أهم ما أذكره في هذه السنة: أن بعض الإخوة اقترح عليَّ أن أراسل جامعة «البنجاب» في لاهور بجمهورية باكستان الإسلامية، وهي جامعة عريقة، وفيها قسم للدراسات الإسلامية، ورئيس الجامعة العلامة علاء الدين الصديقي، الذي كان رئيسًا لقسم الدراسات الإسلامية من قبل، حين حصلت بعض طالبات القسم - جميلة شوكت - على درجة الماجستير عن بحثها حول كتاب: «الحلال والحرام في الإسلام».
قال المحبذون: فالجامعة تعرفك ولا تجهلك، ورئيسها يعرفك ولا ينكرك، وهو على صلة طيبة بالأستاذ العلامة أبي الأعلى المودودي، أمير الجماعة الإسلامية، الذي يكن له كل مودة وتقدير. ورأى هؤلاء الإخوة أن من الخير أن أكتب للأستاذ أبي الأعلى المودودي، وأعرض عليه الأمر، طالبًا مشورته بعد أن يكلم العلامة الصديقي.
وبادرت بكتابة رسالة إلى الإمام المودودي، شرحت له فيها الموقف، وانسداد الطرق في وجهي بالنسبة للدراسات العليا في مصر، ما دام الوضع الحالي باقيًا، وانفتاح فرجة أمامي في جامعة البنجاب... إلى آخر ما جاء في الرسالة.
وسرعان ما أجابني الأستاذ المودودي: أنه كلم صديقه البروفسور الصديقي، وأنه يرحب كل الترحيب بكم، وهو يعرفكم جيدًا، وكذلك أساتذة القسم الإسلامي في الجامعة، كلهم مرحبون ومتعاونون، ونصحني أن أسارع بالمجيء إلى لاهور، للتفاهم مع المختصين حول الخطوات التي يجب اتخاذها للوصول إلى الهدف.
وحمدتُ الله تعالى أن فتح لي هذا الباب، وعقدت النية على الذهاب إلى لاهور بمجرد انتهاء العام الدراسي، وكنا في أواخره.
وطويت صفحة السنة الدراسية في منتصف يونيو كالمعتاد، وبدأت أعد العدة للسفر إلى باكستان لأول مرة، وأرى هذا البلد الكبير الذي انفصل عن الهند الكبرى ليستقل بشعائره وشرائعه ومقوماته وخصائصه، دون أن يتعصب أحد ضده. وكانت باكستان في ذلك الوقت تعد أكبر دولة إسلامية في العالم، فقد كانت لا تزال تضم باكستان الغربية، وباكستان الشرقية، «التي انفصلت بعد ذلك وكونت جمهورية بنجلاديش».
جواز سفر قطري:
وكنت أسافر في ذلك الوقت بوثيقة قطرية تتجدد كل سنة، فذهبت إلى الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، نائب حاكم قطر وولي العهد، لأطلب منه تجديد الوثيقة، فسألني: أين تسافر هذا العام؟ فأخبرته بأني مسافر إلى باكستان للحصول على الدكتوراه بعد أن أغلق أمامي باب الأزهر، فقال لي: كنت وعدتك أن نرقي الوثيقة القطرية إلى شيء أفضل، وهذا أوان ذلك، سآمر بإعطائك جواز سفر قطري كاملًا، تأخذ به كل حقوق القطريين.
وأصدر أمره إلى السيد عليّ بن أحمد الأنصاري، مدير إدارة الجوازات والجنسية بتنفيذ ذلك فورًا، وفعلًا في الحال بدأ بالتنفيذ، وطلب مني بعض الصور، وصدر الجواز القطري لي ولزوجتي ولبناتي الأربع، وابني محمد، فلم يكن ابناي عبد الرحمن وأسامة ولدا بعد، وهكذا عوضني الله تعالى بجواز قطري أجوب به أنحاء الأرض، بعد تعنت السلطات المصرية معي، ورفضها تجديد جواز سفري، لترغمني على العودة إلى مصر، ولم يكن معقولًا أن أذهب برجلي طوعًا واختيارًا من الدار إلى النار.
أيام في كراتشي:
وقطعت التذكرة على الطائرة الباكستانية إلى كراتشي ثم إلى لاهور، ونزلت أولًا في كراتشي، فوجدت جوها أشبه بجو الخليج في الحرارة والرطوبة، وقد استقبلني الإخوة في الجماعة الإسلامية بكراتشي، وهم الذين حجزوا لي الفندق، وكان فندقًا متواضعًا، ولكنه يؤدي الغرض، وقد تعودنا العيش على ألوان الحياة بنعومتها وخشونتها، ووردها وشوكها، وأي مكان سيكون أفضل من السجن الحربي وأكثر رفاهية.
زرت الجماعة الإسلامية في مقرها، وكان أمير الجماعة في كراتشي - الأستاذ غلام محمد - غائبًا، والتقيت الموجودين من الجماعة، وألقيت كلمة في دار الجماعة، كما زرت بعض الشخصيات الإسلامية مثل: الأستاذ إسحاق ظفر الأنصاري «والد الدكتور ظفر إسحاق»، كما سألت عن الشيخ محمد شفيع العثماني، مفتي كراتشي «والد صديقنا الشيخ محمد تقي العثماني» فوجدته خارج كراتشي.
إلى مدينة لاهور ولقاء المودودي والجماعة الإسلامية:
وبعد يومين أو ثلاثة في كراتشي، امتطيت الطائرة إلى لاهور، ليستقبلني الإخوة أعضاء الجماعة الإسلامية، ومنهم: الأستاذ رحمة إلهي، الأمين العام للجماعة، مندوبًا من الأستاذ المودودي، ومعه الأخ الداعية الفاضل الشيخ خليل أحمد الحامدي مدير القسم العربي في الجماعة، والذي يتحدث العربية بطلاقة، وقد تعرفت عليه وتوثقت صلتي به من قبل. أبى إخواننا في الجماعة الإسلامية إلا أن ينزلوني ضيفًا عليهم، فاشترطت عليهم: أن تكون الضيافة لمدة ثلاثة أيام، ثم يدعوني وشأني.
وفي المساء لقيت الإمام المودودي في دار الجماعة، ورحب بي هو وإخوانه جميعًا، ولا سيما نائبه الأستاذ طفيل محمد، ورتبوا لي عددًا من اللقاءات بأعضاء الجماعة، وخصوصًا جمعية الطلبة المسلمين، التي توجهها الجماعة، وزيارة بعض البلاد حول مدينة لاهور، وعقد بعض المؤتمرات الصحفية.
ورحبت بهذا كله، ولكني طلبت أن يرتبوا لي زيارة لجامعة البنجاب، ومقابلة رئيسها وأساتذتها، حتى لا نضيع الأمر الذي جئت من أجله، وقالوا: هذا طبيعي ومنطقي بلا ريب.
تكريم في لاهور:
والحقيقة أن الإخوة في الجماعة الإسلامية أكرموني غاية الإكرام، وفي كل يوم يعزمنا أحدهم على وليمة، يدعى إليها مولانا المودودي وكبار الجماعة، وكان بعض الإخوة يريد أن يأخذ لنا صورة تذكارية بهذه المناسبة، ولكن المودودي - كعلماء باكستان والهند عمومًا - يشددون في أمر الصور، فكان الأستاذ المودودي يقول لهم: لا تتقيدوا بمذهبي في التصوير، وخذوا بمذهب القرضاوي الذي رجحه في «الحلال والحرام».
والعجيب أني لم آخذ معي شيئًا من هذه الصور، فليت أحدًا من الإخوة الذين يقتنونها - والذين لا زالوا في الأحياء - يتحفني بشيء منها، وله مني الشكر، ومن الله الأجر.
ومِن فضل الله تعالى: أن أكثر من جهة في لاهو، أخذت تكرمني وتحتفي بي، منها: جمعية علماء باكستان، ومنها: جامعة البنجاب، التي أقامت احتفالًا كبيرًا ودعت إليه جمعًا غفيرًا، وتحدث فيه عدد من الناس من الأساتذة والعلماء والدعاة، نسيت أسماءهم لطول المدة.
وزرت قسم الدراسات الإسلامية في الجامعة، والتقيت أساتذته وتحدثت إليهم، كما تحدثوا إليَّ، ولقيت الطالبة التي أخذت «الماجستير» عن كتابي: «الحلال والحرام» جميلة شوكت، وأظنها كانت حصلت على الدكتوراه وقتها.
لقاء رئيس الجامعة العلَّامة الصديقي:
ثم لقيت العلامة علاء الدين الصديقي، الذي أحسن استقبالي، وهش لي، وفتح صدره وجامعته لمساعدتي، وقال: نحن نضع كل ما في إمكاننا في معاونتك، ثم شرح لي الوضع في الجامعة، من ناحية الدراسات العليا، وقال: نحن عندنا نوعان من الدكتوراه: الدكتوراه المعتادة، وهي التي يقدم الدارس فيها أطروحته تحت إشراف أستاذ، حتى إذا أكملها، حددت له لجنة لمناقشتها، وفي النهاية يحصل على الدكتوراه بالدرجة التي يستحقها.
وهناك نوع آخر من الدكتوراه أعلى من الأولى، ويسمى: «دي لت»، وهذه درجة لا تعطى على أطروحة أو رسالة معينة، ولكنها تعطى على مجموع إنتاج الباحث، يقدر ذلك عدد من كبار العلماء. وهذه لا تمنح إلا للقلائل الذين لهم عطاء علمي متميز.
قال: أما النوع الأول، فهو يسبب لنا - بالنسبة لك - مشكلة؛ لأننا لا نجد من يشرف عليك، من هيئة التدريس عندنا، وهم يَعُدُّون أنفسهم في منزلة تلاميذك، ولذا أنا أقترح: أن تمنحك الجامعة الدكتوراه من النوع الآخر، وهو الأليق بك وبإنتاجك، وهذا يتطلب أن تقدم لنا عدة نسخ من كل ما كتبته، لنعرضه على عدد من كبار الأساتذة.
قلت له: إن كان ولا بد، فليكن على رأس هذا الإنتاج بحثي الكبير عن «فقه الزكاة»، وقد تعبت فيه نحو عشر سنوات، ولكنه لم يطبع بعد.
قال: هذا أفضل، ويجب أن تبادر بطبعه، وتقدمه مع سائر كتبك، وكلما سارعت كان أجدر بإنهاء الأمر على ما تحب، فإن الظروف قد تتغير.
قلت لهم: أمهلوني نحو خمسة أشهر أو ستة حتى يتم طبع الكتاب، وعلى الله التسهيل.
الإقامة في فندق السفراء:
وكنت قد استأذنت الجماعة الإسلامية بعد ضيافة ثلاثة الأيام، أن أنتقل إلى فندق مناسب أقضي فيه ما بقي لي من أيام في لاهور، وفعلًا نزلت فندق «أمباسدور» أو فندق السفراء، وهو ليس بعيدًا كثيرًا عن مقر الجماعة، ولكنه يحتاج إلى أن تركب «التاكسي» أو «الركشا» وهي العجلة أو السيارة الصغيرة أُم ثلاثة عجلات، وهي تسع شخصين يركبان في الخلف، ويقودها السائق، وكانت أجرتها رخيصة جدًّا.
ومن اللطائف في الأيام التي قضيتها في الفندق: أني بحثت عن «الجبنة» فلم أجد لها عند الباكستانيين أثرًا، ولم أسمع لها عندهم خبرًا، فهم لا يعرفون إلا اللبن الحليب أو اللبن الرايب أو لبن الزبادي يتناولونه محلّى بالسكر. وقلت للأخ خليل الحامدي ومساعده فيض الرحمان: ألا تعرف باكستان «الجبن» أبدًا؟ قال الشيخ خليل: باكستان لا تعرف «الجبن»، لكن تعرف الشجاعة! قلت له: إنما نبحث عن الجبن لنقضي عليه!
وأخيرًا بعد البحث في بعض المحلات الكبيرة، وجدوا بعض الجبن الإفرنجي، لا الجبن الأبيض، وعرفت من هذا الاختلاف بين الشعوب في عاداتها ومأكولاتها، فرغم أن الشعوب الهندية شعوب زراعية، لا تعرف الجبن، على حين نجد الفرس والأتراك والعرب والأوروبيين يتفننون في صناعة الأجبان بأشكال ومذاقات شتى.
نشاط متعدد تنظمه الجماعة:
قمت ببعض الأنشطة، وألقيت عددًا من المحاضرات، مع الطلبة المسلمين وغيرهم، وذكرت للإخوة التلاقي بين أفكار الجماعة الإسلامية، وأفكار الإخوان المسلمين، حتى قلت لهم: إن الإخوان المسلمين هم الجماعة الإسلامية في الشرق العربي، والجماعة الإسلامية هم الإخوان المسلمون في شبه القارة الهندية.
وأجرت بعض الصحف وبعض المجلات حوارات معي، كانت إجاباتي فيها مسددة بفضل الله وتوفيقه، كما نظم الإخوة مؤتمرًا صحفيًّا لي: أجبت فيه عن عدد من التساؤلات، التي طرحت، وكان الإخوة مسرورين بنتائج ذلك كله.
وكانت باكستان الشرقية - وعاصمتها دكّا - في ذلك الوقت في حالة من الاضطراب والغليان، وقال مولانا المودودي لي: ليتك تذهب إلى دكّا، فهي تحتاج إلى مثلك في هذا الوقت، الذي يعمل فيه دعاة الانفصال، مؤيدين من أعداء باكستان، وأعداء الإسلام. قال المودودي، إنك ستجد باكستان الشرقية جنة الله في أرضه، وأن أنهارها أشبه بالبحار.
ولكن الإخوة العارفين في الجماعة قالوا: إن تكثيف الشيخ نشاطه الدعوي والسياسي في هذا الوقت قد يعكر على الموضوع الذي جاء من أجله، وهو الحصول على الدكتوراه، فربما شوش بعض المغرضين أو الخصوم على الشيخ، ووضعوا العقبات في طريقه. ومن الأصوب والأرشد أن يخفف الشيخ من نشاطه في هذه الآونة، حتى يقضي حاجته.
ولذا توقفت عن النشاط العام إلا قليلًا، حتى ننتهي من تحقيق الهدف الذي جئت إلى لاهور أساسًا من أجله، وسأظل أذكر تلك الأيام الجميلة التي قضيتها في لاهور «ما يقرب من ثلاثة أسابيع» ولقاءاتي بالعلامة الإمام المودودي وإخوانه ورفقاء دربه في الدعوة إلى الله، جزاهم الله عني خيرًا.
وبعد أن لقيت رئيس الجامعة العلامة الصديقي، وغيّر باقتراحه المسار المعتاد للحصول على الدكتوراه؛ قررت السفر عائدًا إلى قطر، ومنها إلى بيروت؛ سعيًا إلى تقديم كتاب: «فقه الزكاة» للمطبعة.
مِن قطر إلى بيروت:
وعدت إلى قطر، لأصطحب أسرتي، ومسودة بحثي عن «الزكاة»، لنسافر إلى لبنان، ومن مطار بيروت استقللنا سيارة لتوصلنا إلى «سوق الغرب» للإقامة المؤقتة في «فندق فاروق» الذي اعتدنا النزول به، حتى نستأجر بيتًا مناسبًا لنا.
وبعد أيام قليلة عرفنا أن عددًا من إخواننا السوريين، مثل: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والأستاذ عدنان سعد الدين، قد استأجروا منازل لهم في قرية «قرنايل» وهي قريبة من قرية «حمانا» التي نزلنا بها صيف سنة 1965م، وأن بالقرب منهم منزلًا ملائمًا لنا، وقد زرتهم، ورأيت المنزل وحديقته الجميلة، ووجدته في غاية المناسبة لنا، وخصوصًا أننا نجاور الأخ أبا عامر عدنان سعد الدين، فهو الجار ذو القربى، وقد قال العرب من قديم: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق.
وانتقلت مع الأسرة من فندق فاروق إلى قرنايل، لنقيم بها ما بقي من الصيف، وهو حوالي شهرين، وننزل ما بين يوم وآخر إلى بيروت للقاء بعض الأحبة، وشراء بعض اللوازم، وقبل ذلك كله للاتفاق مع المطبعة ودار النشر على طبع الكتاب الذي اخترت له عنوان: «فقه الزكاة: دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة»، وكان الاتفاق مع صديقنا الأستاذ عادل عاقل، مدير دار الإرشاد للنشر، على أن يقوم بنشر الكتاب، وقد اتفق هو مع مطبعة «دار القلم» اللبنانية لتقوم بالطباعة.
وسلَّمت المطبعة قدرًا مناسبًا من الأصول لتبدأ الطباعة بسرعة ما أمكنها، فالزمن لا ينتظرنا، وجامعة البنجاب تستعجلنا، وكلما فرغوا من ملزمة وصححوها التصحيح الأوّلي، سلموا لي «البروفة» الأخيرة لأصححها وأعتمدها لتطبع بعد التصحيح.
وبدأنا العمل، ولكن الوقت كان قصيرًا، فلم ننجز من طبع الكتاب أكثر من خمس عشرة ملزمة، والكتاب كبير سيصدر في مجلدين... ولهذا اتفقت مع المطبعة على أن ترسل إليَّ ما تنجزه من الملازم إلى الدوحة في أثناء العام الدراسي، لأصححه وأرده على المطبعة، حتى لا نتعطل كثيرًا.
بيد أن هذا الاتفاق لم ينفذ إلا في نطاق محدود، ولم يرسلوا إليّ إلا عددًا قليلًا من الملازم، معتذرين بأعذار شتى، من انقطاع التيار الكهربائي، ومن إضراب العمال، وغير ذلك. ولم يتحقق ما رجوته أو ظننته من إمكان طباعة الكتاب في نحو ستة أشهر، فهذا كان ضربًا من التمني، وما كل ما يتمنى المرء يدركه.
وكان لا بد أن نتدارك ذلك في الصيف القادم (سنة 1970م) لنعوض هذه الأيام أو الأشهر التي ضاعت منا دون أن نحقق الإنجاز الموعود.
انقلابان عسكريان في الوطن العربي:
كنت أقضي الصيف في لبنان، للاستمتاع بمناخه وجماله، ولكن نسيم جبل لبنان لم يكن لينسينا ما يجرى في عالمنا العربي والإسلامي، فما يستطيع الإنسان أن ينفصل عن هموم أمته، كما لا يمكن للعضو الحي في الجسد إلا أن يحس بآلام سائر الجسد، فلا غرو أن نتابع بعقولنا وأعصابنا الأحداث الكبيرة التي تحدث في وطننا الكبير. ثم إن هذه الأحداث سيكون لها تأثيرها فينا في النهاية، شئنا أم أبينا.
وفي سنة 1969م حدث انقلابان عسكريان في الوطن العربي، كلاهما كان في الجناح الإفريقي من العالم العربي، وكلاهما مجاور لمصر: أحدهما في الجنوب، والآخر في الغرب، أحدهما في بلد جمهوري، والآخر في بلد ملكي.
انقلاب النميري في السودان:
الانقلاب الأول: وقع في مايو في جمهورية السودان، والذي قام به الجيش بقيادة جعفر نميري، والذي أطاح بالحكم الديمقراطي الذي جاء بعد انقلاب عبود. ولا ندري ماذا يحمل هذا الانقلاب الجديد للسودان؟ وإن كنت قد أصبحت أتوجس شرًّا من الانقلابات العسكرية، التي أمست في أوطاننا عدوًّا للحرية، ونقمة على الشعوب، تَعِدُ بالديمقراطية ولا تفي بما وعدت، ولا يستطيع أحد أن يحاسبها!
ترى هل يكون هذا الانقلاب الجديد مثل ما جربته شعوبنا من قبل: في مصر، وفي سوريا، وفي العراق، أم سيكون وجهًا آخر، يقلب النظام ثم يرد الحكم إلى المدنيين، وإلى الشعب يختار لنفسه من يراه أهلًا للولاية، ويتحمل مسئولية من يختار؟! ستجيبنا عن ذلك الأيام.
انقلاب القذافي في ليبيا:
والانقلاب الثاني: وقع في أول سبتمبر أو في الفاتح من سبتمبر في المملكة الليبية، فقد فوجئنا ونحن في لبنان في أول سبتمبر، بما أذاعته وكالات الأنباء، من وقوع انقلاب عسكري في ليبيا على الملك السنوسي، تقوده فئة من الشبان، ولا أدري هل ذكر اسم قائد الانقلاب في أول الأمر أم أجل بعض الوقت؟
وكان الملك إدريس السنوسي رجلًا صالحًا في نفسه، ولكنه أحيط ببطانة سوء، انحرفت بالحكم، وأساءت إلى البلاد والعباد، فكان لا بد من تغيير، وكان التغيير في العالم العربي أصبح له صيغة واحدة، في كل الأقطار، هي صيغة الانقلاب العسكري، منذ سن هذه السنة حسني الزعيم في سوريا، وتبعه الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر في مصر، وعلى دربهم سار عبد الكريم قاسم في العراق.
وأذكر أننا تناقشنا - نحن الإخوة المصيفين في لبنان - عقب سماعنا بنبأ الانقلاب أو الثورة كما سُمّيت بعد: هل تكون هذا الثورة خيرًا ورحمة للشعب الليبي، يطعم بها من جوع، ويأمن من خوف، ويعيش حرًّا سيدًا في أرضه، أو تكون صورة مشابهة لسائر الثورات التي فرح الناس بها في أول الأمر، وصفقوا بأيديهم، ورحبوا من أعماق قلوبهم؛ ثم ما لبثوا أن انقلب سرورهم غمًّا وفرحهم ترحًا، وأمسوا يتمنون اليوم الذي يتحررون فيه من نيرها وسوط عذابها، بعد أن جرعتهم كئوس الذل، وأذاقتهم عذاب الهون، ومرغت أنوفهم في التراب، فباتوا يتمنون أن تعود العهود البائدة، على ما كان فيها من فساد وانحراف، وأضحى يناسبهم قول الشاعر قديمًا:
دعوت على عمرو، فمات فسرني ** فبليت بأقوام، بكيت على عمرو!
وقلنا: لندع ذلك للأيام، فهي التي ستكشف الأصيل من الزائف، وتميز المحق من المبطل، ويبقى القانون الإلهي الذي لا يتخلف: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد:17).
محاولة إحراق المسجد الأقصى:
وقبل إعلان انقلاب القذافي بأيام وقع حادث مهم، كان له صدى واسع في أنحاء العالم الإسلام مشرقه ومغربه، وشماله وجنوبه؛ ذلك هو محاولة أحد اليهود إشعال النار في المسجد الأقصى، وقد شبت النار بالفعل في منبر صلاح الدين الأيوبي الشهير، والتهمت جزءًا منه، قام بذلك يهودي متحمس جاء من أستراليا لهذا الغرض، زعموا أنه مخبول ومصاب في عقله!! ليخففوا من هول جريمته، ويهونوا من وقعها على المسلمين في كل مكان.
ولكن أمة الإسلام هبت غاضبة ثائرة على الجريمة ومرتكبيها، وعلى الصهيونية الباغية، وعلى أمريكا المتحيزة بإطلاق للصهيونية، المساندة أبدًا لإسرائيل، وأظهرت الجماهير المسلمة، والشعوب المسلمة، سخطها على القادة والزعماء، المتهاونين في أمر القدس والمسجد الأقصى، المفرّطين في الدفاع عنه، وهو ما دفع ملوك ورؤساء المسلمين إلى أن يتنادوا ليجتمعوا للتشاور فيما يجب عمله لإنقاذ الموقف، ونصرة القدس وفلسطين؛ فاجتمعت أول قمة إسلامية في مدينة الرباط، وكان للملك فيصل بن عبد العزيز، دور بارز في الإيقاظ والتحريك والتجميع، وكان من جراء ذلك: السعي إلى إنشاء مؤسسة جديدة تمثل العالم الإسلامي، وتتحدث باسم أمة الإسلام.
وقد اختلفوا في الاسم الذي يطلقونه عليها، فاقترح بعضهم أن تسمى «جامعة الدول الإسلامية» على غرار «جامعة الدول العربية»، ولكن عدة دول اعترضت على ذلك، وقالت: نحن دول علمانية لا دول إسلامية!! وبعد أخذ ورد، وجذب وشد، انتهوا إلى تسميتها: «منظمة المؤتمر الإسلامي» نسبة إلى المؤتمر الذي ضمهم تحت رايته، وهو مؤتمر مؤقت، ولكن أضيفت إليه هذه المنظمة لأدنى ملابسة، كما يقول النحويون.
والآن وأنا أكتب هذه المذكرات (سنة 2004م) أرى رأي العين كيف تحاك المؤامرات من قبل الدولة الصهيونية، المسنودة بالقوة الأمريكية، بصورة شبه علنية، لهدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه!! والمسلمون لا يثورون ولا يتحركون كما تحركوا سنة 1969م، فهل نحن نترقى أم نحن ننحدر؟!
لقاء الشيخين الألباني وأبي غدة في منزل الشاويش:
ومما أذكره من أيام بيروت: أني لقيت فيها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المحدث الشهير للمرة الثانية. فقد كنت لقيته أول مرة في المدينة المنورة، في حجتي الثانية في صيف سنة 1964م، وتناقشنا في قضية التصوير الفوتوغرافي، حيث أخذ عليَّ أني أبيحه، كما أباحه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، وغيره من العلماء، والشيح الألباني يحرمه تحريمًا قاطعًا..
وقد ذكرت له الأحاديث الصحيحة التي استثنت من الصور «ما كان رقمًا في ثوب» وبيان العلة في التصوير: أنه «مضاهاة خلق الله»، وهذا التصوير لا يضاهي خلق الله، بل هو خلق الله نفسه، انعكس على الورق كما تنعكس الصورة في المرآة، ولا غرو أن يسميه أهل الخليج: «عكسًا»، ويسمون المصور: «العكاس»، والصور: «العكوس». ولكن الشيخ أصر على رأيه، ولم يتزحزح قيد شعرة.
واليوم ألقى الشيخ مرة أخرى، أظن ذلك كان سنة 1969م، وكان ذلك في منزل صديقنا وصديقه الشيخ زهير الشاويش، المحقق المعروف، وصاحب المكتب الإسلامي في دمشق وبيروت. وأظنه كان قد انتهى من تخريج أحاديث كتابي: «الحلال والحرام في الإسلام»، و«مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام؟».
وقد حييته على جهوده في خدمة السنة، ولا سيما في مجال التخريج والتصحيح والتضعيف، وتحقيق المصادر، ثم شكرته على عنايته بتخريج أحاديث كتبي. وقلت له: إنني ممن يدعون إلى ضرورة إيجاد قنطرة بين أهل الفقه وأهل الحديث؛ ليكونا معًا في خدمة العلم ونصرة الشريعة بالحق، وقد كان بعض السلف يقولون: لو كان الأمر بأيدينا لضربنا بالجريد كل فقيه لا يشتغل بالحديث، وكل محدث لا يشتغل بالفقه.
وكان من تفضله ولطفه: أن رحب بالتعاون بينه وبيني، بوصفه محدثًا مشهورًا، وبوصفي من المشتغلين بالفقه.
كما تعرفت في منزل الشيخ الشاويش على علامة حلب الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، الذي سمعت عنه قبل أن أراه، بوصفه من العلماء المتمكنين في الفقه والحديث والعربية، وغير ذلك من علوم الشرع واللغة.
ولكل من الشيخين مشرب يخالف مشرب الآخر، فالألباني سلفي قح متعصب لسلفيته، لا يجيز التأويل في العقيدة، ولا التمذهب في الفقه، إلى غير ذلك مما يتميز به الاتجاه السلفي، الذي يطلق عليه بعض الناس «الوهابي» نسبة إلى مجدد التوحيد في الجزيرة العربية الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وأبو غدة حنفي معروف بانتسابه إلى مذهب أبي حنيفة، أشعري معروف بانتمائه إلى مذهب أبي الحسن الأشعري، معتز بتتلمذه على علامة الأتراك الشيخ محمد زاهد الكوثري، وكيل مشيخة الإسلام في تركيا في عصر الخلافة، قبل أن يلغيها أتاتورك.
وقد قال لي الأخ الشيخ زهير الشاويش: إن أبا غدة أعلم تلاميذ الكوثري، وأرسخهم قدمًا. ومن المعروف: أن الكوثري عدو السلفية، وعدو ابن تيمية، وله كلام شديد في ابن تيمية تجاوز فيه الحد، ولا يوافقه عليه منصف. وقد أخبرني الشيخ أبو غدة بعد ذلك: أنه لا يوافق شيخه الكوثري على ما قاله في ابن تيمية.
اجتمع الشيخان في منزل الشيخ زهير بمنطقة الحازمية في لبنان أو قل: في مكتبته العامرة، وبدأ بينهما نقاش خفيف حول مسألة حديثية، لكنه يخفي وراءه مخزونًا من المرارة والحدة، لم تظهر في ذلك الوقت، لكنها ظهرت واشتدت واحتدت وتطورت بعد ذلك.
كان البادئ هو الشيخ أبا غدة، إذ قال للشيخ الألباني: نرى في كتب فضيلتك بعض أشياء لا نعرف وجهها؟
قال الألباني: مثل ماذا؟
قال أبو غدة: مثل تعقيبك على حديث رواه البخاري بقولك: صحيح، أو لا يكفي أن يكون رواه البخاري في «صحيحه» الذي تلقته الأمة بالقبول، حتى تعقب عليه بالتصحيح؟
وهنا تدخلت أنا محاولًا أن ألتمس وجهًا لتصحيح الشيخ، وقلت: لعله يريد بقوله: صحيح: أن الحديث ليس من الأحاديث التي انتقدت على البخاري!
وهنا قال الألباني: لا، ليس هذا ما أقصده. بل هذا منهج لي، التزمته ومضيت عليه: أن أعقب على كل حديث بالتصحيح أو التحسين أو التضعيف.
قال أبو غدة: تعقب على البخاري؟ أصح كتاب بعد كتاب الله؟ ألا تخشى أن يفهم القارئ من ذلك: أن جامع البخاري فيه الصحيح والضعيف، ولا بد من التمييز بينهما، كما في سائر الكتب التي جمعت بين الصحيح والضعيف؟
إلى هنا توقفت المناقشة على ما أذكر، ولكنها احتدمت، بل اشتعلت بعد ذلك في تقرير كتبه الشيخ أبو غدة على تخريج الألباني لشرح «عقيدة الطحاوي»، ورفع إلى جامعة الإمام محمد بن سعود.
ثم في رد الشيخ الألباني الشديد على هذا التقرير.
ثم في رد الشيخ أبي غدة على الرد.
ثم في التعليق على هذه المعركة من الشيخ الشاويش بـ «كلمات» من عنده، وقد كان هواه مع الألباني، بحسبانهما من مشرب واحد، ولا سيما قبل أن يختلفا ويشتد بينهما الخلاف في أمور غير فكرية ولا علمية.
لقد كانت معركة بين أهل العلم بعضهم وبعض لا لزوم لها، أثارت غبارًا ودخانًا زكم أنوف الفريقين، وأصاب كلًّا منهما بأضرار وآثار كان بالإمكان تفاديها، لو كان حُسن الظن والتسامح والجدال بالتي هي أحسن: شعار الفريقين.
وإذا كان الله تعالى قد نهانا عن أن نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وهم لا يؤمنون بديننا ولا بكتابنا ولا بنبينا؛ فكيف بجدالنا مع أهل الإسلام؟! وكيف إذا كانوا من أهل العلم وحملة كتاب الله، وخدام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر:10).