إذاعة قطر:

في سنة 1970م أُنشئت لأول مرة محطة إذاعة في قطر تُسمع صوت قطر من الدوحة لأهل قطر، وبلاد الخليج، وديار العرب، وأقطار العالم. وسمع الناس: هنا إذاعة قطر من الدوحة.

وكان هذا بداية الإعلام المسموع في قطر، وقد بدأت أباشر أول نشاطي الإعلامي فيها، عن طريق برنامج «نور وهداية» الذي كان يعده ويقدمه الإذاعي اللامع المعار من الأردن الأستاذ محمود الشاهد مراقب البرامج في الإذاعة، وكان البرنامج يقوم على الرد على رسائل المستمعين التي تتعلق بأمور الدين والحياة، يتلقاها الأستاذ الشاهد «أبو توفيق» ويهيئها لي ويعرضها عليَّ؛ لأجيب عنها مسجلة لتذاع في حينها.

وكان البرنامج يقدَم مرتين في الأسبوع، كل مرة ربع ساعة: مرة يوم الجمعة قبل الصلاة، ومرة يوم الإثنين مساء، ثم رأينا أن نجعله نصف ساعة يوم الجمعة، وأظنه كان يعاد يوم الإثنين في أول الأمر. وكان لهذا البرنامج عشاقه ومتابعوه في قطر، وفي منطقة الخليج ومن حولها، ولا سيما البحرين والمنطقة الشرقية من السعودية.

وقد ظللت أقدم هذا البرنامج، حتى بعد أن أنشئ تليفزيون قطر، ولما أسند إليَّ تقديم برنامج «هدي الإسلام» مساء كل جمعة، لم أنقطع عن برنامج الإذاعة. وقد كُلِّف بتقديمه في السنوات الأخيرة المذيع المعروف الأستاذ زهير قدّورة. ثم بعد أن كثرت أعبائي، وازدحمت أوقاتي: رأيت أن أعتذر عن عدم تقديم برنامج «نور وهداية» بعد أن قمت به حوالي سبعة عشر عامًا، مكتفيًا ببرنامج «هَدْي الإسلام» في التليفزيون، الذي لا يزال مستمرًّا إلى اليوم.

وكنت أقدم في الإذاعة برامج أخرى بمناسبات مختلفة، منها: «حديث الغروب» في شهر رمضان، كان يقدم قبل أذان المغرب، قدمته خمس سنوات، تحت عنوان: «في رحاب القرآن»، ثم «في رحاب السنة».

وكان لهذه الأحاديث قبول حسن عند الناس، وكان الكثيرون يحرصون على سماعها في كل مساء، ولكن من المؤسف: أن لم أحرص على أن آخذ نسخًا منها بعد تسجيلها، فلما طلبتها بعد ذلك، قالوا: إن كل أشرطة الإذاعة نقلت إلى مكان آخر، غير مرتبة ولا مصنفة، ومن الصعب استخراجها، وهكذا ضاعت عليَّ «مائة وخمسون» حديثًا، ليس عندي أي أصل لها، فقد كانت مرتجلة، ولم تكن مكتوبة. مثل كل أحاديثي في الإذاعة والتليفزيون.

ملاحظات الشيخ ابن محمود:

ومما أذكره بالنسبة للإذاعة: أني وجدت الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، رئيس المحاكم الشرعية، والعالِم البحاثة الكبير - وقد كان بيننا ود عميق واحترام متبادل - يتتبع برنامجي في الإذاعة ويستمع إليه. وفي زيارة له، قال لي: أريد أن أجلس معك جلسة خاصة، فقلت: على الرحب والسعة. قال: إني سمعت كثيرًا من إجاباتك عن أسئلة السائلين، وهي موفقة إلى حد كبير، ولكن لي ملاحظة على أربع إجابات، أرجو أن تراجعها.

قلت: ليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم. وكلي أذن صاغية لملاحظاتك، حفظك الله.

وتحدث معي في هذه المسائل الأربع، نسيت اثنتين منها، وأذكر اثنتين:

كفر تارك الصلاة:

أولاهما: قضية تارك الصلاة. قال الشيخ: رأيتك متساهلًا فيها، والأحاديث الصحيحة تكفر تارك الصلاة، وهو المشهور عن الإمام أحمد وبعض السلف.

قلت: يا فضيلة الشيخ، أنا لست متساهلًا في أمر تارك الصلاة، وقد ذكرت حكمه في كتابي: «العبادة في الإسلام»، ولكني أتحرى وأتثبت في قضية التكفير.

وأنا مع جمهور الأئمة «أبي حنيفة، ومالك والشافعي، وغيرهم» في تفسيق تارك الصلاة، لا تكفيره، إذا كان تركها على سبيل الكسل، أما من تركها منكرًا لفرضيتها، أو مستخفًّا بأمرها، فهو كافر ولا شك.

والأحاديث التي تُكفِّر تارك الصلاة مؤوّلة، كما أُوِّل غيرها، حتى لا تتناقض مع أحاديث وآيات أخرى، حتى إن ابن حزم - وهو رجل ظاهري كما تعرف فضيلتك - لا يُكفِّر تارك الصلاة، وابن قدامة الحنبلي يقول: لم ينقل في بلد من بلدان المسلمين أنهم تركوا صلاة الجنازة على تارك للصلاة، أو لم يدفنوه في مقابر المسلمين.

على أن الحنابلة أنفسهم لا يحكمون عليه بالكفر إلا بعد أن يدعوه الإمام أو القاضي إلى الصلاة، فيرفض ويأبى.

نزول المطر من السماء أم السحاب؟

والقضية الأخرى: قال الشيخ: إنك تقول: إن المطر ينزل من السحاب، وليس من السماء، والقرآن يخبرنا أن الله أنزل من السماء ماء. ونقل الشيخ كلامًا عن ابن القيم في بعض كتبه حول نزول المطر من السماء.

قلت للشيخ: يا مولانا، ابن القيم على أعيننا ورءوسنا، وأنا أعتبر نفسي تلميذًا له، وهو حجة في الشرعيات، وليس حجة في العلوم الطبيعية والكونية، وكل علم يؤخذ من أهله، كما قال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (الفرقان:59)، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر:14).

والعلوم الطبيعية التي اقتبسها الغربيون منا ثم تفوقوا فيها اليوم، كما نرى، حتى أمسى الإنسان يطير في الهواء، ويغوص في الماء... هذه العلوم تقول: إن المطر ينزل من السحاب، والسحاب يتكوّن من البخار الذي يتكون من ماء البحار والمحيطات، حتى إذا وصل إلى درجة معينة من البرودة سقط مطرًا.

والقرآن يشير إلى أن أصل الماء كله من الأرض، كما قال تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات:30-31).

والعرب في شعرها الجاهلي أشارت إلى هذه الحقيقة الطبيعية، فقال شاعرهم أبو ذؤيب الهُذلي في وصفه للسحب:
شربن بماء البحر ثم ترفّعت  **  متى لحجٍ خصر لهن نثيج!

والنثيج: الصوت المرتفع. وهو صوت أمواج البحر، وهي تتلاطم*.

وقال آخر في العصر الإسلامي في موقفه من ممدوحه:
كالبحر يمطره السحاب وما له  **  فضل عليه؛ لأنه من مائه!

وهذه حقيقة أصبحنا نشاهدها بأعيننا حين نركب الطائرات، فتعلو بنا فوق السحاب، فربما تكون الأرض ممطرة، ونحن نشاهد الشمس ساطعة مشرقة فوق السحاب، فإذا أردنا الهبوط اخترقنا السحاب لننزل إلى الأرض.

وأما قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} (الفرقان:48)، وأمثالها من الآيات، فلها تأويلان:

أحدهما: أن معنى {مِنَ السَّمَاء}: من جهة السماء.

وثانيهما: أن السماء يقصد بها السحاب، بناءً على أن السماء عند العرب: كل ما علاك، وفيه جاء قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (الحج:15)، فالمراد بالسماء هنا: السقف.

وسكت الشيخ رحمه الله، ويبدو لي كأنه لم يقتنع بما قلته. فهذه أفكار جديدة تصطدم بما استقر عنده من معلومات راسخة تلقاها عن مشايخه الثقات، وعن كتبه ومصادره التي يعتز بها.

وقد سبق للشيخ رحمه الله أن أنكر صعود الإنسان إلى القمر، وقال: هذا من أخبار الآحاد، التي يمدح فيها الإنسان نفسه بما يزعم أنه أنجزه!!

قلت له: يا شيخنا، هذا ليس خبر واحد من الآحاد، إنما هو حدث تشارك فيه دول، وتتنافس عليه دول، ولو افترضنا أن الأمريكان يكذبون، فكيف يسلم لهم منافسوهم الروس وغيرهم؟

وسمعت الشيخ عبد الله الأنصاري أيضًا ينكر صعود الإنسان إلى القمر!

وهذا يدلنا على أن التكوين القديم لمشايخ العلم الديني في منطقة الخليج؛ كان ينقصه شيء مهم، وهو دراسة العلوم الكونية: من الفيزياء، والكيمياء، والأحياء «علم الحيوان وعلم النبات»، والرياضيات، وكذلك الجغرافيا الفلكية والطبيعية، وغيرها.

وهو ما تنبه إليه الأزهر من قديم، حيث درس ذلك شيوخنا، وشيوخ شيوخنا. وقد سموا هذه العلوم: العلوم الحديثة، وهي في الواقع علوم قديمة، بل هي علوم المسلمين في الأصل، اقتبسها الغربيون منهم وطوروها، وأضافوا إليها، حتى بلغت في عصرنا مبلغًا هائلًا، وهو ما سموه الثورات العلمية: الثورة النووية، والثورة الفضائية، والثورية الإلكترونية، والثورة البيولوجية، وثورة الاتصالات، وثورة المعلومات.

سلسلة: «حتمية الحل الإسلامي»:

تبنى عبد الناصر في «ميثاقه» الشهير: «حتمية الحل الاشتراكي» وتنادى الناس، وتحدثت الألسنة، وكتبت الأقلام، في تمجيد الحل الاشتراكي، وأنه الحل السحري، الذي يملك «عصا موسى» و«خاتم سليمان» فيحل كل عقدة، ويسد كل ثغرة، ويطعم كل جائع، ويُشَغِّل كل عاطل، ويؤوي كل مشرد، ويكفل كل محتاج! وهو القادر على تحويل بلادنا من زراعية إلى صناعية، ومن مستهلكة إلى منتجة، ومن بلاد نامية إلى بلاد متقدمة!

وعندما جرب الناس هذا الحل؛ لم يجدوا شيئًا من ذلك: لم يُطعَموا به من جوع، ولم يأمنوا به من خوف، ولم يغتنوا به من فقر، ولم يُشفوا به من مرض، ولم يرتفعوا إلى الإنتاج والصناعة والتقدم.

لهذا رأيت أن أرد على فكرة «حتمية الحل الاشتراكي» بسلسلة من الكتب، أطلقت عليها: «حتمية الحل الإسلامي»، تظهر في أربعة أجزاء:

1 - جزء يتحدث عن «الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا؟».

2 - وجزء يتحدث عن «الحل الإسلامي: فريضة وضرورة» أي فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع.

3 - وجزء يتحدث عن «الرد على شبهات العلمانيين والمتغربين» وإبراز «بينات الحل الإسلامي».

4 - وجزء أخير يتحدث عن «أعداء الحل الإسلامي» الذين يقفون في سبيله، ويعوقون طريقه.

وقد ظهر الجزءان الأول والثاني: في سنتي 1969م و1970م على ما أذكر، وتأخر الجزء الثالث بعض الوقت، أما الجزء الرابع فتأخر كثيرًا، فلم يظهر إلا من عدة سنوات.

وقد كنت كتبت بعض المقالات في «حتمية الحل الإسلامي» قبل ظهور هذه السلسلة: في مجلة «المجتمع» التي كانت تصدر في بيروت في الستينات من القرن العشرين، ثم خلفتها مجلة «الشهاب» ردًّا على ما جاء في الميثاق الناصري.

ولا أُفصِّل بكلمة «الحل» التفصيلات الجزئية العملية للمشكلات، بل الاتجاه الكلي العام؛ فـ «الحل الإسلامي» مقابل «الحل الاشتراكي» أو «الحل الرأسمالي» ولكل خصائصه ومقوماته وشروطه.

وكلمة «الحتمية» من «أكليشهات» الماركسيين، ولكني استخدمتها من باب «المشاكلة» كما يقول علماء البلاغة العربية، مثل قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء: 142)، {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (الشورى:40).

.....

* قبل هذا البيت:

سقـي أمّ عمـرو كل آخـر ليلة  **  حناتمُ سـودٌ ماؤهـن ثجيج

إذا هم بالإقلاع هبّت له الصَّبا  **  فأعقب نشء بعده وخروج

والحناتم: جمع حنتمة، وأصلها: الجرة الخضراء، وأراد بها هنا: السحائب، شبهها بالجرار، ووصفها بالسواد لكثافتها، وماؤهن ثجيج: أي ثجاج متدفق. وهذه السحائب شربن بماء البحر، ثم تصاعدت وارتفعت، ومتى: بمعنى «مِن» في لغة هذيل.