في هذه الفترة زار مصر الأستاذ الكبير العلامة أبو الأعلى المودودي أمير «الجماعة الإسلامية» ومؤسسها في باكستان والهند، وصاحب الكتب والرسائل التي قرأها المسلمون في لغات شتى. وكان يكتب تفسيره الشهير: «تفهيم القرآن»، وكان يجتهد أن يتعرف على الأماكن التي ذُكرت في القرآن في مواقعها، ومنها «مصر» التي ذُكرت في القرآن أربع مرات، ومنها: الطور أو طور سيناء، أو طور سينين، وهل يمكن معرفة أين فلق البحر بعصا موسى؟ وأين مجمع البحرين؟ وأين أرض التيه؟ إلى غير ذلك من الأماكن التي ذُكرت في القرآن ولها علاقة بمصر، وقد سافر الشيخ إلى سيناء وغيرها من بلاد مصر.

وكان من برنامج الإمام المودودي: زيارة الشيخ شلتوت شيخ الأزهر والعالِم المجدد في فتاواه وبحوثه، والدكتور محمد البهي المعروف بوقوفه في وجه الملاحدة والماديين والعلمانيين. ورحب به الدكتور البهي الذي يعرفه ويعرف فكره ومكانته، وطلب إليَّ أن أصحبه ليزور إدارات الأزهر المختلفة، وكانت فرصة ذهبية لي أن ألتقي بالشيخ المودودي وجهًا لوجه، بعد أن قرأت كثيرًا من كتبه ورسائله التي تُرجمت إلى العربية منذ سنوات، وكان فضل ترجمتها والتنويه بقيمتها يرجع إلى «لجنة الشباب المسلم» التي انبثقت من داخل جماعة الإخوان لتركز على جانب العلم والفكر والثقافة أكثر من جانب الجهاد والتربية العسكرية، التي كانت موضع اهتمام النظام الخاص.

ثم قابل المودودي الشيخ شلتوت في مكتبه ورحب به كثيرًا، وأشاد بفضله ومنزلته في تجديد الفكر الإسلامي، وكان الشيخ شلتوت قد علق في إحدى مقالاته على رسالة «نظرية الإسلام السياسية» للأستاذ المودودي، وقد أودعناها كتابه «من توجيهات الإسلام». ودعاه الشيخ شلتوت إلى زيارته في بيته، ومن الجميل أن الشيخ شلتوت عند زيارته له: طلب منه أن يفسر له سورة الفاتحة، وحاول المودودي أن يعتذر فأصر الشيخ، وفسرها الضيف تفسيرًا مختصرًا جميلًا. وهذا من أدب العلماء الكبار بعضهم مع بعض.

وأذكر أني صحبت المودودي، لأمرَّ به على إدارات الأزهر المختلفة، وكان ممن مررنا بهم: مدير مجلة الأزهر الأستاذ أحمد حسن الزيات الأديب المعروف، ومؤسس مجلة «الرسالة» التي كانت المجلة الأدبية الأولى في العالَم العربي. وكان مما فاجأني به: أني لما قدمت الأستاذ المودودي إلى الأستاذ الزيات؛ وجدته لا يعرف عنه أي شيء! فوقفت أشرح له مكانة الأستاذ المودودي مؤسس «الجماعة الإسلامية» في باكستان والهند، وصاحب الكتب والرسائل التي شرقت وغربت، وتُرجمت إلى لغات شتى في أنحاء العالم، ومنها إلى اللغة العربية، وأن له مواقف كذا وكذا... وأنا في خجل أن يكون مثقف كبير في مصر مثل الزيات لا يعرف عن المودودي وجماعته شيئًا. وكان مع المودودي الأستاذ عاصم حداد، مترجم كتبه إلى العربية، وقد بقي مدة في مصر، ثم عاد إلى باكستان.

تتبع الصحف والمجلات في مواقفها من الإسلام:

وبعد أن فرغنا من إخراج كتب الشيخ شلتوت؛ كلفنا الدكتور البهي بعمل آخر، هو: أن نتتبع ما تكتبه الصحف والمجلات عن الإسلام إيجابًا أو سلبًا؛  لتوظيفها بعد ذلك في خدمة الدعوة، ومعرفة أصدقائها وأعدائها، ووسائلهم وخططهم، والكشف عن أفكارهم ومفاهيمهم من خلال ما يكتبون أو يُكتب عنهم.

كان الهدف نبيلًا وجميلًا، ولكن لم تُهيأ له الوسائل الضرورية لتحقيقه. فلم توضع ميزانية لشراء هذه الصحف والمجلات المصرية والعربية، لقراءتها واستخراج أهم ما فيها مما يخدم موضوعنا، لأرشفة هذه المعلومات.

ولم تكن لدينا سكرتارية، لتساعدنا في عملنا هذا، ويبدو أن المشروع اعتُمد ارتجالًا، دون إعداد وتخطيط كاف له. فقد أراد الدكتور البهي أن يشغلنا بعمل نبذل فيه جهدنا، دون أن يكون معنا من الآليات ما نستطيع أن نحقق به ما يُراد منا.

الرد على الكراسة الرمادية:

وفي هذا الوقت - على ما أذكر - نشر الشيوعيون في العراق هجومًا على الإسلام وتعاليمه: عقيدة وشريعة وأخلاقًا وحضارة، في بحث عرف باسم: «الكراسة الرمادية» نشرت خلاصتها الصحف المصرية، والتي هيجت عليها الرأي العام المصري، المرتبط عقديًّا وفكريًّا وشعوريًّا بالإسلام، والذي يثور كالبركان إذا عدا على حماه عاد. كما رأينا ثورته أخيرًا ضد رواية: «وليمة لأعشاب البحر».

وقد كلفنا الدكتور البهي - أنا والعسال - بكتابة رد علمي على الشبهات التي أثارتها هذه الكراسة، والأباطيل التي اتهمت بها الإسلام زورًا. وقد أعددنا ردًّا بالفعل اطلع عليه الدكتور البهي وأقره، وأمر بنشره في مجلة الأزهر، وقد اخترنا عنوانه: «الإسلام بين شبهات الضالين وأكاذيب المفترين». كما كلف الدكتور زميلنا الأستاذ حمودة عبد العاطي في إدارة الثقافة: أن يترجم هذا المقال إلى الإنجليزية، وينشر أيضًا في مجلة الأزهر، وكان هذا المقال هو الذي أوحى إلى أخينا الأستاذ حمودة أن يكتب بالإنجليزية كتابه: «جوهر الإسلام» «فوكس الإسلام».

العمل بالمكتب الفني للوعظ والإرشاد:

ولذا لم يستمر هذا العمل - تتبع الصحف - طويلًا، وبعد مدة لم تطل كثيرًا حُوِّلنا إلى العمل في المكتب الفني لإدارة الوعظ والإرشاد؛ لنعمل مع مدير الوعظ والإرشاد في ذلك الوقت، وهو الشيخ عبد الله المشد، وننتقل من مبنى إدارة الأزهر الذي كنا نداوم به حيث مراقبة البحوث والثقافة، إلى مبنى «الرواق العباسي» في الأزهر القديم، وكانت إدارة الوعظ والإرشاد إحدى الإدارات التابعة للإدارة العامة للثقافة الإسلامية.

وكان معنا في المكتب الفني عدد من العلماء الأفاضل، منهم: فضيلة الشيخ عطية صقر، والشيخ محمد رمضان، مدير تحرير مجلة «نور الإسلام» لسان حال علماء الوعظ والإرشاد، والأخوان: أحمد حمد، وعبد الحميد شاهين.

وكان الشيخ عبد الله المشد مدير الوعظ من العلماء المستنيرين، ومن مجموعة الشيخ شلتوت، إذ كان الشيخ شلتوت والمشد والبهي وماضي كلهم من منطقة واحدة من محافظة البحيرة، وكانوا جميعًا يدًا واحدةً، وقلبًا واحدًا، ثم فرقت بينهم الأيام والفتن، وأهواء الأنفس، ودسائس الشياطين.

وكان المشد رجل صدق، وقد كان معنيًا بالقضايا الإسلامية، وكان رئيسًا للبعثة التي أرسلها الأزهر قديمًا إلى «إريتريا» وقدمتْ تقريرًا مهمًّا له قيمته، ولا غرو أن ظل رجال إريتريا الكبار، وشبابها الصغار، يترددون على الشيخ المشد، ولا سيما عندما بدأوا يفكرون في إنشاء حركات التحرير من الاحتلال الأثيوبي لبلدهم، والاستقلال عن الحبشة، وأذكر من هؤلاء: الأستاذ آدم إدريس، أحد الزعماء المرموقين الذين قاوموا جبروت «هيلاسلاسي» وطيغانه.

وكان أهم ما بدأنا به: تطوير مجلة «نور الإسلام» وتحسين أدائها، وإضافة موضوعات جديدة إليها، وجلب أقلام جديدة للكتابة فيها. وقد بدأت أكتب فيها سلسلة مقالات تحت عنوان: «العقيدة الحياة»، وهي التي نشرتها بعد ذلك في كتاب: «الإيمان والحياة».

كتاب «الحلال والحرام»:

ورغم عملنا في المكتب الفني للوعظ والإرشاد؛ لم تنقطع صلتنا بالدكتور البهي، فقد كان الوعظ والإرشاد من الإدارات التابعة له. إذ كان الأزهر يشمل ثلاثة أقسام: جامعة الأزهر بكلياته المختلفة، والمعاهد الدينية بمراحلها الابتدائية والثانوية... والإدارة العامة للثقافة الإسلامية بما يتبعها من مجمع البحوث الإسلامية، ومراقبة البحوث والثقافة، وإدارة الوعظ والإرشاد، ومجلة الأزهر، ومطبعة الأزهر، وغير ذلك.

وفي هذا الوقت عرض علينا الدكتور البهي أن أشترك أنا والعسال في مشروع تثقيفي إسلامي كبير، فقد طلبت بعض سفارات مصر في بلاد الغرب: في أمريكا أو لندن: الكتابة في ثلاثين موضوعًا تحتاج إليها الجالية الإسلامية في الخارج، على أن تكتب بلغة سلسة ميسرة، ملائمة لروح العصر، وموثقة من الناحية العلمية. منها موضوعات في العقائد والعبادات، والأسرة والمعاملات وغيرها من كل ما يفتقر المسلمون إلى معرفته خارج الوطن العربي والإسلامي. وكان الذي عرضه عليَّ الدكتور البهي وطلب إليَّ أن أكتب فيه هو: ما يحل للمسلم، وما يحرم عليه. كما عرض على الأخ العسال: أن يكتب عن العبادات.

وقد وفقني الله جل شأنه لكتابة الموضوع الذي كلفني به، وإن كنت رأيت أن أغير عنوانه من: «ما يحل للمسلم وما يحرم عليه» إلى «الحلال والحرام في الإسلام»، وقد سلمت مسودة ما كتبت إلى أستاذنا الدكتور البهي، وبعث به إلى الأستاذ محمد المبارك عميد كلية الشريعة في دمشق والمفكر الإسلامي المعروف، ليرى مدى ملاءمته لمخاطبة العقل الغربي، ومدى أصالته العلمية، وقد أثنى الأستاذ المبارك على الكتاب، وكتب فيه تقريرًا إلى إدارة الثقافة، قال فيه: إن الكتاب جيد في بابه، ضروري في موضوعه، ولو استُدرِكت بعض الملاحظات لكان خير كتاب في موضوعه فيما أعلم. ولا أذكر ماذا فعل الأخ العسال فيما كُلف به: هل أكمله ولم يحز القبول أو أنه لم يكمله أصلًا؟

وقد تجاوبت مع ما لاحظه الأستاذ المبارك على الكتاب، وعدّلت بعض ما طلبه، وأقنعته بوجهة نظري في بعض الملاحظات، حين التقيت به في القاهرة بعد ذلك. ثم سلم الدكتور البهي الكتاب إلى مترجم معروف ليترجمه إلى الإنجليزية، ولكن الفصل الأول الذي ترجمه لم ينل القبول، واختير مترجم آخر، وفي النهاية لم يتم مشروع الترجمة، الذي من أجله أُلف الكتاب، وإنما تُرجم بعد ذلك بسنوات من طريق آخر غير طريق الأزهر.

وهذا ما دفعني ألا أنتظر الكتاب حتى يُترجم، فدفعت به إلى دار إحياء الكتب العربية، «عيسى البابي الحلبي» لينشره بالعربية كما كُتب، وقد أقرته اللجنة المختصة بالكتب عند الحلبي، رغم أنه أول كتاب لمصنفه. وكانت الطبعة الأولى من الكتاب الذي طُبع منه ثلاثة آلاف نسخة، وحصلت في مقابلها على «ستين جنيهًا»؛ كانت أول مبلغ آخذه من حقوق التأليف، وكان يمثل لي ثروة معقولة في ذلك الزمان.

وأحسب أن لكتاب «الحلال والحرام» قصة يجب أن تُروى بتفصيل على الناس؛ لما فيها من عبرة، كما حكى العلامة أبو الحسن الندوي قصة تأليفه لكتاب: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟»؛ فلنتأسّ بهذا العالِم الرباني في حكاية قصة كتابنا كما قدر الله وقوعها.