في هذه الفترة عندما كنت أخطب في جامع الزمالك؛ حدثت تجربة من أهم التجارب السياسية وأعظمها خطرًا في العالم العربي الحديث، وإن أخفقت - مع الأسف - في النهاية، هي: تجربة الوحدة الاندماجية السورية المصرية، وإقامة «الجمهورية العربية المتحدة» بإقليميها: الشمالي في سوريا، والجنوبي في مصر، وإقامة دستور موحد، ومجلس نواب موحد، ومجلس وزراء موحد.

فبعد أن صعد نجم عبد الناصر في البلاد العربية بعد تأميم قناة السويس، وبعد تحديه للغرب المدِلّ بقوته وسلاحه، وبعد تحرره من أسر احتكار السلاح الغربي، وبعد عزمه على إقامة السد العالي متحديًا سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن مهد صوت العرب - بقيادة المذيع اللامع أحمد سعيد - الطريق إلى قلوب العرب في كل مكان: كانت سوريا - بكل فئاتها وتوجهاتها العربية والإسلامية - أسرع العرب تجاوبًا مع عبد الناصر، وجاءوا إليه مختارين، ليسلموا إليه زمام وطنهم، لتقوم وحدة اندماجية كاملة بين البلدين..

ويقنع رئيس الجمهورية السورية: شكري القوتلي: أن يكون «المواطن العربي الأول» في «الجمهورية العربية المتحدة» الجديدة، التي أعلن عنها عبد الناصر في خطاب تاريخي حرك مشاعر الأمة من المحيط إلى الخليج، ووصف عبد الناصر هذه الجمهورية الوليدة بأنها قامت: توحد ولا تفرق، تقوي ولا تضعف، تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو... ورضي كل من البلدين: أن يتنازل عن اسمه الخاص، في سبيل الوحدة. فتكون سوريا: الإقليم الشمالي، وتكون مصر: الإقليم الجنوبي. وتعالت الهتافات، من الخليج الثائر، إلى المحيط الهادر: لبيك عبد الناصر!

وصفق العرب لها في كل مكان، وأشهد أن الإخوان برغم جراحهم التي لا تزال تدمى من عبد الناصر، وأن عددًا غير قليل منهم لا زال يقضي أحكامًا بالسجن والأشغال الشاقة في سجون الواحات وغيرها؛ رحبوا بهذه الوحدة وأيدوها وآزروها، حتى إن إخوان سوريا حلوا أنفسهم اختياريًّا ليندمجوا في ركب الوحدة.

وأذكر أني خطبت في مسجد الزمالك خطبة تاريخية في تأييد الوحدة، وبيان أهميتها لقوة الأمة ونمائها ورقيها، وتمكينها من الانتصار على عدوها، وقدرتها على مواجهة التحديات الصعبة والخطيرة؛ ولذا دعا الدين إلى الوحدة، وحذر من التفرق والعداوة والتشرذم، وأن يكون بأس الأمة بينها، ويذوق بعضها بأس بعض، وما في هذا من خطر عليها على كل صعيد. كما بينت أن أول الوهن الذي أصاب الدولة الإسلامية الكبرى هو حركات الانفصال والتشرذم التي مزقت الأمة شر ممزق.

وكان ممن حضر هذه الخطبة الكاتب الإسلامي الإخواني الأستاذ أحمد أنس الحجاجي، وكان معه ضابط كبير من ضباط الثورة، لا أذكر اسمه، أعجب بالخطبة، وقال له: كان يجب أن تسجل هذه الخطبة، وتكرر إذاعتها على الناس. فقال له الأستاذ أنس: إنكم لن تجدوا أحدًا مثل الإخوان يؤيدون هذه الخطوات الإيجابية بمنطقهم الإيماني، وفهمهم الإسلامي، وبوعيهم بالدين والواقع والتاريخ.

وانطلقت الأناشيد والأغاني القومية تعبئ المشاعر، وتوحد الأفكار، وتجمع الإرادات على هدف واحد، مثل أغنية: «وحدة ما يغلبها غلّاب»، وأغنية: «من الموسكي لسوق الحميدية، أنا عارف السكة لوحديَّه» ... إلخ.

ولكن مما يؤسف له: أن النظام المصري ارتكب خطأ فادحًا؛ حين لم يدرك طبيعة الشعب السوري، الذي كان يعيش أجواء الحرية، فأراد أن يفرض عليه النظام الاستبدادي الذي كان يخنق به أنفاس الشعب المصري، وأن يجعل من «المكتب الثاني» الذي يمثل جهاز المباحث العامة والمخابرات هو الحاكم الفعلي في الإقليم السوري، وأن يصبح الضابط المعروف عبد الحميد السراج، هو مخلب مصر في سوريا، ووكّل أمر الإقليم الشمالي إلى المشير عبد الحكيم عامر، بشهواته وانحرافاته، فلم يحسن التعامل معه كما ينبغي.

ولهذا سرعان ما ضاق الشعب السوري الأبي ذرعًا بعبد الناصر وزبانيته، ورجال أمنه، وأجهزة مخابراته؛ فثاروا على الوحدة وضحوا بها من أجل الحرية. ووصف شكري القوتلي نفسه الذي سلم الحكم لنظام عبد الناصر: إن هذا النظام له ألف عين، ولكنه لا يرى بواحدة منها... وحمَّله فشل تجربة الوحدة التي استحالت إلى سراب، كما قال. ووقف رجال العلم والدين من أمثال الشيخ علي الطنطاوي، بما له من قبول لدى الشعب يعلن تأييده لحركة الانفصال.

وضاعت ثمرة هذه التجربة الفريدة؛ نتيجة حكم الجبروت والاستبداد الغاشم، وصدق الله إذ يقول: {وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (إبراهيم:15)، ومن قبل ضيعوا الوحدة بين شطري وادي النيل: مصر والسودان، برغم قوة عوامل التوحيد بينهما. مع أن الشهيد حسن البنا كان يسمي مصر: السودان الشمالي، ويسمي السودان: مصر الجنوبية!

زيارة الشيخ ابن تركي لمصر

وفي أثناء هذه الفترة التي كنتُ أخطب فيها بمسجد الزمالك؛ زار مصر فضيلة الشيخ عبد الله بن تركي السبيعي، مفتش العلوم الشرعية بوزارة المعارف، والمسئول عن التعاقد مع علماء الأزهر وغيرهم لتدريس العلوم الشرعية في مدارس قطر، وكان يعتز بأنه أول من جلب علماء الأزهر إلى بلده.

وكان يصحبه من أبناء الأزهر أخونا الشيخ يوسف عبد المقصود، الذي ذهب إلى قطر من قديم، وعمل في مدارسها، قبل أن يحصل على الشهادة العالمية. وقد اصطحب أخونا يوسف الشيخ ابن تركي ليصلي الجمعة في مسجد الزمالك، واستمع الشيخ إلى خطبتي، وشاء الله أن يُعجب بها، ثم صافحني بعد الصلاة، وعرفني به الأخ يوسف. وطلب مني أن أزوره في الفندق الذي يقيم فيه «جراند أوتيل» في وسط القاهرة. وقد زرت الشيخ، وتبادلنا الحديث في علوم الشرع، وعِلم الإمامين ابن تيمية وابن القيم، وغير ذلك، مما شد الشيخ إليَّ، وزاده ثقة بي، واطمئنانًا إليَّ، وودعته وشكرت له وحييته.

ولما رجع الشيخ إلى قطر؛ أرسل كتابًا إلى الشيخ الباقوري وزير الأوقاف يطلب منه إعارتي إلى قطر، ولم يعرف ابن تركي أن وزير الأوقاف لا يملك أن يعيرني إلى قطر؛ لأني لست موظفًا على درجة كسائر الناس، بل أنا معين على مكافأة براتب مقطوع. وحتى لو كنت موظفًا عاديًا، فلا بد أن تمر عليَّ ثلاث سنوات حتى أُعار إلى خارج مصر. فاعتذر وزير الأوقاف إليه. ولكن اسمي ظل محفورًا في ذاكرة الشيخ، حتى آن الأوان بعد ذلك لإعارتي إلى قطر.