في شتاء هذا العام، وفي شهر ديسمبر (1970م): فرغت المطبعة من كتابي: «فقه الزكاة»، وظهر إلى عالم النشر والتوزيع في مجلدين، والحق أني فرحت به كما يفرح الوالد بولده، وفلذة كبده، ولا سيما أن ولادته لم تكن سهلة، فقد أخذت طباعته حوالي سنة ونصف، والحمد لله، قد تم على خير.

وبدأت أبعث بنسخ منه إلى كبار الشخصيات العلمية في قطر وبلاد الخليج من حولي، وبخاصة المملكة العربية السعودية، وإلى الهند وباكستان وغيرها.

ولقد استُقبل الكتاب بحفاوة وتقدير كبيرين، وجاءتني رسائل من عدد من الشخصيات المرموقة التي أهديت الكتاب إليها، منهم: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن زيد المحمود، والشيخ عليّ الطنطاوي، والشيخ أبو الأعلى المودودي، والشيخ أبو الحسن الندوي، والأستاذ محمد المبارك، والشيخ محمد الغزالي، وغيرهم ممن لا أذكره الآن.

وأثنى عليه الشيخ عليّ الطنطاوي في برنامجه في إذاعة السعودية، وفي برنامجه التليفزيوني «على مائدة الإفطار» في رمضان أكثر من مرة. وقال عنه الأستاذ أبو الأعلى المودودي: إنه كتاب القرن «أي الرابع عشر الهجري» في الفقه الإسلامي. نقل ذلك عنه الأستاذ خليل أحمد الحامدي، مدير القسم العربي بالجماعة الإسلامية بباكستان.

وكتب الأستاذ المبارك في مقدمة كتابه عن «الاقتصاد» في «نظام الإسلام» منوهًا به، ومنبهًا أهل العلم على قيمته، فقال: «ومن الكتب الحديثة ما هو خاص بموضوع معين، ومن هذا النوع كتاب: «فقه الزكاة» للأستاذ يوسف القرضاوي، وهو موسوعة فقهية في الزكاة استوعبت مسائلها القديمة والحديثة، وأحكامها النصية والاجتهادية على جميع المذاهب المعروفة المدونة، لم يقتصر فيها على المذاهب الأربعة، مع ذكر الأدلة ومناقشتها، وعرض لما حدث من قضايا ومسائل، مع نظرات تحليلية عميقة... وهو بالجملة عمل تنوء بمثله المجامع الفقهية، ويُعَدّ حدثًا مهمًّا في التأليف الفقهي... جزى الله مؤلفه خيرًا».

وقال عنه الشيخ محمد الغزالي: لم يؤلَف في الإسلام مثله في موضوعه. قال ذلك في كتابه: «مائة سؤال عن الإسلام». وجاءتني رسالة من الشيخ ابن باز يثني فيها على الكتاب، ويطلب كمية منه لتوزيعها على الجهات المختلفة في العالم لتنتفع به.

تأليف كتب للعلوم الشرعية وغيرها في قطر:

تحدثت من قبل عن تجربة تأليف كتب حديثة للعلوم الشرعية في قطر، كانت تمثل الريادة والطليعة في بلاد الخليج كلها. وكانت هذه الكتب في علوم التوحيد والفقه والبحوث الإسلامية. وقد استُقبلت هذه الكتب استقبالًا حسنًا في قطر وما حولها، وعُدَّت تجديدًا مطلوبًا في مجالاتها بدل الكتب القديمة التي كانت ألغازًا وعقدًا بالنسبة للطلاب.

وهذا النجاح شجع المسئولين في وزارة المعارف التي أصبح اسمها: «وزارة التربية» لتبدأ شوطًا أطول وأوسع في تأليف كتب حديثة في مناهج العلوم كلها: الدينية، والاجتماعية، والعلمية. وشكلت لجان للتأليف في مختلف المقررات، يشرف عليها مفتشو - أو موجّهو - كل مادة، ويشرف على جميع اللجان مدير المعارف الأستاذ كمال ناجي.

وقد شاركت في تأليف بضعة عشر كتابًا من كتب العلوم الشرعية من الحديث والتفسير والآداب وغيرها، بإشراف فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار، موجه العلوم الشرعية.

كما اشتركت أنا والأخ الأستاذ سليمان الستاوي في تأليف كتابين مهمين: أحدهما في مادة «المجتمع الإسلامي» لطلبة السنة الثانية الثانوية. والثاني «فلسفة الأخلاق» لطلبة السنة الثالثة الثانوية من المعهد الديني، بإشراف الأستاذ صالح جمال موجه العلوم الاجتماعية.

كما كلفت - أنا والأخوان الشيخ عليوة مصطفى والشيخ عليّ جماز - بتأليف كتاب من جزأين في علم التوحيد، لطلاب السنتين الأخيرتين من المرحلة الثانوية للمعهد الديني. وقد قسمنا موضوعات الكتاب علينا. فاخترت أن أكتب عن: الحاجة إلى العقيدة، وعن أدلة وجود الله تعالى، وعن الإيمان بالقدر، وعن اليهودية والنصرانية.

وقد لقي هذا الكتاب قبولًا عامًّا لدى المهمتين بتدريس العقيدة، وطلب كثير من الإخوة بالسعودية والبحرين والإمارات: أن نرسل إليهم نسخًا من الكتاب، ليدرسوه لطلابهم، أو على الأقل: ليقتبسوا منه.

كما ألفت وزارة التربية القطرية جملة وافرة من الكتب في المواد الاجتماعية كالجغرافيا والتاريخ، صححت فيها بعض المفاهيم الخاطئة، مثل: تدريس الفتح العثماني للبلاد العربية على أنه «استعمار». ولم يكن المسلمون ينظرون إليه هذه النظرة. فقد قام العثمانيون بدور مهم بعد سقوط الخلافة العباسية، وحموا البلاد العربية من الغزو الاستعماري الأوروبي عدة قرون.

وكان العرب يشاركون الأتراك في الحكم، ومنهم من وصل إلى مرتبة «الصدر الأعظم»، وإن لم يخل عهدهم من ظلم لا ريب فيه، أصاب العرب والأتراك جميعًا. إنما بدأ الأتراك ينحرفون حينما برز فيهم العلمانيون المتغربون، مثل دعاة «الاتحاد والترقي»، الذين تغلغل فيهم يهود الدونمة وأمثالهم.

وكان المشرفون على التأليف يرجعون إليَّ في المشكلات العلمية التي لها علاقة بالدين، كما فعل مؤلفو كتب «الأحياء» عند عرضهم للنظريات المختلفة في نشأة الحياة والإنسان. ومنهم الأستاذ توفيق القيسي موجّه العلوم، وموقفهم من نظرية النشوء والارتقاء التي قال بها «دارون»، فكلموا الأستاذ كمال ناجي، الذي كتب إليَّ يطلب رأيي حول الموضوع، فكتبت ردًّا في رسالة علمية مطولة.

خلاصتها: أنه لا مانع من عرض فكرة «دارون» على أنها «مجرد رأي» لا يبلغ أن يكون نظرية. وفيه ثغرات وتدليسات كثيرة، اكتشفها من جاءوا بعده، وبينوا أوجه الخلل والدخل فيما أعلنه من رأي. وقد رد كثير من علما الغرب البيولوجيين أنفسهم على «دارون»، كما خالفه تلاميذه أنفسهم بعد ذلك، وعدلوا في الفكرة بما أطلق عليه «الدراوينية الحديثة»، ولا سيما بعد ظهور قوانين الوراثة وثبوتها علميًّا بما لا يدع مجالًا لأي ارتياب.

كما كُتبت كتب بالعربية ردت على هذه النظرية من الوجهة العلمية، ومن الوجهة الإسلامية. وقد لخص ذلك علامة العرب الأستاذ عباس العقاد في كتابه: «الإنسان في القرآن الكريم». وأعتقد أن مسئولي الوزارة وتوجيه العلوم فيها: اقتنعوا برأيي هذا، وأخذوا به.

قضاء إجازة الصيف في لبنان:

وبعد انتهاء العالم الدراسي؛ سافرت أنا والأسرة كالعادة إلى لبنان لقضاء الإجازة هناك، وقد زادت أسرتي بعبد الرحمن واحدًا، فغدت الأسرة ثمانية أشخاص: أنا وزوجتي وبناتي الأربع، وابناي محمد وعبد الرحمن.

وفي لبنان استأجرنا منزلًا مناسبًا بسوق الغرب، وقد ألفناها وألفتنا. وإن كنت أنزل إلى بيروت مرتين أو ثلاثًا - وربما أكثر - في كل أسبوع؛ لأتصل بدور النشر التي أتعامل معها: المكتب الإسلامي، ودار الإرشاد، ومؤسسة الرسالة، ودار العربية. كما أزور المكتبات التي تبيع الكتب، لأشتري منها ما يهمني، وأصطحبه معي إلى قطر، فالمكتبات كالإنسان، تحتاج إلى زاد مستمر، حتى تحيا وتنمو.

وكذلك كان الإخوة في لبنان ينتهزون فرصة وجودي، فيرتبون لي بعض المحاضرات، لألقيها في بيروت، أو في صيدا، أو في طرابلس. فأجدها فرصة طيبة لألتقي بالجمهور اللبناني الكريم. وبهذا تجمع الإجازة بين المتعة والمنفعة. وهذا هو التوازن المطلوب.

عيادة الزعيم أحمد حسين:

وفي هذا الصيف - على ما أذكر - زرت الزعيم الوطني المصري الشهير أحمد حسين، الذي كان يعاني من مرض الشلل، وكان ينزل في فندق «رويال» في سوق الغرب، وكان معي أحد الإخوة، نسيت من هو، لعله العسال.

وقد تألمتُ كثيرًا لما أصاب الزعيم المجاهد، وأقعده عن الحركة، وأسكتَ لسانه عن الكلام، وطالما أيقظ بصرخاته النائمين، وحرك الساكنين، وأزعج الظالمين، وهو لا يعرفني، ولكني رأيت عيادته واجبة عليَّ؛ وفاء بحقه، وتقديرًا لمواقفه في نصرة الحق، ومقاومة الباطل، التي تمثل في الإنجليز وفي القصر الملكي، وفي الظلم الاجتماعي، الذي يشعر به كل من له قلب يحس، وعين ترى. ولا ينسى مصري ما نشرته صحيفته «الاشتراكية» قبل الثورة، من صور معبرة لضحايا الفقر والمرض والتشرد في مصر، وتحتها العبارة البليغة التي تغني عن أيّ بيان: «رعاياك يا مولاي!!».

لقاء مالك بن نبي في بيروت:

وفي هذا الصيف (1971م) على ما أذكر؛ لقيت في بيروت المفكر الجزائري المعروف الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، صاحب المؤلفات الشهيرة التي كتبها - في الأغلب - بالفرنسية، وتُرجمت إلى العربية، وكان لها صداها وأثرها وقراؤها والمعجبون بها.

وكان الذي اضطلع بعبء نقلها إلى العربية أخونا العالِم اللغوي الداعية الدكتور عبد الصبور شاهين، الذي ابتدأ بنقل كتابه: «شروط النهضة»، وبعده بعدد من الكتب التي تهتم بالنهوض الحضاري للأمة. ثم كتاب: «الظاهرة القرآنية» الذي كتب مقدمة الطبعة العربية منه: الأديب المحقق الأستاذ محمود محمد شاكر.

وكان للأستاذ عبد الصبور شاهين الفضل أو الأجر مرتين في تعريفنا بهذه الكتب: مرة؛ لأنه عرفنا - نحن أهل المشرق - بفكر مغربي أصيل، وفي العادة المتبعة في ذلك الوقت: لا يعرف أهل المشرق ما يُنشر من علم وفكر لدى أهل المغرب «شمالي إفريقيا» في حين يتلقف أهل المغرب كل ما يصدر في المشرق.

ومرة أخرى؛ لأنه نقلها من الفرنسية إلى العربية، وكثيرًا ما تضيع علينا كنوز من المعرفة؛ لأنها مكتوبة بلغة أخرى. ولا سيما أن الذين يعرفون الفرنسية في مصر: أقل بكثير ممن يعرفون الإنجليزية. وكان د. شاهين - وهو ابن الأزهر ودار العلوم - قد يسر الله له معرفة اللغة الفرنسية إلى درجة الإتقان، فنفع الله بها، وترجم إلينا كتب ابن نبي، ورسالة شيخنا الدكتور دراز «دستور الأخلاق في القرآن».

والحق أني سررت بلقاء الأستاذ ابن نبي، وتحدثنا قليلًا في بعض قضايا الأمة، ثم أهديته كتابي: «فقه الزكاة» الذي نشرته «دار الإرشاد» التي كنا نجلس في مقرها في بيروت، ولا أذكر هل أهديته بعض كتبي الأخرى أم لا؟

وكان مع الأستاذ مالك: الشاب السوري الباحث النابه المتعمق الأستاذ توفيق الطيب، الذي قرأت له الرسالة الصغيرة العميقة «ما بعد النكبتين». التي تبشر بمستقبل علمي واعد، وقدرة على التحليل والتعليل والتأصيل، ولكن للأسف لا أدري لماذا اختفت هذه الشخصية من عالم الكتّاب والباحثين، ولم تستمر في عطائها؟! إني أرى ذلك خسارة على العلم وأهله.

وهذا اللقاء بمالك بن نبي هو اللقاء الثاني لي، فأذكر أني لقيته في سنة 1964م حسبما أذكر، في القاهرة في مكتبة «دار العروبة» التي أسسها الأستاذ إسماعيل عبيد، الناشر الإسلامي المعروف. ففي إحدى زياراتي للمكتبة وجدته هناك، فحييته وصافحته بحرارة، وتحدثت معه عن كتبه وأهميتها في تنوير العقل المسلم، بما فيها من نظرات منهجية جديدة علينا نحن المشارقة في عرض المشكلات، والبحث عن حلول لها.

وأذكر أني ذكرت له - في تلك المقابلة - ملاحظة لي على مسألة في كتابه: «الظاهرة القرآنية» أراها مخالفة لما يقرره القرآن، وهي حديثه عن «فرعون»، وأنه لم يمت من الغرق، ولكنه نجا ببدنه، وفقًا لما جاء في سورة يونس: {فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗ} (يونس:92)، وأن هذه الحادثة غيرت مجرى حياته، وجعلته داعية إلى التوحيد. وهو الذي عُرف في تاريخ القدماء المصريين باسم: «إخناتون»!!

قلت له: إن من يقرأ القرآن بتدبر؛ يستيقن أن فرعون هلك غريقًا، ولم يُقبل إيمانه الذي أعلنه عند غرقه، كما قال القرآن صراحة: {ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ عَصَيۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (يونس:91)، وقال تعالى عن فرعون وموقفه من بني إسرائيل: {فَأَرَادَ أَن يَسۡتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ فَأَغۡرَقۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ جَمِيعٗا} (الإسراء: 103).

وفي سورة أخرى قال تعالى: {فَأَخَذۡنَٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ * وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ * وَأَتۡبَعۡنَٰهُمۡ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ هُم مِّنَ ٱلۡمَقۡبُوحِينَ} (القصص:40-42)، وفي سورة أخرى قال: {يَقۡدُمُ قَوۡمَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَأَوۡرَدَهُمُ ٱلنَّارَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡوِرۡدُ ٱلۡمَوۡرُودُ * وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِۦ لَعۡنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ..} (هود:98-99).

ولا يمكن أن يُفهم من هذه الآيات: أن فرعون نجا بعد أن نُبذ في اليم، وتاب وغيّر وجهته، ودعا إلى التوحيد؛ والآيات تجعله من أئمة أهل النار، وتتبعه في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة!!

قلت هذا للأستاذ ابن نبي، وهو كلام واضح مؤيد بالدليل، ولكنه للأسف قال: إنه اختار هذا الرأي، أو هذا التحليل؛ لأنه يروق للمستشرقين، وهو أقرب إلى ذهنيتهم، فأردت أن أكسبهم إلى جانبنا بذلك!

فقلت له: تكسبهم، ولو كان على حساب الحقيقة العلمية؟!

وانصرفت، ولم يكن الأستاذ يعرفني أو يعرف عني شيئًا، وكنت لم أزل مغمورًا بالنسبة له؛ ولذا لم يعبأ كثيرًا بما قلت له. وأحسب أن رأيه لا زال مسطورًا في كتابه. كما لا أحسب أحدًا نبهه إلى ذلك غيري. ولم أُذكِّره بهذا النقاش في هذا اللقاء.

تأسيس تليفزيون قطر:

بعد نجاح قطر في إذاعتها التي سمع العالم صوتها من الدوحة؛ كان لا بد أن تستكمل مسيرتها الإعلامية بـ «تليفزيون قطر» الذي أنشئ له مبنى خاص قريب من الإذاعة.

وقد افتتح مبنى التليفزيون الجديد في شهر يوليو «تموز» سنة 1970م، وكنت أقضي إجازة الصيف في لبنان، وكان المسئولون عن التليفزيون وعن الإعلام عامة، يرون ألّا يظهر التليفزيون إلا وفيه برنامج ديني ينوّر المشاهدين فيما يتعلق بالدين، ويجيب عن تساؤلاتهم.

فأرسلوا إليَّ في لبنان: أن أسجل ست حلقات في أحد أستوديوهات بيروت - نسيت اسمه - فسجلت هذه الحلقات بالثوب والغطرة، إذ لم أحمل الجبة والعمامة معي في ذلك الصيف، بل كنت ألبس «البذلة الإفرنجية» في الإجازة، وليس مناسبًا لي أن أظهر بها على الشاشة. فسجلت هذه الحلقات الستة بالدشداشة، وأُرسلت إلى الدوحة.

ولأول مرة أكتشف المعاناة في التسجيل للتليفزيون، فقد كان التسجيل للإذاعة في غاية السهولة واليسر. أما في التليفزيون، فقد عانيت ما عانيت في ترتيب الأضواء، وضبط الصورة، والاطمئنان على الصوت، و ... و ... وكان الأستديو غير مكيف، فكنت أتصبب عرقًا، برغم أن لبسي خفيف، فقلت: الحمد لله أن الجبة والعمامة لم تكونا معي. وكانت هذه الأحاديث: عبارة عن «دروس إسلامية» كل درس يعالج موضوعًا معينًا.


في برنامج «هدي الإسلام»

وبعد العودة إلى الدوحة لقيت مدير الإعلام، وهو الصحفي الإعلامي الكبير الأستاذ محمود الشريف، «وزير الإعلام في الأردن فيما بعد»، شقيق صديقنا الأستاذ كامل الشريف، فتعرفت عليه لأول مرة، وكان معه مدير التليفزيون: الأستاذ جواد مَرَقة، وتحدثنا حول البرنامج الديني والصورة التي ينبغي أن يقدم بها.

فاقترحت عليهم أن يكون البرنامج إجابة عن أسئلة المشاهدين، التي تأتي إلى البرنامج عن طريق رسائلهم المكتوبة، وأنا الذي أتلقاها من التليفزيون وأجيب عنها، دون الحاجة إلى محاور. واستحسن مدير الإعلام ومدير التليفزيون هذه الفكرة، وقالوا: يمكننا أن نأتي بمن يساعدك في تلقي الرسائل وترتيبها، ويمكن أن ندفع له مبلغًا مقابل ذلك. واقترحت عليهم سكرتيري في المعهد الديني: الأستاذ يوسف السطري «الحمايدة». وقام بهذا الدور فترة ثم انقطع، وأصبحت أعده حتى الآن بلا مساعد. واقترح الأستاذ محمود الشريف أن يطلق عليه: «هدْي الإسلام» ورحبت بالتسمية، وقلنا: على بركة الله.

كان البرنامج في أول الأمر: ثلث ساعة، ثم وُجد أن هذا الوقت لا يكفي للرد على الرسائل التي كانت تأتي بكثافة؛ فزيد إلى نصف ساعة، ثم زيد بعد سنوات إلى (50) دقيقة.

وكان لهذا البرنامج عشاقه ومريدوه ومتابعوه من قطر، ومن بلاد الخليج، وخصوصًا: البحرين، والإمارات، والمنطقة الشرقية من السعودية، وبعد أن تحول تليفزيون قطر إلى «قناة فضائية» أصبح هذا البرنامج يشاهد في بلاد المغرب العربي وغيرها، وغدت تأتيني أسئلة شتى من هذه البلاد.

وفقد هذا البرنامج بريقه نسبيًّا بظهور «قناة الجزيرة»، وبرنامج «الشريعة والحياة» بها، الذي أمسى يشاهده الملايين من أنحاء العالم، من كل من يعرف العربية؛ وذلك لمزية فيه لا توجد في «هدْي الإسلام»، وهي: أنه برنامج على الهواء، وهذا يمنحه جدة وحيوية.

كما قدمت للتليفزيون القطري: برامج رمضانية تحت عنوان: «في رحاب القرآن»، وبعضها تحت عنوان: «من مشكاة النبوة». وقد استمرت سنين طويلة، ولم أنقطع عنها إلا منذ بضع سنوات، بعد أن تضاعفت عليَّ الواجبات، وضاقت الأوقات. والله المستعان.