أيلول الأسود:

في أوائل شهر سبتمبر سنة 1970؛ هزت العالم العربي مأساة هائلة لا ينساها التاريخ، وقعت تحت سمع العرب وبصرهم، في عاصمة عربية معروفة غير منكورة، هي «عمّان» عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية! إنها مأساة «أيلول الأسود» التي قُتل فيها جمٌّ غفير من أبناء فلسطين في ثلاثة أيام، برصاص الجيش الأردني الباسل!! وهجماته العنترية على إخوانه الفلسطينيين، ومنهم من قُتل في قلب منزله، وربما قُتلت معه زوجته وأولاده، أو بعض أولاده، مثل صديقنا العالم الأزهري الشيخ عزت الشريف عليه رحمة الله.

صحيح أن أعضاء «فتح» كانوا قد تجاوزوا في تصرفاتهم، وارتكبوا بعض الأخطاء في حق المواطنين في عمان، وأصبحوا دولة داخل الدولة، ولم يعودوا يعبأون بسلطة ولا قانون، ولم تبادر القيادة المسئولة بتأديب هؤلاء. ومثل هذا لا تصبر عليه دولة ترى لنفسها السيادة على أرضها.

ولكن ألم يكن ممكنًا توسيط بعض القادة العرب لحل المشكلة، وإخماد النار؟ ثم لماذا الضرب بكل هذه القسوة وهذا الجبروت؟ إننا لم نستعمل هذه القسوة والوحشية مع الصهاينة الذين اغتصبوا أرضنا، وسفكوا دماءنا، وشردوا أهلنا، ودنّسوا مقدساتنا، فكيف نستعملها مع إخواننا، الذين هم منا ونحن منهم؟ أليس الشاعر العربي يقول:    

أخاك أخاك! إن من لا أخًا له  **  كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح!

وإن ابن عم المرء - فاعلم - جناحه  **  وهل ينهض البازي بغير جناح؟

فكيف كسرنا سلاحنا، وكيف هضنا جناحنا؟! وكيف نقاوم بغير سلاح أو نطير بغير جناج؟!

وإني لأعجب كل العجب من قسوتنا - نحن العرب - بعضنا على بعض، في حين وصف الله أصحاب رسوله بقوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡ} (الفتح:29)، كما وصف الله الجيل المرتقب لنصرة الإسلام عندما يمرق المارقون، ويرتد المرتدون، بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ} (المائدة:54)، وليس المقصود بالكافرين هنا: مجرد غير المسلمين، بل الذين يعادونهم ويقاتلونهم ويفتنونهم عن دينهم. فإن الله لم ينهنا عن الذين لم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا: أن نبرهم ونقسط إليهم، فهو يحب المقسطين.

وهذه إحدى العبر من هذه المأساة: أننا عند الخصومة ننسى كل الروابط التي تربطنا، ويتعامل بعضنا مع بعض بشراسة ووحشية لا نتعامل بها مع أشد الناس عداوة لنا.

وعبرة أخرى نأخذها من هذه المأساة؛ وهي: أن أي جماعة شعبية مسلحة لا يمكن أن تقاوم قوة الجيش النظامي المسلح، فقد كانت فتح تملك الرجال، وتملك السلاح، وكانت متمركزة في أسفل العمارات وفي أعلاها، وكانت مسنودة محليًّا، ومسنودة عربيًّا، بل مسنودة من قوى كبرى مثل روسيا، ومع هذا حين اصطدمت بقوة الجيش، لم تستطع الصمود أمامه، فهو يملك من المعدات الثقيلة، والإمكانات الكبيرة ما لا تملكه فتح؛ ولهذا تمكن من ضربها في مقاتلها، ومحاصرتها في مواقعها، والقضاء على قوتها، في وقت قصير.

وفي هذا عبرة للجماعات الشعبية، التي تفكر في الاستيلاء على السلطة بعمل عسكري، ضد قوات الدولة المسلحة، فهذا تفكير سطحي، وإغراق في الخيال، فإن الجيوش النظامية، والقوات المسلحة، بما تملك من أسلحة وعتاد وطاقات هائلة: قادرة على سحق مثل هذه المحاولات المحدودة القدرة، مهما يكن عند القائمين عليها ما لا يجحد من فضائل الشجاعة والبطولة وحب البذل في سبيل الله.

ولقد سجلت هذا في أكثر من كتاب لي، وخصوصًا «الحلول المستوردة»، و«الحل الإسلامي» كيْ أحذر الإسلاميين من التورط في تفكير كهذا، فهو لا يحقق هدفًا، إلا القتل والدمار، وما يشبه الانتحار.

وصفي التل:

جرت هذه المأساة في عهد حكومة وصفي التل، رئيس وزراء الأردن، الذي باء بوزرها، وحمل تبعتها، أمام الله، وأمام العرب، وأمام التاريخ.

وقد غلى مرجل الغضب بين الفلسطينيين خاصة، وبين العرب والمسلمين عامة، على وصفي التل، وانصبت عليه اللعنات من كل جانب؛ لأنه هو الذي تولى كِبْر هذا الأمر، وهو الذي أصدر الأوامر، ووجه النداء إلى وزير الدفاع وإلى الجيش.

حتى لو صدرت إليه الأوامر من الملك، فهو الذي يتولى التنفيذ، وكان يمكنه أن يرفض ويقدم استقالته، وكان يمكن أن ينفذ الأمر بصورة أرفق وأوفق، ولا يحمل عارها وشنارها عند الله وعند الناس أجمعين.

ولا عجب أن شهد العرب وشهد العالم: الانتقام السريع من وصفي التل، وهو يشارك في اجتماع في القاهرة دعا إليه عبد الناصر. فوجه شاب فلسطيني إلى صدره عدة رصاصات، فأردته قتيلًا. ولا ريب أن العنف لا يولّد إلا عنفًا.

ميلاد ابني عبد الرحمن:

وفي الثامن عشر من هذا الشهر - سبتمبر 1970م - ولد ابني - الذكر الثاني - عبد الرحمن. فمنذ ابنتي أسماء: آثرنا أن نختار لأولادنا أسماء تراثية، من أسماء الأنبياء أو أسماء الصحابة والسلف. وقد جاء في الحديث الصحيح: «أحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن»(1)، وكنت أوثر اسم «عبد الله» لأنه اسم أبي، وفي ذلك إحياء لذكره. ولكن زوجتي فضلت اسم عبد الرحمن، فلم أحب أن أرفض رغبتها.

والمصريون يسمون كثيرًا «عبد الله» وغيره مما عبّد لله، كعبد العزيز، وعبد الحميد، وعبد القادر، وعبد اللطيف، ونحوها، ويروون في ذلك حديثًا يقول: «خير الأسماء: ما حمّد، وما عبّد»، ومعنى «ما حمّد»: أي ما اشتق من الحمد، مثل: محمد، وأحمد، ومحمود، وحامد، ونحوها. ولكن الحديث لا أصل له، بَيْد أن أسماء التعبيد لله: مقيسة على اسم عبد الله وعبد الرحمن، وقد صح بهما الحديث. ولا يكاد يعرف بين الصحابة من الأسماء المعبدة لله غير اسمَيْ عبد الله وعبد الرحمن.

كان عبد الرحمن سليم الجسم، معافى في بدنه، ولكنه من صغره كان يشكو من التهاب اللوز باستمرار، حتى كدنا نجري له عملية لاستئصالها، لولا أن صديقنا الدكتور شوقي الصيرفي الطبيب الشهير في الأنف والأذن والحنجرة، نصحنا بأن لا نجريها، وطالبنا بالصبر عليه، حتى يكبر قليلًا، وسيشفى منها بإذن الله، وقد كان.

موت عبد الناصر:

وفي هذا الشهر نفسه، وفي يوم (28) منه؛ أُعلن نبأ هائل على العالم العربي، إنه موت عبد الناصر. وفي هذه الليلة اتصل الأخ الأستاذ عبد البديع صقر بي، وقال: إن إذاعة القاهرة أوقفت كل برامجها، ولا تذيع إلا القرآن، و«المارشات» العسكرية، وكذلك إذاعة «صوت العرب». ويبدو أن عبد الناصر مات، ويتوقع إذاعة الخبر بعد قليل.

ولم تمض إلا برهة قليلة، حتى سمع الناس صوت أنور السادات ينعَى إلى الشعب المصري، وإلى الأمة العربية: رجلًا من أعز الرجال، ومن أغلى الرجال!

الصوت الذي أعلن البيان الأول لثورة (23) يوليو، أو لانقلاب (23) يوليو، هو نفس الصوت الذي أذاع نبأ وفاة الرجل الذي فجر هذه الثورة.

لا شماتة في الموت، وكلنا من هذه الكأس شاربون، وإلى هذا المصير ذاهبون. ولكننا - نحن الإخوان - بشر، يحكمنا ما يحكم البشر من عواطف ومشاعر. فقد مات الرجل الذي قهرنا وأذل كبرياءنا، وذقنا على يديه ألوان العذاب...

الرجل الذي سجن رجالنا، وسجن كل من يساعد أسرنا بعشرة قروش، حتى يموت أولادنا من الجوع، وتضطر نساؤنا إلى مد اليد، أو ما هو أكثر من ذلك، تحت قهر الحاجة، وعضة الجوع، والجوع كافر لا يرحم...

الرجل الذي علق المشانق لدعاتنا وعلمائنا: عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، وسيد قطب، وغيرهم. والذي قتل أكثر من عشرين منا جهرة في ليمان طرة، وقتل آخرين خفية في أتون التعذيب... وتحت لهيب السياط والكي بالنار، وغيرها من الآليات المستوردة من النازية والشيوعية.

الرجل الذي حاربنا في أرزاقنا، ومنعنا من حقنا في وظائف الدولة، ونحن أولى الناس بها، بمقتضى مؤهلاتنا، وتقدمنا في ترتيب الناجحين، وألجأنا إلى أن نطرق أبواب المنشآت والمدارس الخاصة، ليردنا من يردنا، ويقبلنا من يقبلنا على هون!

الرجل الذي سلط علينا أجهزة إعلامه - مقروءة ومسموعة ومرئية - لتفتري علينا الأكاذيب، وتتقول علينا الأقاويل، وتشوه وجه دعوتنا، وترمي بالإفك رجالنا، ولا تمكننا من أن نقول كلمة في رد البهتان، وتفنيد الافتراء.

الرجل الذي أغلق دُورنا، وعطل مسيرتنا، وعوق دعوتنا، وجمد حركتنا، في حين أطلق الحرية للشيوعيين واللادينيين!

لقد مات الرجل المسئول الأول عن ذلك كله، فمن حقنا أن نتنفس الصعداء، وأن نستبشر بموته، وأن نتوقع تغييرًا من وراء ذلك يكون في صالحنا، وفي صالح دعوتنا ووطننا وأمتنا، {فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا * إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا} (الشرح:5-6).

هكذا كان موقفنا نحن الإخوان المسلمين الذين أصابنا ما أصابنا في عهد عبد الناصر، وكنا من ضحايا جبروت هذا النظام الشمولي الطاغوي الذي قهرنا وقهر شعب مصر كله معنا.

ومع هذا رأينا كثيرًا من الإخوان ترحموا على عبد الناصر، برغم ما نالهم من ظلمه وأذاه. نُقِل ذلك عن الأستاذ فريد عبد الخالق أحد قادة الإخوان المعروفين، ومن رفقاء حسن البنا. ونقل ذلك عن الأستاذ عمر التلمساني، حيث أبلغه أحد الإخوة - وهو في السجن - نبأ وفاة عبد الناصر، وكان الأخ متهللًا فرحًا، شماتة بموت عبد الناصر، فما كان من الأستاذ عمر التلمساني إلا أن قال له: الله يرحمه! فدهش الأخ لهذا الرد الذي لم يكن يتوقعه، فقال له الأستاذ عمر: يا أخي، إن عبد الناصر قد أفضى إلى ما قدم، وأمره موكول إلى الله!

اختلفت المواقف في تقييم عبد الناصر، ولكن جماهير شعبنا المصري وشعبنا العربي: حزنت على عبد الناصر، وبكت عليه، وخرجت جموعها بعشرات الألوف، ومئات الألوف، مودعة حزينة منتحبة.

خواطر حول الموت:

إن شعبنا المصري شعب عاطفي، تهزه المصائب، وتغلب عليه الأحزان، ويبكي على الموتى بحرارة وحرقة؛ ولهذا بكى عبد الناصر، الذي مات فجأة، ومات قبل سن الشيخوخة المعتاد، ولم تجد معه محاولة الأطباء، ولا أنواع الدواء، وقد اجتمع حوله من النطاسيين والخبراء أكبرهم قدرًا، وأثقلهم وزنًا، ولكن الداء إذا كان من السماء؛ بطل الدواء، وعز الشفاء، {وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَاۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (المنافقون:11).

هذه نهاية كل حي: أن يموت، وأن يوارى في حفرة، وأن يدع الأهل والولد، والأعوان والخلان، وأن يواجه وحده عمله في حفرته أو في قبره.

هذه نهاية الرسل والأنبياء، كما قال الله لرسوله: {إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عِندَ رَبِّكُمۡ تَخۡتَصِمُونَ} (الزمر:30-31)، وقال له: {وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ * كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةٗۖ وَإِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ} (الأنبياء:34-35).

وهذه نهاية الملوك والأمراء والأباطرة وغيرهم من أصحاب السلطان، وذوي الهيل والهيلمان، ممن ملكوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وممن كانت الجيوش الجرارة تحرسهم، والرجال الأقوياء تخدمهم، والشعوب رهن إشارتهم، وطوع إرادتهم، ثم أتاهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات: الموت، ففارقوا هذا كله، ولم يغن عنهم هذا كله من الله شيئًا! فارقوه مكرهين، وواجهوا مصيرهم منفردين. ولسان حالهم يقول: {مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ} (الحاقة:28-29)، أو يقول ما قاله أحد الملوك الكبار من المسلمين، وهو على فراش الموت: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه!

طافت هذه الأفكار والأحاسيس بخاطري بعد موت عبد الناصر. وقلت في نفسي: لماذا لا يعتبر الناس بالموت؟ فلماذا ينسى كل حي أنه ولد ليموت؟ لماذا ينسى المرء مَن شيعه من أقارب وأحبة وأصدقاء وواراهم التراب؟ لماذا ينسى الملوك والرؤساء أن الملك لو دام لمن قبلهم ما وصل إليهم؟ وأنه سينتقل منهم إلى من بعدهم؟

هذه خواطر واعظ أو داعية، لن تغير من الواقع شيئًا. فالناس هم الناس، يدفنون الموتى بأيديهم، ثم يعودون من دفنهم، ليمارسوا حياتهم، وكأن شيئًا لم يكن. ولعل هذه الغفلة عن مصيبة الموت من نعمة الله على الإنسان، حتى تَعْمُر الأرض، وتستمر ساقية الحياة تدور ولا تتوقف. ولكن زيادة هذه الغفلة واستمرارها هو الخطر الذي لا يليق بأهل الإيمان.

موقف قطر وأهل الخليج:

كان وقع موت عبد الناصر شديدًا على أهل قطر، وأهل الخليج عامة، فقد كانوا - بصفة عامة - معجبين به، محبين له، فهو الزعيم الذي أشعرهم بوجودهم، أمام الاستعمار المتغطرس، وقد كانوا منسيين لا يحس بهم أحد، حتى ظهر «صوت العرب» من القاهرة يناديهم بصوت جهوري: أخي في عُمَان، أخي في دبي، أخي في قطر، أخي في البحرين.

وكان صوت أحمد سعيد، مدير صوت العرب، ورفقائه الأولين: محمد أبو الفتوح، ومحمد عروق، وسيد الغضبان، وغيرهم، يحرك الساكن، ويثير الكامن، في هؤلاء العرب على ضفاف الخليج، الذي كان يسمى: «الخليج الفارسي» فأصبح لسان الإعلام الجديد، يطلق عليه: «الخليج العربي». وقد تعلقت قلوب أهل الخليج أكثر بعبد الناصر، حين «أمّم» قناة السويس، وواجه التحدي الغربي، الذي تمثل في العدوان الثلاثي: «بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل» على مصر، وإعلان عبد الناصر من منبر الأزهر: سنقاتل، سنقاتل.

كما وقف عبد الناصر في وجه الغرب حين خرج من أسر احتكار السلاح، واشترى سلاحه من المعسكر الشرقي الشيوعي... ثم تحدى أمريكا في بناء السد العالي؛ معتمدًا على روسيا، والاتحاد السوفيتي. كل هذا حبب عبد الناصر إلى أهل الخليج، وخصوصًا بعد تبنيه لدعوة «القومية العربية»، التي صادفت هوى في قلوب كثير من العرب، بعد سقوط الخلافة، وضعف الرابطة الإسلامية.

فلا غرو أن يحزن أهل الخليج على فراق عبد الناصر، وإن كان وقع الموت على أهل قطر، وأهل الخليج عامة: خفيفًا هينًا، لا يزلزل الإنسان الخليجي، كما يزلزل الإنسان المصري. ولكنهم على أي حال تأثروا بموت عبد الناصر.

وجاء التوجيه في قطر إلى خطباء المساجد: أن يصلوا صلاة الجنازة - صلاة الغائب - على عبد الناصر، وفي جامع الشيوخ - الجامع الكبير - وقف المصلون جميعًا خلف الإمام ليصلوا، ما عدا واحدًا، رفض القيام والمشاركة في الصلاة، هو أخونا الكريم مصطفى جبر رحمه الله ، قال: أنا لا أصلي على ظالم وطاغية! وكان الشيخ مصطفى موظفًا في وزارة التربية. فأمر وزيرها الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني رحمه الله ، حين بلغه ذلك، بإيقافه عن العمل! وقد توسطنا له عند الوزير: الشيخ عبد المعز عبد الستار وأنا، فرفع عنه العقوبة، استجابة لشفاعتنا.

تعزية في عبد الناصر:

ولم تكن في قطر سفارة لمصر - أو للجمهورية العربية المتحدة كما كانت تسمى، حتى بعد انفصال سوريا - ولكن الجالية المصرية، ومعهم بعض أهل قطر، أقامت حفل عزاء لعبد الناصر، تتقبل فيه تعزيات المعزين. وقد قاطعه الإخوان عامة، إلا قليلًا منهم، رأوا أن من واجب المجاملة أن يعزوا فيه، وقال بعضهم، وكان من المعتقلين الذين نالهم من الأذى والبلاء ما نالهم: إني أشفي غليلي بالعزاء فيه!

وكنت ممن قاطع هذا الحفل، ولكن أخوين كريمين، زاراني في بيتي، ورجواني أن شارك في هذا العزاء، قالا: لما لك من وزن خاص في قطر، وتعزيتك سيكون لها معنى، وتدفع أذى كثيرًا عن الإخوان الذين لم يشارك جمهورهم في هذا العزاء، فقد يصيبهم أذى كما أصاب أخانا مصطفى جبر، الذي رفض الصلاة على عبد الناصر. وما زالا يلحان عليَّ، حتى استجبت لهما، وذهبت معهما، وأنا رجل أضعف أمام ضغط الإلحاح. وقد ذهبت والحفل يوشك أن ينفض، ولكن كان لحضوري اعتبار قدره كل الموجودين.

كان الأخوان اللذان زاراني وألّحا علي في المشاركة، هما: الأخ الحاج محمد حلمي المنياوي، والأخ عبد الحميد طه، من إخواننا القدامى في قطر، ويعمل رئيس منطقة تعليمي في قطر. أما الحاج حلمي المنياوي، فهو أحد ضحايا عبد الناصر، فقد كان صاحب «دار الكتاب العربي» للطباعة والنشر في القاهرة، وهي إحدى الدور الرائدة التي كان لها دورها في نشر الكتب الإسلامية والعربية، والتي تطورت مبكرًا تطورًا كبيرًا، ونشرت للشيخ الغزالي، والشيخ سيد سابق، وغيرهما.

وكان الحاج حلمي من أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان، وقد انتهت مؤسسته الكبيرة على يد عبد الناصر، واضطر الرجل إلى أن يهاجر، ويعمل موظفًا في مؤسسة «دار العلوم» للطباعة، التي يملكها آل عبد الغني في قطر؛ ولهذا لما جاءني الحاج حلمي مع الأخ عبد الحميد طه، وألح عليَّ أن أذهب معهما للعزاء، وقال الحاج حلمي: إن في هذا رعاية لأمثالي الذين لا ظهر لهم، ولا تاريخ في قطر، صعب عليَّ هذا الرجل، الذي كان ملء السمع والبصر في مصر سنوات طويلة. وقد قيل: ارحموا عزيز قوم ذل!

ونقل خبر تعزيتي في عبد الناصر إلى الإخوة في الكويت وغيرها، مجردة عن دواعيها وملابساتها، فإذا بي أواجه حملة شعواء من الإخوان عليَّ: أني عزيت في الطاغية الذي عذب الإخوان، وعطل دعوتهم، وعوق مسيرتهم، وفعل بهم الأفاعيل. وكان بعض الإخوة السطحيين المساكين يتقربون إلى الله تعالى بالتشنيع عليَّ، والنَّيْل من عرضي، وكأني لست ممن ابتلوا بجحيم عبد الناصر، ولا ممن ذاقوا الويلات على يديه. وأمسيت أمام إخوان الكويت خاصة متهمًا، ومضطرًّا للدفاع عن نفسي!

مِن عيوب الجماعات الكبيرة: أن فيها أناسًا تغلب عليهم النزعة «الظاهرية» في قراءة الوقائع، وفي تحليل الأمور، فيحكمون على الأمور بظواهرها القريبة، دون النظر إلى آفاقها البعيدة، لا يعرفون ما يسميه الفقهاء: فقد المقاصد، ولا فقه المآلات. هذا الفقه الذي جعل الرسول الكريم يبقي على المنافقين، وهم يكيدون له، ويمكرون به، وقد أشار عليه المخلصون من أصحابه بقتلهم والاستراحة من شرهم. فكان رده: «أخشى أن يتحدث الناس: أن محمدًا يقتل أصحابه»(2).

هذه الفئة في الإخوان وفي غيرها من الجماعات، التي لا تنظر إلا إلى مواضع أقدامها: عالية الصوت، قادرة على التشويش والتشويه، ولو إلى زمن، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل، سنة الله في خلقه: {بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞ} (الأنبياء:18).

.....
(1) رواه مسلم (2132)، وأصحاب السنن عن ابن عمر.

(2) رواه البخاري (3518)، ومسلم (2584) عن جابر بن عبد الله.