الاستعداد للسفر إلى قطر:

بعد أن وافقت الجهات الأمنية في مصر على سفري معارًا إلى قطر؛ انزاحت العقبة الكأداء التي كانت تقف في طريقي دائمًا، فقد وقفتْ في طريق تعييني في معاهد الأزهر من قبل، كما وقفت في سبيل تعييني خطيبًا بالأوقاف، ووقفت في سبيل سفري إلى قطر. والحمد لله على كل حال.

بقي عليَّ أن أعد العدة للسفر إلى قطر؛ فالسفر إلى قطر ليس سفرًا لعدة أيام أو أشهر، كما كانت سفرتي السابقة إلى بلاد الشام، ولكنه سفر إعارة لمدة أربع سنوات، قد تمد فتصبح خمس سنوات أو ستًّا. فهو «سفر اغتراب» يلزم المسافر أن يتهيأ له بما يناسبه.

ثم إنه سفر لي ولعائلتي معي، وكانت عائلتي تتكون من زوجتي وابنتي الصغيرتين: إلهام، وهي لم تكمل السنتين، وسهام، وهي تقترب من إكمال السنة. فكان عليَّ أن أعد جواز السفر، ولم يعد هناك عقبة في استخراجه.

وكان عليَّ أن أهيئ الزي المناسب، وهو الزي الأزهري الذي ألفته وألفني مدة طويلة، ثم قهرتني الظروف الاجتماعية والاقتصادية على أن أخلعه، حين عُيّنتُ بمدارس الشرق الأوسط الخاصة بالزمالك. والآن لم يعد هناك مانع من العودة إليه، بل هناك مقتض لذلك. فهو الملائم لعلماء الأزهر المبعوثين، فعدت إليه مختارًا، وقد قالوا في الأمثال: من فات قديمه تاه. وهذا يقال في الماديات والأدبيات على السواء.

ولكن كان عليَّ أن أبحث عمن يخيط «الجبب» أو «الكواكيل» التي أريدها، و«الكاكولة» هي الجبة ذات الطوق، ولا أدري لماذا سميت: «كاكولة»، ومن أي لغة أخذت، ويقال: إن أول من لبسها وقلده الناس فيها هو الإمام الأكبر الشيخ المراغي، شيخ الأزهر في زمنه.

لقد قل الخياطون أو «الترزية» المتخصصون في تفصيل الكاكولة، بعد أن قل من يلبسها من الأزهريين بعد أن غلب على أكثرهم ارتداء الزي الإفرنجي، كما قلَّ الذين يصنعون «طربوش العمامة» بعد أن أضحى عامة الناس لا يلبسون الطرابيش على رءوسهم، وأضحى أكثر الأزهريين لا يلبسون العمائم؛ لهذا انحصرت صناعة الطرابيش في محلين معروفين في شارع الغورية بحيِّ الأزهر. وهما اللذان أتعامل معهما أو مع أحدهما «محمد أحمد» من سنين طويلة إلى اليوم.

وقد كانت مادة الطرابيش من قبل تستورد من مصانع في النمسا، وكان بعضها في غاية الجودة والرقي، فلما منع الطربوش في تركيا من قبل، وألغي عمليًّا - من بعد - في البلاد العربية؛ أغلقتْ هذه المصانع أبوابها، وبدأت صناعة محلية، ولكنها للأسف لا تزال رديئة، ولم ترتق إلى المستوى المطلوب أو تقاربه إلى اليوم، ومرد ذلك إلى قلة الإنتاج غالبًا.

وأنا أعتمد في الطرابيش على ما يبعثه إليَّ الأصدقاء من المغرب، فصناعة الطرابيش فيها أرقى منها في مصر؛ لأن الطربوش يعتبر من الزي الرسمي للملك والأمراء والوزراء والسفراء وغيرهم، ولكن تبقى مشكلة «شال العمامة»، فقد كان من قبل هناك شيلان تُعرف بـ «الاستانبلي» ناعمة كأنها الحرير، ثم اختفت، ولم يوجد للأسف البديل لها.

على كل حال: عند سفري إلى قطر، كانت هذه الأشياء لا تزال متوافرة إلى حد معقول، إلا «الترزية»، ثم دلني بعض الإخوة على ترزي عريق، يخيط لشيوخ الأزهر الكبار، ودكانه في خان الخليلي، وهو «عم يوسف العدوي». وكان ترزيًّا متقنًا، فخطت عنده كوكالتين، وفي كل صيف آتي له بالقماش ليفصل لي عدة كواكيل، بعضها للشتاء، وبعضها للصيف.

وكان يطلب أجرة خياطة الكاكولة «خمسة جنيهات». وظل على ذلك عدة سنوات، وكنت أقول له: يا عم يوسف، ألا تزيد في الأجرة قليلًا؟ فيقول لي: رضا والحمد لله. ثم بعد مدة بدأت الحياة تغلو، والأسعار ترتفع، فظل يزيد الأجرة إلى عشرة جنيهات، فعشرين، فأربعين، فخمسين، إلى أن وصلت إلى (150) مائة وخمسين جنيهًا، أي ارتفعت إلى ثلاثين ضعفًا! وكان عم يوسف حريصًا على أن يقول لي: خياط الكاكولة: ترزي أفرنجي، أما خياط الجبة العادية فهو ترزي عربي.

قال لي الإخوة الذين سبقوني: لا تأخذ كتبًا معك، فهناك الكتب الشرعية والعربية موفورة وميسرة في مكتبة حاكم قطر السابق الشيخ عليّ بن عبد الله آل ثاني. كل ما عنيت بأخذه من الكتب: نسخ من الكتابين اللذين صدرا لي، وهما: «الحلال والحرام في الإسلام»، و«العبادة في الإسلام» لأهدي منها إلى العلماء والمشايخ في قطر.

وقبل السفر بأيام ذهبت إلى القرية؛ لأزور الأقارب فيها وأودعهم قبل هذا السفر، الذي قد يطول، ولأكسب دعاءهم لي، ولأكسب فضل صلة الرحم وما لها من بركة في بسط الرزق، وإنساء الأثر، كما صح في الحديث.

استدعاء المباحث العامة:

ومن المفاجآت التي أزعجتني قبل السفر: استدعاء المباحث العامة لي في وزارة الداخلية في «لاظوغلي» بالقاهرة، وكان الذي استدعاني هو الرائد أحمد راسخ «اللواء منذ سنوات» المسئول عن إخوان القاهرة خاصة، بالمباحث العامة، وقد استقبلني بلطف ونعومة. وقال لي: أريد أن تتعاون معنا من أجل مصلحة البلد.

قلت له: كلنا جنود من أجل مصلحة الوطن، ولكنني معار لعمل محدد هناك. وأنتم حذرتمونا أن نشتغل بالسياسة، فما لكم تريدون أن تعيدونا إليها؟ قال: لا نريدك أن تشتغل بالسياسة، ولكن إذا رأيت شيئًا مهمًّا، نرجو أن تبلغنا به. وهذا لا يكلفك إلا رسالة بريدية، وهذا عنواني.

وانصرفت من عنده مستغربًا من فكرة رجال الأمن الذين عمُوا عن معرفة معادن الناس، واعتقادهم أن كل إنسان صالح لأن يعمل لحسابهم، وأن يكون عينًا لهم، أو أذنًا لهم، وأنهم - بالتهديد المبطن- يستطيعون أن يجندوا حتى العلماء والدعاة، وهم في ذلك جد مخطئون. وسنعود إلى أحمد راسخ مرة بعد مرة في حينها.

إطلاق اللحية:

وجاء موعد السفر، ولبست جبتي وعمامتي، وكنت قد أعفيت لحيتي منذ أسابيع، إحياءً للسنة، ورجوعًا إلى ما كنت قد بدأت به من قبل دخولي إلى السجن الحربي... وكان إعفاء اللحية عند سفري أمرًا منطقيًّا وطبيعيًّا، فقد تغيرت الظروف التي أجبرتني على حلقها. وأنا ذاهب إلى مجتمع أغلب رجاله ملتحون، ولا يستغربون إطلاق اللحية، بل لعلهم يستغربون من عالِم الدين أن يكون حليقًا.

الطيارة الكوميت:

كان سفرنا بطبيعة الحال بالطائرة، وكنت قد ركبت الطائرة في رحلة قصيرة من قبل، من عمّان إلى القاهرة، ولكن كانت الطائرة صغيرة بمحركات. واليوم نركب طائرة نفاثة من نوع «كوميت»، وهي أول مرة تذهب من القاهرة إلى الدوحة، فقد كان المعارون قبلنا يستخدمون الطائرات ذات المحركات، وكانت الرحلة تستغرق ست ساعات، وربما أكثر، واليوم تستغرق هذه الرحلة نحو ثلاث ساعات، أي نصف زمن الطائرات السابقة.

وقرأنا أدعية السفر والركوب المأثورة، وحفّظتها لزوجتي لتقرأها معي: «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون»، اللهم هون علينا سفرنا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى.

لقد كنت أدعو بهذا الدعاء حين أركب القطار أو السيارة؛ فأولى أن أدعو به، ونحن معلقون في الفضاء. وقد قال طيار أمريكي: إن الإنسان أقرب ما يكون من الله، وهو في الجو، حيث لو حدث أي كرب، فلا منجاة من الله إلا إليه.

الوصول إلى الدوحة وحر الخليج:

ووصلنا الدوحة حوالي الساعة التاسعة مساءً، وعندما فتح باب الطائرة لننزل منها؛ فوجئنا لأول مرة بهذا اللهيب الذي يستقبلنا، وهذا الجو الخانق المشبع بالرطوبة والبخار، الذي لم يكن لنا عهد به، وإذا كان هذا هو الحال في الساعة التاسعة مساءً، فماذا يكون الحال في الهاجرة والشمس في كبد السماء؟

قال الإخوة الذي استقبلونا: هذا هو جو الخليج، ولا بد أن توطنوا أنفسكم على احتماله، والتعايش معه، فليس هو جو مصر، ولا جو الشام. والشاعر يقول:  البس لكل حالة لبوسها  **  إما نعيمها وإما بؤسها

كان في استقبالنا بعض الإخوة الأصدقاء، منهم: الشيخ محمد مصطفى الأعظمي، العالِم الهندي الذي يعمل أمينًا لمكتبة الدوحة، والأخ الشيخ عبد اللطيف زايد، الذي يعمل في وزارة المعارف منذ سنين، والأخ أحمد العسال، الذي كان قد سبقنا إلى الدوحة، واستضافنا عنده، وصحبنا في سيارة الأعظمي - وهي سيارة قديمة سقفها من القماش - إلى مسكنه لنبيت عنده في شقته.

صوت المكيف:

وأعطينا حجرة لننام فيها أنا وزوجتي وابنتاي، ولأول مرة أرى «المكيف» الذي يبرد الهواء، وأسمع صوته، وعندما أردنا النوم قلت لهم: هل ننام وهذا المكيف يزعجنا بصوته كالطاحونة؟ إنني لا يمكنني أن أنام وأنا أسمع أي صوت؟ قالوا: جرّب وأغلقه. وجربت وأغلقنا المكيف، فلم تمر دقائق حتى بدأ الجو يسخن، ثم يسخن، وقلت: مستحيل أن أنام في هذا العرق!

كان لا بد إذن من تشغيل المكيف، فهو ضرورة من ضرورات الحياة في تلك البلاد، أو على الأقل حاجة من حاجاتها الأساسية. وقد اعتادت آذاننا بعد ذلك على صوته، وربما أصبح مساعدًا على النوم، فهو يحجب عنا أصوات الشارع الآتية من الخارج، ثم تطورت صناعته وظهرت أنواع من المكيفات لا يكاد يُسمع لها صوت.

كان وصولي إلى الدوحة في غرة ربيع الآخر سنة 1381هـ الموافق 12-9-1961م الثاني عشر من شهر سبتمبر «أيلول» سنة واحد وستين وتسعمائة وألف.

لم أكن أعرف من أهل قطر غير رجلين:

ولم أكن عرفت من أهل قطر غير رجلين: أحدهما الشيخ عبد الله بن تركي، مفتش العلوم الشرعية، والذي لقيته في القاهرة أكثر من مرة، والذي طلبني من قديم من وزارة الأوقاف، ثم طلبني وألح في طلبي من الأزهر. وكان من مآثر الشيخ ابن تركي أنه هو الذي سعى بجد وحرص لجلب علماء الأزهر من مصر لتدريس العلوم الشرعية، وكان يعترف بذلك ويفتخر به.

الشيخ سحيم بن حمد:

والرجل الثاني الذي عرفته من أهل قطر: هو الشيخ سحيم بن حمد آل ثاني، الذي كان يزور مصر في الصيف، وكان معه معلمه الخاص الشيخ عليّ شحاته، وهو الذي أخبرني بوجود الشيخ، واستحسن مني أن أزوره، فهو من الشخصيات المهمة في قطر، فهو ابن عمر الحاكم، وأخو ولي العهد ونائب الحاكم.

وقلت للأخ الشيخ عليّ: إني أرحب بهذه الزيارة، فالرجل ضيف على مصر، ومن حقه علينا أن نكرم وفادته، ولا أقل من الزيارة. وزرته في فندق شبرد - على ما أذكر - وأهديت إليه كتابيّ: «الحلال والحرام»، و«العبادة في الإسلام».

البحث عن مسكن ملائم من مساكن الحكومة:

بدأنا منذ الصباح نبحث عن سكن مناسب لي أنا والعسال، بحيث نكون متجاورين، وكانت وزارة المعارف تسلم المدرسين سكنًا مؤثثًا، تشرف عليه إدارة الإسكان الحكومي. وبعد أن رأينا عدة شقق اخترنا شقتين متجاورتين في بيت من أربع شقق مكوّن من طابقين، أخذت أنا والعسال الشقتين العلويتين، وكان البيت ملك الشيخ ابن تركي. وقد قضينا في هذا البيت أربع سنوات، ثم جاء عليه الأمر بالإزالة حين أنشئ «جسر رأس أبي عبود» المعروف في الدوحة.

وكان علينا أن نجهز البيت بما يلزم من وسائل العيش: من السكر والأرز والسمن والزيت والملح والبصل وخلافه. ولم تكن لدينا سيارة، كما لا نعرف البلد، فكان الإخوة القدامى - جزاهم الله خيرًا - يساعدوننا في إحضار هذه الأشياء.

الشيخ عبد المعز عبد الستار:

وكان من المعارين من الأزهر إلى قطر: فضيلة أستاذنا الشيخ عبد المعز عبد الستار، أحد وعّاظ الأزهر المشهورين، وأحد دعاة الإخوان المرموقين، والذي طالما هز أعواد المنابر بصوته الجهوري، الذي يشق أجواء الفضاء، ويكاد يبلغ عنان السماء. وقد جئنا في سنة واحدة إلى قطر. كان الشيخ عبد المعز قد اختير ليساعد الشيخ ابن تركي في تفتيش العلوم الشرعية، كما اختُرت لأكون مديرًا للمعهد الديني الثانوي.

وكان من الإخوة الأزهريين الذين جاءوا معنا هذا العام: الأخ الشيخ عبد الرحمن الجبالي، وهو من أسرة الجبالي الصعيدية المعروفة، والتي تتصل بالنسب والقرابة مع أسرة الشيخ الإمام المراغي رحمه الله. وقد كنت تعرفت عليه من قبل عندما كنت في المكتب الفني للوعظ والإرشاد، وكان شخصية طيبة ذات مودة وعلاقات اجتماعية حسنة مع كل من يعرفه.