كانت الفكرة التي بيّتها في نفسي قبل قدومي إلى قطر: أني ذاهب إلى بلد جديد، لا يعرفني أهله، وعليَّ أن أنتهز هذه الفرصة، لأتفرغ للقراءة والكتابة، وأعوض ما فاتني من زمن لم أستخدم فيه القلم كما ينبغي.

والواقع أني كنت واهمًا، فقد سبقتني سمعتي قبل أن أحضر، وسرعان ما اكتشفني الناس بدون جهد، فمنذ أول درس ألقيته في جامع الشيوخ بعد خطبة الشيخ ابن تركي، ومنذ أول خطاب ألقيته في المدرسة الثانوية بمناسبة انفصال سورية عن مصر، وكان هذا الخطاب ذا طابع سياسي، كما كان درس جامع الشيوخ ذا طابع ديني، عرف أهل قطر شيئًا عن هذا القادم الجديد، وبعد فترة قليلة، دعاني الشيخ ابن تركي إلى إحياء ذكرى الإسراء والمعراج في المدرسة الثانوية، وكلما جاءت مناسبة دينية أو وطنية أو اجتماعية؛ دعيت إلى المشاركة فيها.

حتى جاء شهر رمضان المبارك، وكان ابن تركي قد سنَّ سنة حسنة في كل رمضان، وهو أن يرسل العلماء الأزهريين الذين يدرّسون العلوم الشرعية، إلى مساجد الدوحة وضواحيها، ومساجد القرى، ليلقوا فيها دروسًا، إما بعد العصر، وهو الغالب، أو بعد العشاء، ويوزع جدولًا في كل رمضان بالمدرسين ومساجدهم.

فلما جاء أول رمضان عليَّ في قطر؛ بعثني ابن تركي إلى مسجد الشيخ خليفة بن حمد ولي العهد نائب الحاكم المُقام أمام قصره، الذي فيه مسكنه ومكتبه؛ فكنت أذهب لأصلي العصر بالشيخ، ثم ألقي درسًا في تفسير آية، أو شرح حديث، أو الحديث عن موضوع معين بمناسبته، مثل الحديث عن غزوة بدر، أو فتح مكة، أو ليلة القدر، وهي مناسبات رمضانية معروفة، وكذلك الحديث عن فضل شهر رمضان أو أحكام الصيام في أول الشهر، وأحكام زكاة الفطر، وصلاة العيد في أواخر الشهر.

وكان هذا الدرس مفتوحًا للجميع يحضره جمٌّ غفير من الناس، وكان الشيخ خليفة نفسه حريصًا على حضوره باستمرار، لا يتخلف عنه إلا لمرض أو عذر. وفي هذا المسجد تعرفت على عدد من الأصدقاء، الذين كانوا حرّاصًا على حضور الدرس، منهم: الشيخ سلمان بن جاسم، الذي يحضر من أم قرن، ومنهم: الشيخ خالد بن حمد، أحد إخوة الشيخ خليفة، والذي توطدت علاقتي به، حتى أمست صداقة حميمة، وثيقة العرا، وقد كان يحضر من الريان القديم.

وكان الترتيب الذي وضعه ابن تركي أن أذهب إلى هذا المسجد نصف الشهر، ثم يبدلني، ويأتي بشيخ آخر بقية الشهر، من باب التنويع، وفعلًا بعد أسبوعين أرسل واحدًا آخر، وألقى درسًا، وفي نفس اليوم اتصل الشيخ خليفة بالشيخ ابن تركي، وقال له: لماذا غيرت القرضاوي؟ قال له: أردت أن أنوّع. قال: لا، أنا لا أريد تنويعًا، ولا أريد عالمًا غير القرضاوي.

وعدت ثانية إلى مسجد الشيخ خليفة، حتى تغير المسجد بمسجد آخر في الريان بعد أن نقل الشيخ قصره إلى الريان، وبعد أن أصبح هو حاكم قطر. ثم تغير مسجد الريان الكبير إلى مسجد داخل القصر، لا يأتيه إلا الخاصة، بناءً على توجيهات رجال الأمن، ولكن بقي حرص الشيخ على حضور الدرس بصفة دائمة، وإنصاته إليه، وكان في بعض الدروس يقول: أنت سلختنا النهاردة يا شيخ يوسف.

وظل هكذا حتى تولي ابنه الشيخ حمد الحكم، أي حوالي ستة وثلاثين رمضانًا، تخلفت فيها رمضانًا واحدًا عن هذه الدروس، وذلك في السنة التي أصبت فيها بانزلاق غضروفي، واضطررت للسفر لإجراء عملية في مدينة «بون» بألمانيا. أي أنني درست للشيخ (35) خمسة وثلاثين شهرًا رمضانيًّا.

صلاة التراويح بجزء من القرآن كل ليلة:

وكان لي نشاط آخر بجوار درس العصر، هو صلاة التراويح، فقد اقترح الأخ أحمد العسال، وكنا نسكن متجاورين في منطقة أم غويلينة: أن أؤمهم في صلاة التراويح بجزء من القرآن كل ليلة، كما كنا نفعل في رمضان الثاني بالسجن الحربي، بحيث نختم القرآن آخر رمضان، وأن تقام هذه الصلاة بالمسجد المجاور لنا، ومعنا بعض الإخوة الأزهريين الذين يسكنون بجوارنا، مثل: الشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ محمد المهدي، والشيخ عبد المحسن موسى، والشيخ سيد رجب.

قلت له: هذا اقتراح طيب، ولكن علينا أن نستأذن الإخوة القطريين الذين يصلون معنا في المسجد عادة، فربما يستطيلون هذه الصلاة، واستأذناهم ورحبوا.

وبدأنا الصلاة بصف أو صف ونصف في هذا المسجد الصغير - وهو مسجد جماعة - بمنطقة أم غويلينة، ويسمى: «مسجد الرفاع»، ولا أدري من هي غويلينة ولا أمها، ولكن جرت عادة الناس في قطر أن يضيفوا الأماكن إلى «الأم»، فهناك: أم سعيد «وهي ميناء تصديرالبترول»، و«أم باب» التي أقيم فيها مصنع الإسمنت بعد، وأم صلال، وأم قرن، وأم العمد، وغيرها. وقد تضاف الأماكن إلى «الأب» أحيانًا، مثل: «أبو الظلوف»، و«أبو هامور»، و«أبو عبود»: مثل ما يعرف في مصر بلاد مثل: «أبو حمص»، و«أبو المطامير»، و«أبو كبير»، و«أبو صوير».

وما هي إلا أيام حتى ازداد عدد المصلين، وخصوصًا من المصريين والفلسطينيين والباكستانيين والهنود. وكنت أصلي ثماني ركعات، غير الشفع والوتر، وبعد الأربع الأولى ألقي درسًا يدور حول آية أو أكثر من الآيات التي قرأناها، وأحيانًا أقدم الشيخ عبد المعز عبد الستار إذا حضر معنا، أو الشيخ العسال، لإلقاء الدرس.

وكانت طريقتي - ولا تزال إلى اليوم - أن أبدأ قراءة الجزء منذ صلاة العشاء، فأصلي العشاء بربعين، ثم ركعتين بربعين أخرى، ثم ركعتين بربع واحد، ثم الترويحة والدرس، والأرباع الثلاثة الباقية: مقسمة على الأربع الباقية من التراويح وركعتي الشفع، ثم الوتر وفيه القنوت.

وفي السنة الثانية، كثر رواد صلاة التراويح، وفي كل سنة يزداد العدد، وقد وُسِّع المسجد أيضًا، ولكنه ضاق بالمصلين، فانتقلت إلى مسجد أكبر في نفس المنطقة التي نسكن فيها، وهو مسجد «بنّة الدرويش» بنته على نفقتها، فنسب إليها، جزاها الله خيرًا، وهو مسجد جمعة كبير نسبيًّا، وقد لبثت فيه عدة سنوات.

ثم ازداد العدد والإقبال مع بروز الصحوة الإسلامية المعاصرة في أواسط السبعينات من القرن العشرين، فانتقلنا إلى جامع الشيوخ، وهو أكبر المساجد وأوسعها، ومع هذا كان يضيق بنا، ولا سيما في بعض الليالي مثل ليالي الجمعة والسبت، ويضيق أكثر وأكثر في ليلة السابع والعشرين من رمضان، وليلة ختم القرآن في آخر رمضان.

وفي السنوات الأخيرة بعد أن ابتليت بوجع الركبة، أصبحت أوكّل بعض الإخوة من أئمة وزارة الأوقاف في القيام بنصف الصلاة، وأقوم أنا بالنصف الآخر، فيما عدا ليلة الختم، فأنا حريص على أن أقرأ الجزء الثلاثين - جزء عم - كله، وأن أدعو وأطيل الدعاء، والحمد لله الذي منحني القوة على هذا، في حين يشكو بعض الشباب.

لك الحمد مولانا على كل نعمة  **  ومن جملة النعماء: قولي: لك الحمد!

لم أتخلف عن صلاة التراويح منذ ذهبت إلى قطر؛ إلا ذاك الرمضان الذي قضيته في علاج آلام الظهر بألمانيا، سنة 1405هـ - 1985م. والحق أني حينما أقبل شهر رمضان، وكنت على سرير مرضي، لا أستطيع التحرك منه، شعرت بحنين عجيب، وشوق حار إلى مسجدي بالدوحة، وإلى صلاة التراويح، وتلاوة القرآن، ودرس الترويحة، ودعاء القنوت، وتأمين المصلين، الذي يكاد يهز أركان المسجد، وفاضت دموعي، واضطرب قلبي بين ضلوعي، وانساب ذلك في شعر رقيق، كتبته وأنا على سريري، وبعثت به إلى الإخوة في قطر، في قصيدة نشرت في صحف قطر، ثم نشرت في ديواني «نفحات ولفحات» تحت عنوان: «رسالة شوق وحنين»، ومنها:

يا إخوةً في رضا ربي عرفتهم  **  في دوحةِ الخير، يا حياكم الله

هلا بعثتم شعاعًا من مساجدكم  **  تلوح منه لنا في «بون» أضواه؟

فلا أذانَ ولا قرآنَ نسمعه  **  ولا تراويحنا، وَاحرَّ قلباه!!

إنّي لأذكركم في كل أمسية  **  ذكرَ الغريب بعيد الدارِ مأواه

كم التقينا على ذكر وموعظة  **  وأفضلُ الذكر قرآن تلوناه

في موسم الطهر في رمضان **  الخير تجمعنا محبَّةُ الله لا مالٌ ولا جاه

مَن كل ذي خشية لله ذي ولع  **  بالخير تعرفُه دَوْمًا بسيماه

جيلٌ على الحبِّ والإيمان مرتبطٌ  **  قد عبَّرت عنه أرواحٌ وأفواه

إن أنْسَ أوجُهَهُم لم أنس رُوحَهم  **  وكلُّهم في نَقاءِ الروح أشباه

قد قدروا موسم الخيرات فاستبقوا  **  والاستباق هنا المحمود عقباه

صاموه قاموه إيمانًا ومحتسَبًا  **  أحَيوه طَوْعًا، وما في الخير إكراه

والوقت كالناس منه ما يموت وما  **  يحيا، فطوبى لمن بالذكر أحياه

وكلهم بات بالقرآن مندمجًا  **  كأنه الدم يسري في خلاياه

فالأذنُ سامعةٌ، والعينُ دامعةُ  **  والروحُ خاشعةٌ، والقلبُ أوَّاه

أحببتهم وأحبوني بلا غرض  **  إلا لقاءً على ربي وتقواه

ما كان لله يبقى دائمًا أبدًا  **  رغم الشدائدِ يلقاها وتلقاه

وما يقوم على دنيا ومنفعةٍ  **  فسوف ينهارُ ما لم تبقَ دنياه