في أوائل سنة 1972م وصلتني دعوة من ليبيا؛ للمشاركة في «ندوة للتشريع الإسلامي» دُعي إليها عدد من كبار العلماء من مصر، وسوريا، ولبنان، والعراق، وغيرها من أنحاء العالم الإسلامي؛ لمساعدة اللجنة العليا التي أُنشئت بقرار من العقيد القذافي قائد الثورة الليبية، برئاسة المستشار عليّ عليّ منصور، وكانت مهمة هذه اللجنة: تنقية القوانين الوضعية في ليبيا من كل ما يخالف الشريعة الإسلامية.

والمفروض أن هذه مرحلة تتبعها مرحلة أخرى تقوم على استنباط تشريعات وقوانين إسلامية، مؤسسة على اجتهاد إسلامي معاصر، وهذه تحتاج إلى وقت وإلى إعداد، وإلى علماء يجمعون بين الأصالة والمعاصرة.

ومن المعروف: أن القوانين الوضعية لا تخالف الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة، إلا في القانون الجنائي، الذي لا يعترف بخصوصية العقوبات الإسلامية التي تتمثل في الحدود، مثل: حد السرقة، وحد الزنا، وحد القذف، وحد قطاع الطرق، وحد شرب الخمر، وإن كان هناك رأي قوي يرى أن عقوبة حد شرب الخمر عقوبة تعزيرية، مفوضة إلى الإمام أو القاضي، وهو ما أرجحه. كما تخالف القوانين الوضعية في الجانب المدني: الشريعة الإسلامية في تحريم الفوائد الربوية، وتحريم المعاملات التي تشتمل على غرر فاحش.

وأهم من ذلك: هو أن المنطلق الذي تنبعث منه القوانين الوضعية، غير المنطلق الذي تنبعث منه الأحكام الشرعية، فمنطلق القوانين: اعتبارات بشرية محضة، أما منطلق الأحكام الشرعية، فهو وحي الله المتمثل في القرآن والسنة، وهذا لا يحجر على المسلمين أن يجتهدوا لأنفسهم فيما لا نص فيه، عن طريق القياس أو الاستحسان أو الاستصلاح أو غيرها. ويمكنهم أن يقتبسوا من غيرهم ما يرونه أصلح لهم، وأليق بجلب الخير لهم، ودفع الشر عنهم، في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها العامة.

وفرق بين أن يصدر التشريع بناء على قرار حاكم أو مجلس، وأن يصدر بناء على أمر الله تعالى به في كتابه وعلى سنة رسوله، وعلى ما اقتضته قواعد الشريعة ومقاصدها.

المهم أني تلقيت الدعوة، وعرضتها على المسئولين في وزارة التربية والتعليم؛ فسمحوا لي بإجابة الدعوة، لا سيما أن ليبيا هي التي ستتكفل بتذكرة الطائرة، ونفقات الإقامة، ولن تتكلف قطر شيئًا.

وكان هذه أول مرة أخرج فيها من صومعة قطر - في أثناء العام الدراسي - إلى العالم من حولي، للمشاركة في عمل علمي، وتُعَدّ الخطوة الأولى للانطلاق الكبير بعد ذلك.

كانت رسالة الدعوة الليبية، تشتمل على عدة موضوعات، طلبت إليَّ الكتابة في أحدها، وهو الموضوع الأول: الشريعة صالحة لكل زمان ومكان.

واستخرت الله، وبدأت في الكتابة في الموضوع، وأرسلته إليهم، فلقي القبول من اللجنة المشرفة، وفي شهر مايو من هذه السنة (1972م) توكلت على الله، وسافرت إلى ليبيا عن طريق بيروت.

وكانت الندوة مقامة تحت إشراف «كلية الدراسات العربية والإسلامية» في مدينة البيضاء، وهذه الكلية كانت تسمى قديمًا: الجامعة السنوسية، وكانت تضم عدة كليات فاختُصرت في كلية واحدة، وحُذف عنوانها، حتى لا يبقى للسنوسيين ذكر ولا أثر.

وهذا ما يؤخذ على الأنظمة الانقلابية: أنها تريد أن تلغي التاريخ قبلها، كما تريد أن يبدأ التاريخ بها، والإنصاف يقتضي أن تذكر محاسن من قبلك، ليذكر محاسنك من يأتي بعدك، ولكن هذا شأن الإنسان من قديم. وقد رأينا ثورة يوليو في مصر، تكاد تطمس تاريخ أسرة «محمد علي» مؤسس مصر الحديثة، لولا قوة الأحداث ورسوخها.

وقد ضُمت هذه الكلية إلى الجامعة الليبية، وهي الجامعة الوحيدة في البلاد، فأصبحت إحدى كلياتها، وكان مدير الجامعة صديقنا الكبير الأستاذ الدكتور عمر التومي الشيباني، الذي ساهم معنا من بعد في إعداد منهج مقرر الثقافة الإسلامية في جامعة قطر، وعميد الكلية فضيلة الشيخ إبراهيم، «نسيت لقبه».

كلام حول الفول المدمس:

ذهبت من بيروت إلى بني غازي، وبت في أحد الفنادق بها، وفي الصباح نزلت إلى المطعم لتناول الفطور، فجاءني الندل «الجرسون» وكان مصريًّا، فسألني: ماذا نقدم لك؟ قلت: أول شيء الفول المدمس، فقال: ألا تطلب شيئًا بدل الفول؟ قلت له: ولم؟ ألا يوجد عندكم فول؟ قال: يوجد عندنا، ولكنهم يعيروننا بأننا شعب الفول!

قلت: يا عجبًا! وهل أكل الفول معرة أو جرم حتى نعير به؟ وما الفرق بين من يفطر على الفول ومن يفطر على الحمص أو على الحلبة أو على البيض ونحوه؟ يا بني، لا تعبأ بهذه الترهات، واعتز بنفسك، فالفول من الطيبات التي رزقها الله للناس. دعني من هذا كله، وائتني بطبق الفول، ولا مانع من أن تخلطه بالحمص أو بالبيض المسلوق، ربنا يديمه علينا.

إلى مدينة البيضاء:

وسافرت إلى مدينة البيضاء بالسيارة، حتى وصلت إليها، وقد حضر معظم المدعوين، ثم اكتمل عددهم يوم الافتتاح، وكان القذافي غائبًا عن البلد، فناب عنه أحد قادة الثورة، نسيت اسمه.

وبدأت جلسات الندوة بعد ذلك، وقد شارك فيها عدد من العلماء المرموقين، من أبرزهم: الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ عليّ الخفيف، والدكتور محمد بيصار، والشيخ مصطفى الزرقا، والدكتور صبحي الصالح، والدكتور حسين حامد حسان، وغيرهم ممن لا يحضرني اسمه الآن، كما شارك عدد من العلماء الذين يعملون في ليبيا مثل: دكتور عبد العزيز عامر، ودكتور عبد الجواد محمد، وبعض رجال الاقتصاد الليبيين.

وكانت هذه أول مرة ألقى فيها العلامة أبو زهرة، والعلامة الخفيف، وجهًا لوجه، أما الشيخ الزرقا فقد سعدت بلقائه قبل ذلك، حين كان يعمل أول خبير للموسوعة الفقهية في الكويت. وكان نجم الندوة - دون منازع - هو الشيخ أبو زهرة، الذي كان يعلق على المتكلمين، ويتدفق كالسيل العرم. وهو يتكلم، أذن له أم لم يؤذن، فلا يملك أحد أن يمنعه، ومن يمنع السيل من التدفق، أو النجم من التألق؟!

وقد ألقيت بحثي، وكان كل بحث يمنح ربع ساعة لإلقائه؛ لتكون هناك فسحة مناسبة للمناقشة، ولكن بحثي كان طويلًا، فقلت لهم: إني قطعت إلى هنا أطول مسافة قطعها أحد المدعوين، وبحثي طويل، فينبغي أن تعطوني فرصة مناسبة لطول المسافة التي قطعتها! وضحك الجميع، وقابلوا اقتراحي بالقبول، وأخذت نصف ساعة في عرض الموضوع، وعلق الأستاذ الزرقا على البحث، فقال: كان القرضاوي موفقًا في تحريره، كما كان موفقًا في تمريره. والحمد لله لقي البحث القبول من الحضور.

لقاء العلامة أبي زهرة والعلامة الخفيف:

كانت هذه الرحلة فرصة للتعرف على العلامة أبي زهرة، الذي طالما قرأت له، واشتقت إلى لقائه، ولكن لم يتح لي للأسف أن ألقاه في مصر وجهًا لوجه. فقد كنت قبل التخرج مشغولًا بالدراسة والدعوة، وبعد التخرج شغلت بالاعتقال، ثم بهمّ لقمة العيش. ولم تكن لأبي زهرة وأمثاله فرصة ليظهر ويلقى تلاميذه ومحبيه فيها؛ لهذا قرت عيني بلقاء الشيخ الجليل.

والحقيقة أن الشيخ رحمه الله فرح بلقائي، وأثنى على كتابي «فقه الزكاة». وقد استشرته في النزول إلى مصر في صيف هذا العام، فأنا منذ سنة 1964م لم أنزل مصر، فقال: انتظر حتى أستشف لك الوضع، وأخبرك بالموقف، ولا ضرورة لاستعجال النزول هذه السنة. وهو ما ركنت إليه.

كما سعدت بلقاء زميله - بل شيخه - علّامة فقه المعاملات: الشيخ عليّ الخفيف، والذي يشبه الزرقا في طرحه لآراء جديدة بجرأة، قد تصدم جمهور الناس، ولا سيما المقلدين، مثل آرائه في التأمين، وفي إيقاع الطلاق أمام القاضي ونحوها. وقد أبدى الشيخ الكبير سروره بلقائي والتعرف عليَّ، وتمنى أن يراني في مصر. وقلت له: ادع الله لنا يا مولانا أن يفتح أبوابها لنا، ويزيل العوائق من طريقنا.

أبو زهرة يُفَجِّر في الندوة قنبلة فقهية:

وفي هذه الندوة فَجَّر الشيخ أبو زهرة قنبلة فقهية؛ هيجت عليه أعضاء المؤتمر، حينما فاجأهم برأيه الجديد.

وقصة ذلك: أن الشيخ رحمه الله وقف في المؤتمر، وقال: إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبد العزيز عامر، واستشهد به قائلًا: أليس كذلك يا دكتور عبد العزيز؟ قال: بلى. وآن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟

قال: هذا الرأي يتعلق بقضية «الرجم» للمحصن، في حد الزنا، فرأيي أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور.

قال الشيخ: ولي على ذلك أدلة ثلاثة:

الأول: أن الله تعالى قال في سورة النساء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (النساء:25)، والرجم عقوبة لا تتنصف؛ فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور:2).

والثاني: ما رواه البخاري في «جامعه الصحيح»، عن عبد الله بن أوفى: أنه سُئل عن الرجم؟ هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري([1]). فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم كانت مقررة قبل نزول آية النور التي نسختها.

الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا، ثم نُسخت تلاوته وبقي حكمه: أمر لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان في صحيفة فجاءت الداجن وأكلتها: لا يقبله منطق.

وما أن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم، ورد عليه بما هو مذكور في كتب الفقه حول هذه الأدلة. ولكن الشيخ ثبت على رأيه كالطود الأشم.

وقد لقيته بعد انفضاض الجلسة، وقلت له: يا مولانا، عندي رأي قريب من رأيك، ولكنه أدنى إلى القبول منه. قال: وما هو؟

قلت: جاء في الحديث الصحيح: «البكر بالبكر: جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة»([2]).

قال: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزير، موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازمًا في كل حال.

وعلى هذا نقول في الشق الثاني من الحديث: إن الحد هو الجلد، والرجم سياسة وتعزير، مثل التغريب والنفي، فنثبت ما جاءت به الروايات من الرجم في العهد النبوي، فقد رجم يهوديين، ورجم ماعزًا، ورجم الغامدية، وبعث أحد أصحابه في قضية امرأة العسيف، وقال له: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»([3]). وكذلك ما روي أن عمر رجم من بعده، وأن عليًّا رجم كذلك. ولكنا نفسر هذه الوقائع على أنها لون من التعزير والسياسة الشرعية. والأحكام التعزيرية ليست لازمة دائمًا، كما هو معلوم.

ولكن الشيخ لم يوافق على رأيي هذا، وقال لي: يا يوسف، هل معقول أن محمد بن عبد الله الرحمة المهداة، يرمي الناس بالحجارة حتى الموت؟! هذه شريعة يهودية، وهي أليق بقساوة اليهود.

وكان رأي الشيخ الزرقا مع الجمهور، ولكنه يخالف الجمهور في تعريف «المحصن»، فعندهم: أن المحصن من حصل له الزواج، وإن فارقته زوجه بطلاق أو وفاة، وبات في واقع الحال لا زوجة له، وعند الزرقا: المحصن: من له زوجة بالفعل. وهذا رأي الشيخ رشيد رضا، ذكره في «تفسير المنار».

توقفت طويلًا عند قول الشيخ أبي زهرة عن رأيه: أنه كتمه في نفسه عشرين عامًا: لماذا كتمه؟ ولم يعلنه في درس أو محاضرة أو كتاب أو مقالة؟ لقد فعل ذلك خشية هياج العامة عليه، وتوجيه سهام التشهير والتجريح إليه، كما حدث له في هذه الندوة.

وقلت في نفسي: كم من آراء واجتهادات جديدة وجريئة تبقى حبيسة في صدور أصحابها، حتى تموت معهم، ولم يسمع بها أحد، ولم ينقلها أحد عنهم!!

ولذلك حين تحدثت عن معالم وضوابط الاجتهاد المعاصر، في كتابي: «الاجتهاد في الشريعة الإسلامية»؛ جعلت منها: أن نفسح صدورنا للمخطئ في اجتهاده، فبهذا يحيا الاجتهاد ويزدهر، والمجتهد بشر غير معصوم، فمن حقه - بل من الواجب عليه - أن يجتهد ويتحرى ويستفرغ وسعه، ولا يلزمه أن يكون الصواب معه دائمًا، وما دامت صدورنا تضيق بالرأي المخالف للجمهور، فلن ينمو الاجتهاد، ولن يؤتي ثمراته. على أن ما يحسبه بعض الناس خطأ، قد يكون هو الصواب بعينه، وخصوصًا إذا تغير المكان والزمان والحال.

ويبدو أن هذه الحملة الهائجة المائجة التي واجهها الشيخ أبو زهرة؛ جعلته يصمت عن إبداء رأيه، فلم يسجله مكتوبًا بعد ذلك. وربما لأن الشيخ الكبير لم يعمر بعد ذلك طويلًا، فقد وافته المنية في شهر إبريل سنة 1974م، عليه رحمة الله ورضوانه. وقد رأيت الشيخ نسب هذا الرأي في كتابه: «العقوبة» إلى الخوارج، واستدل لهم بما ذكره في ندوة ليبيا، وأعتقد أن ذلك كان أسبق من الندوة.

لقاء القذافي:

بعد أن انتهت الندوة، قالوا لنا: أنتم مطلوبون للقاء العقيد القذافي قائد الثورة في مدينة طرابلس، فاستعدوا للذهاب إلى بني غازي، ومن هناك، ستأخذنا طائرة خاصة إلى العاصمة طرابلس. وقد وصلنا في حوالي العاشرة مساءً، ثم نقلنا إلى مقر مجلس الثورة، لننتظر نحو نصف ساعة، حتى حضر العقيد، ومعه اثنان من القادة، أحدهما يجلس عن يمينه، وهو عبد السلام جلود، نائبه، والثاني: لا نعرفه.

وكان يصحبه بعض المدنيين، منهم: الأستاذ إبراهيم الغويل المحامي، ومنهم: صحفي يساري، اسمه: صادق نيهوم، كان كأنه المتحدث باسمه، وهو علماني جريء طويل اللسان. وقد أثار القذافي موضوعات شتى، كان من أهمها كلام حول أمرين خطيرين: «السنة»، وإن لم يفصح تمامًا عن أفكاره حولها، ولكن عباراته وتعليقاته أوحت بأن لديه شكوكًا وشبهات حول ثبوت السنة، وحول حجيتها.

والثاني: حول «الردة»، ولماذا يُقتل المرتد؟ وتكلم العلماء يدافعون عن حد الردة، وعقوبة المرتد، وأثار الصادق نيهوم سؤالًا محرجًا: هل الردة موقف عقلي أو هي جريمة ضد الجماعة؟ وأجاب هو عن سؤاله، فقال إن الردة موقف عقلي، إنسان اقتنع بدين، ثم تغير فكره وتحول اقتناعه، فلم يعد يؤمن به، فلماذا يعاقب؟

قلت له: إن الردة ليست مجرد موقف عقلي، إنها تغيير للولاء من أمة إلى أخرى، هل يباح للإنسان أن يغير ولاءه لوطنه إلى أعداء وطنه بدعوى أنه حر في ولائه؟ إن أحدًا لا يقبل منه ذلك، ويرى كل الناس ذلك منه خيانة وطنية، يعاقب عليها بالإعدام، والردة هي تغيير الولاء من أمة الإسلام إلى أعدائها، فهو بردته أصبح عدوًّا لأمته، مواليًا لأعدائها.

وتطرق الحديث إلى العلماء ودور العلماء، وعزلة العلماء عن المشاركة في توجيه المجتمع، وتحدث الإخوة المشايخ: أن العلماء لا يتأخرون عن القيام بواجبهم، إذا فُتح الباب لهم، وأُتيح لهم أن يبينوا للناس شرع الله.

وقلت في ذلك: إن العلماء مستعدون أن يكونوا خدمًا لمن يخدم الشريعة.

وهنا قال الشيخ أبو زهرة: إننا لسنا خدمًا لأحد كائنًا من كان.

قلت: يا مولانا، إننا خدم لمن يخدم الشريعة، فخدمتنا في الحقيقة إنما هي للشريعة.

قال: نحن سادة ولسنا خدمًا!

وهكذا كان الشيخ رحمه الله معتزًّا بنفسه وبعلمه، ولا يُفرِّط في كرامة العلم، ولا بأدنى كلمة.

وقد طالت الجلسة إلى ما يقرب من الثانية مساءً... ثم انفضت، وانصرف العقيد وصحبه، ولكن قبل انصرافه فوجئت بالعضو الذي كان عن يسار القذافي، يقبل عليَّ ويصافحني بحرارة، ويقول: أن المقدم بشير هوَّادي عضو مجلس الثورة، وأنا من قراء كتبك ومن المعجبين بك، وقال: عندي كذا وكذا من كتبك، قلت له: اسمح لي أن أبعث إليك ببقية الكتب.

قال: أكون شاكرًا وممتنًا، ويكون هذا فضلًا منك. وقد بقينا بعدها يومين في طرابلس، لقيت في أثنائها الأخ الفاضل المهندس الحاج أحمد حلمي عبد المجيد، أحد قادة الإخوان، ونائب عثمان أحمد عثمان، وممثله في ليبيا، التي لشركة عثمان فيها مشروعات كبرى.

ذكرت للحاج حلمي ما قاله بشير هوادي، فشجعني على إرسال الكتب إليه، ولكنه أضاف: هناك رجل آخر مهم في مجلس الثورة، هو من قرائك ومحبيك أيضًا، هو المقدم مصطفى الخروبي، فحبذا أن ترسل إليه هو الآخر مجموعة كتبك. وقد فعلت ذلك، بمجرد رجوعي إلى قطر. أما بشير هوادي، فبعد عدة سنوات اختلف مع القذافي وأُطيح به.

وأما الخروبي (اللواء مصطفى الخروبي الآن)، فما زال أحد القيادات المهمة في ليبيا، ولا تزال بيني وبينه مودة، حتى إنه زار قطر، منذ سنوات، ولم أكن موجودًا، فأرسل إليَّ باقة ورد إلى منزلي. وحين زرت ليبيا في العام قبل الماضي (2002م) أرسل إليَّ بهدية في الفندق الذي أنزل فيه. والعجيب أني سألت الإخوة في ذلك الوقت (1972م) عن كتبي؛ فوجدتها ممنوعة من دخول ليبيا!

العودة إلى قطر عن طريق بيروت:

وآن لي بعد هذه الأيام الحافلة، أن أعود إلى قطر، فامتطينا الطائرة من طرابلس إلى بيروت، وقد بت فيها عند الأخ الصديق زهير الشاويش، الذي رأى البحث الذي قدمته للندوة في ليبيا، فطلب مني أن يتولى نشره، وصدرت الطبعة الأولى منه عن المكتب الإسلامي في بيروت، وبعد أن نزلت إلى مصر سنة 1973م؛ نشرته مع عدد من الكتب في مصر، وقد نقحته وأضفت إليه، في طبعات لاحقة، كما أفعل في كثير من كتبي، وهو شأن كل مؤلف، يستدرك على نفسه، فيزيد ويحذف، ويهذب ويعدل، طلبًا للكمال الممكن، ما وجد إليه سبيلًا.

.....

(1) رواه البخاري (6813)، ومسلم (1702).

(2) رواه مسلم (1690) عن عبادة بن الصامت.

(3) رواه البخاري (2315)، ومسلم (1698) عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني.