول مرة بهذا الزي الجديد.

ولكن سرعان ما أمسى هذا أمرًا مألوفًا، وتعود الجميع عليَّ بهذا الزي الجديد، وقال كثيرون: إنه لائق عليك، وملائم لك، ربما أكثر من الجبة والعمامة! ومهما يكن فالواقع يفرض نفسه. والمرء ليس بزيه وليس بشكله، بل بعلمه وعمله.

وعندما بدأ العام الدراسي؛ ذهبت إلى المدرسة بالزمالك، وكان مشوارها طويلًا شاقًّا، إذ كان عليَّ أن أركب من شبرا إلى ميدان التحرير، بعد أن أمشي على قدمي من المنزل إلى شارع شبرا لأمتطي الأوتوبيس، ثم أركب مرة أخرى من التحرير إلى الزمالك، ثم أمشي إلى المدرسة. ثم عليَّ أن أحضّر الدروس وأن أصحح الكراريس، كل هذا من أجل اثني عشر جنيهًا.

إلا أن ميزة هذه المدارس عند أكثر المدرسين: أنها فرصة للدروس الخصوصية، فطلابها من الأسر الثرية، وجلهم يحتاجون إلى الدروس لرفع مستواهم، ولا سيما إذا عُرف المدرس بينهم بالتميز في تدريسه، وانتشر صيته بين التلاميذ.

وقد بدأ اسمي يظهر بين تلاميذ المدرسة وتلميذاتها، وهي مدرس إعدادية، وهي مختلطة تجمع بين البنين والبنات. وطفق التلاميذ يطلبونني لأعطيهم دروسًا خصوصية، ولكني لم أكن من النوع الذي يركض وراء هذه الدروس؛ لأنها تكسب النقود، وتأكل الأوقات، وأنا في حاجة إلى وقتي للاطلاع والقراءة، وهو أغلى عندي من بضعة جنيهات أضعها في جيبي. هذا مذهبي، وربما لا يعجب الكثيرين اليوم. ولكن الشاعر يقول:  تعشقتها شمطاء شاب وليدها  **  وللناس فيما يعشقون مذاهب!

والحقيقة أني بعد مدة قليلة صعبت عليّ نفسي، فلم تكن هذه المدرسة تشبع مطامحي، وترضي آمالي، وكثيرًا ما كنت أسائل نفسي: أهذا مصيرك يا يوسف؟! أهذا ما أعددت له نفسك السنين الطوال؟! ثم أعود فأستمسك بعروة الإيمان الوثقى، وأقول ما يقوله الصالحون: الخير ما يختاره الله لنا.

ولهذا لم أقبل من الدروس إلا درسًا واحدًا، كلفني به المدير لبنت صاحب المدرسة الأستاذ يس سراج الدين، وكانت في المرحلة الإعدادية، وهي كبرى بناته، وكانت صغيرة، وعلى غاية من الأدب. ولم أملك أن أقول: لا. إلا أن بقائي في مدرسة الزمالك هذه لم يطل أكثر من شهر فيما أذكر، ثم حدث «العدوان الثلاثي» الشهير على مصر؛ انتقامًا لتأميم قناة السويس. فقد هاجمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل منطقة القناة، وخصوصًا مدينة بورسعيد، وأمطرتها بوابل من القنابل.

وتغير الحال في مصر كلها، وباتت في حالة حرب في مواجهة هذه الدول، وتوقفت الجامعات والمدارس كلها، وذهب عبد الناصر إلى الجامع الأزهر ليعلن من فوق منبره في الناس: سنقاتل، سنقاتل، ولن نستسلم. وتكوّنت لجان المقاومة الشعبية في كل مكان، وتجاوب الشعب كله مع عبد الناصر، ورأيت الإخوان المسلمين الذين أصابهم من عذاب عبد الناصر ما أصابهم ينضمون إلى جبهات المقاومة، فمصر بلدهم، وليست بلد عبد الناصر، والشاعر يقول:   بلادي - وإن جارت عليَّ – عزيزة  **  وأهلي - وإن ضنوا عليَّ - كرام!

المهم أن مدارس الشرق الخاصة عطلت كما عطل غيرها من المدارس. ومعنى تعطيلها: أن لا راتب لنا نقبضه منها، كما يقبض المدرسون في مدارس الحكومة، وإن عطلت الدراسة؛ ولذا بقيت أيامًا في القاهرة، ثم رأيت أن الأصلح لي أن أدعها إلى القرية، فالمعيشة في القاهرة تكلفني وتتعبني، وفي القرية لا أتكلف شيئًا، فأنا آكل مما تأكل العائلة.

وما هي إلا أيام حتى جاءتني برقية من وزارة الأوقاف تطلب إليَّ أن أحضر بسرعة إلى القاهرة لأتسلم منبر الأزهر؛ لرفع الروح المعنوية في الشعب في هذه المرحلة الخطيرة في تاريخ مصر، وكان هذا بتوجيه من شيوخنا: البهي الخولي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، الذين أشاروا على الشيخ الباقوري أن يستدعيني للأزهر. بيد أني لم أتجاوب مع هذه البرقية، وقلت في نفسي: إنهم يستنجدون بي الآن، حتى إذا انكشفت الغمة طرحونا وراءهم ظهريًّا!

ولما لم أرد عليهم؛ كلفوا شيخنا الشيخ محمد الغزالي الذي اعتلى منبر الأزهر، وظل يخطب فيه عدة سنوات، وقد كان الشيخ الغزالي يخطب في جامع الزمالك الكبير، فخلا مكانه، فأرسلوا إليَّ في القرية أحد الإخوة ليبلغني بضرورة الاستجابة إلى طلب الأوقاف وإلحاحهم في أن أحل محل الشيخ الغزالي في مسجد الزمالك، وكان الأخ الذي حمل إليَّ الرسالة هو الأخ إسماعيل حمد، شقيق زميلي وصديقي أحمد حمد.

واستجبت إلى رغبة شيوخنا، وسافرت إلى القاهرة، وتسلمت مسجد الزمالك لأخطب فيه، بمكافأة قدرها اثنا عشر جنيهًا، وعرف الكثيرون ذلك، فبدأ الناس يتوافدون على المسجد من أنحاء القاهرة وضواحيها، بل من خارج القاهرة أيضًا، وقد كانت إذاعة القاهرة تذيع منه خطبة الجمعة كل عدة أسابيع. وكان الذي يضايقني من إذاعة الخطبة: أنهم يطلبونها مكتوبة قبل أن تذاع، ويريدونني أن أقرأها عند إذاعتها، وأنا لم أتعود أن أقرأ الخطبة من ورقة؛ ولهذا كنت أحيانًا أخرج على النص، وأرتجل كلمات من عندي، وقد لاحظوا ذلك يومًا فلفتوا نظري إلى ذلك.

وظللت أكثر من سنة أخطب الجمعة بمسجد الزمالك، حتى بعد أن انتهت الحرب، ولاحظ رجال المباحث العامة أن المسجد أصبح يمثل مدرسة دعوية متميزة بخطَبه، وبالحلقات التي أعقدها بعد كل خطبة أجيب فيها عن أسئلة الناس، وأمسى الناس يفدون إليه من كل صوب وحدب. وكثيرًا ما رأيت مخبري المباحث يلاحقون الناس ويسألونهم عن أسمائهم ووظائفهم. حتى إنهم مرة لاحقوا أحد الذين صلوا معي، ثم جاء يسلم عليَّ في حجرة الإمام، وقلت للمخبر: هذا سعد الدين بك خضر عضو مجلس الشعب عن دائرتنا صفط تراب! فأسقط في يد الرجل. وأخيرًا ضاق صدرهم، ونفد صبرهم، فأجبروا الأوقاف أن تمنعني من الخطابة، فقد انتهت مهمتي بعد أن أصرت أمريكا على دول العدوان الثلاثي أن تجلو عن مصر. وهذا ما كنت أتوقعه منهم.

والعجيب أن المصلين في المسجد أرسلوا برقيات إلى وزير الداخلية، يطلبون إليه: أن يعيد إليهم الخطيب المحبوب الذي يفد الناس إليه بالآلاف من القاهرة وما حولها... وقلت لهم: إن قولكم هذا يضر القضية ولا ينفعها، فما تقولونه هو الذي يخيفهم ويفزعهم.

بقي أن أقول: إن تعييني في مسجد الزمالك بمكافأة: اثني عشر جنيهًا؛ جعلني أستغني عن العودة إلى مدارس الشرق الخاصة، بعد انتهاء أزمة العدوان الثلاثي، وقد كان يمكنني أن أجمع بين الوظيفتين، وهو ما نصحني به كثير من الزملاء. ولكني وجدت المدرسة تأخذ مني وقتًا وجهدًا وطاقة أنا في حاجة إليها فيما هيأت نفسي له، وهو العمل العلمي والفكري المتعمق الذي يتطلب مني أن أفرّغ له عقلي ونفسي ووقتي ما استطعت. أما المال فيكفيني منه القليل. وقد قال أبو فراس الشاعر الفارس:

إن الغني هو الغني بنفسه  **  ولوَ انه عاري المناكب حافي

ما كل ما فوق البسيطة كافيًا  **  وإذا قنعت فبعض شيء كافي

ومع تركي لمدارس الشرق الخاصة، وقبولهم استقالتي؛ فقد طلبوا مني أن أستمر في درسي الخاص مع ابنة يس سراج الدين، وقد بقيت معها لأكثر من عدة أشهر، ثم رشحتني الأوقاف للذهاب إلى مدينة العريش في بعثة وعظية بمناسبة شهر رمضان، ولم أكن قد قبضت من دروسي الخصوصية كثيرًا ولا قليلًا، وأنا أستحي أن أطلب، وهم لعلهم غافلون. ثم ضغطت على نفسي، وغالبت طبيعة الحياء عندي، وكتبت كلمات للأستاذ سراج الدين قلت فيها: لولا ما تعرف من غلاء المعيشة، وضغط تكاليف الحياة؛ لمنعني الحياء أن أذكرك بقول الشاعر:

وفي النفس حاجات وفيك فطانة  **  سكوتي بيان عندها وخطاب!

مع خالص تحياتي.

وأعطيت الورقة لتلميذتي لتسلمها إلى أبيها. وعندما حضرت الدرس التالي وجدت الرجل قد ترك لي عشرة جنيهات، مع ورقة تتضمن شكرًا واعتذارًا عن التأخير.