سفر الأولاد إلى مصر:

وعدت إلى قطر، لأواجه امتحانات آخر العام، وأستعد للإجازة الصيفية التي دنا موعدها، وبعد البحث والتشاور: وجدت أن الوقت غدا مناسبًا لسفر الأولاد وحدهم هذا العام، بعد انقطاع ثماني سنوات عن السفر إلى مصر، وبعض أولادي لم يروا مصر قط، مثل أبنائي الذكور: محمد، وعبد الرحمن، وأسامة، وبناتي لم يرين مصر إلا صغيرات جدًّا؛ لذا لا يعرفن عنها شيئًا، فإذا كانت ظروفي حتى الآن لا تسمح بالسفر، فليسافر الأولاد مع أمهم على بركة الله.

وقد سافرت والأسرة إلى بيروت، وبقينا فيها أيامًا في فندق شبلي بسوق الغرب، ثم ودعتهم في مطار بيروت ليصلوا إلى القاهرة بسلام. وبقيت وحدي في لبنان، متنقلًا بين جبالها في الشمال والجنوب، فقد ذهبت فترة إلى منطقة «الضِّنّية» بالقرب من طرابلس، وهي منطقة إسلامية سنية، ولكن للأسف رأيت المناطق الإسلامية غير معنيّ بها، مثل المناطق المسيحية والدرزية.

السفر مع الأخ سامي صهري وأهله إلى سوريا:

وفي هذا الوقت جاء صهري -شقيق زوجتي- الأخ سامي عبد الجواد وأسرته من الدوحة في إجازة، ليقضي أيامًا قليلة في لبنان، ثم ينطلق لزيارة سوريا لزيارة مصايفها، وزيارة الأخ الصديق أبي البراء سليمان الستاوي في منزله في حلب، وهو زميل مصري متزوج منها وأصهاره هناك.

وكانت فرصة: أن أجدد عهدي بسوريا، بعد عشرين عامًا من زيارتي الأولى لها سنة 1952م، ولكن بقيت مشكلة، فالمفروض أن مثلي ممنوع من دخول سوريا، كما أن كتبي ممنوعة من دخولها.

ومع هذا قررت أن أجازف بالدخول، عن طريق السيارات بالبر، وهم في البر لا يدققون في جوازات الداخلين في الصيف كثيرًا، تشجيعًا للسياحة.

وفعلًا، ركبنا السيارة أنا وصهري وزوجته وابنه الصغير أيمن، ولا أذكر هل كان معنا أحد آخر أم لا؟ وكنت ألبس البذلة الإفرنجية؛ فهي الأنسب لي في هذه الظروف. وعند الدخول إلى سوريا قدمنا الجوازات مجموعة، وكانت عدة سيارات داخلة معنا، فنظروا في الجوازات نظرة سطحية، وبخاصة أن جوازي قطري، وليس بين سوريا وقطر أي حساسية في العلاقات، وختموا الجوازات بسهولة وسرعة، وردوها إلينا.

وحمدت الله أن لم تحدث مشكلة في الدخول، فهل يحدث شيء بعد الدخول؟ الواقع أني لا أنوي القيام بأي نشاط من أي نوع، فإنما جئت سائحًا أتمتع بهواء سوريا فقط، ولم أجئ داعية ولا مدرسًا، ومن كان كذلك لم يلفت إليه نظر أحد، وهذا ما كان.

يا سبحان الله! منذ عشرين سنة دخلت سوريا التي كانت تحكم حكمًا عسكريًّا، واضطررت أن أتخفى في تعاملي مع الناس تحت اسم: «عبد الله المصري»، واليوم أدخلها تحت ستار «سائح عربي»، وحتى اليوم (2003م)، وأنا أكتب هذه المذكرات لم يتح لي دخول سوريا بوصفي عالِمًا وداعية مسلمًا؟!(1).

بعد دخول سوريا، ذهبنا أول ما ذهبنا إلى منطقة جميلة بالقرب من دمشق تسمى: «العين الخضراء»، استأجرنا فيها حجرتين، وبقينا فيها، نمتع أعيننا وحواسنا كلها بماء العين الدافق البارد، والخضرة حولها، وكانت أيامًا جميلة، مرت كما يمر النسيم الناعم، ثم ودعناها لنسير إلى عاصمة الأمويين «دمشق» أو «جِلّق» كما سميت من قبل.

ورأينا نهر «بَرَدَى»، وتذكرت قول شوقي:
سلام من صبا بردى أرقُّ  **  ودمع لا يكفكف يا دمشق!

وقوله في مقام آخر:
آمنت بالله، واستثنيت جنته  **  دمشق روح وجنات وريحان!

وبعدها مررنا على مصايف دمشق، حتى انتهينا إلى «الزبداني»، وبقينا فيه عدة ساعات، وأذكر أننا لم نبت هناك، ولكن عدنا إلى دمشق، لنزور تحفتها المعمارية الرائعة: «الجامع الأموي»، وما فيه من فخامة وروعة في أعمدته وسقوفه وجدرانه، وساحاته وحجراته، من جميل الفسيفساء وزخارف البناء.

وأذكر مما أرانا إياه الإخوة في المسجد: قبر نبي الله هود.

قلت لهم: ومن أين جاء هود إلى الشام، وقد كان بالأحقاف، وهي في الجزيرة العربية؟!

وكم كانت حسرتي وحزني، وأنا أتجول في هذا الجامع العظيم، الذي شهد عظمة الأمويين واتساع الدولة الإسلامية في عهدهم، التي وصلت الصين شرقًا والأندلس غربًا، حتى رأيناها في وقت واحد، تحارب في جبهات أربع في أنحاء العالَم، يقود جيوشها أربعة من قوادها الكبار: مسلمة بن عبد الملك في الصين، وقتيبة بن مسلم في سمرقند، ومحمد بن القاسم في الهند، وموسى بن نصير ومعه طارق بن زياد في الأندلس أو إسبانيا.

أين الخلفاء والأمراء العظام الذين كانوا يؤمون الناس في محراب هذا المسجد، أو يعتلون منبره ليخطبوهم؟! وحكام هذا البلد اليوم لا علاقة لهم بالمسجد ولا بالصلاة!

وتذكرت هنا قول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته عن دمشق: 

 مررت بالمسجد المحزون أسأله:     هل في المصلى أو المحراب مروان؟  

 تغير المسجد المحزون واختلفت      على المنابر أحرار وعبدان!      

فلا الأذان أذان في منارته          إذا تعالى ولا الآذان آذان!

كما زرنا قبر صلاح الدين الأيوبي، الذي زاره القائد الفرنسي «غورو» في أثناء الحرب العالمية الأولى، وقال له بشماتة بعد انتصارهم على الأتراك: ها قد عدنا يا صلاح الدين!

بقينا يومين أو ثلاثة في دمشق، في أحد الفنادق هناك، واشترينا بعض الأشياء من «سوق الحميدية» منها بعض التحف، ومنها بعض المفارش، وكسوة لطقم عندنا. واستضافنا آل دعبول، في منزلهم هناك، ولم يكن الأخ رضوان أبو مروان موجودًا، حيث لا تسمح الظروف بدخوله.

وهنا تذكرت الكثيرين من أبناء دمشق الذين لا يستطيعون دخولها: العالِم الداعية الأديب الأستاذ عصام العطار، والعالِم المفكر الأستاذ محمد المبارك، والعالِم الداعية الدكتور محمد الهواري، والعالِم المؤلف الداعية الدكتور محمد أديب الصالح، والعالِم المحدث الشيخ محمد الصباغ، والعالِم المحقق الناشر الشيخ زهير الشاويش، وكثيرين.

ثم عقدنا العزم على الذهاب إلى حلب، مرورًا بحمص وحماة، مستأجرين سيارة تاكسي لتوصيلنا، وعند مرورنا بحمص ترحمنا على علّامة سوريا، الفقيه الداعية، ابن حمص: الشيخ مصطفى السباعي عليه رحمة الله. وتذكرت الأيام الطيبة التي قضيتها مع الإخوة في حمص سنة 1952م. وتذكرت الإخوة من علماء حمص، المحرومين من العودة إليها، مثل: الشيخ محمد علي مشعل، وغيره.

وعند مرورنا بحماة تذكرت عالِمها ومرشدها الكبير رجل التقى والورع الشيخ محمد الحامد رحمه الله، وتذكرت عالِمها المعاصر، الداعية الثائر الشيخ سعيد حوى، وتذكرت إخواننا الحمويين الذين يعملون في قطر وغيرها، ولا يستطيعون العودة إلى بلدهم الحبيب: مصطفى الصيرفي، وعدنان سعد الدين، ونعسان عرواني، وغيرهم. وعند حماة توقفنا قليلًا للاستراحة والصلاة، وشراء بعض الحلوى الحموية الشهيرة «الشعيبيات».

وانتهينا إلى حلب «الشهباء» لننزل ضيوفًا على زميلنا في قطر، الأخ الصديق سليمان الستاوي، المصري الذي صاهر أهل حلب، وقد رحب بنا هو وأهله وأحباؤه، وأكرموا وفادتنا غاية الإكرام، وقابلنا أقارب صديقنا ورفيقنا في قطر: الأستاذ عادل كنعان، وإن كان هو لا ينزل إلى سوريا، ككل إخواننا الذين لا يأمنون لحزب البعث، وإن لم يؤخذ عليهم أي جرم، ولكن الأنظمة الشمولية القاهرة لا تفرق بين بريء ومسيء.

وتذكرت إخواننا الكرام من علماء سوريا ودعاتها الذين غادروها من سنين، ولم يعودوا إليها: العالِم المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والعالِم الفقيه الشيخ مصطفى الزرقا، والعالِم الشاعر الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، والعالِم السياسي الدكتور معروف الدواليبي، والعالِم الداعية أبو الفتح البيانوني، وشقيقه الحركي النشيط الأستاذ علي البيانوني. وآخرين كثيرين لا يتسع المقام لذكرهم.

وبعد يومين أو ثلاثة أيام قضيناها في حلب، زرنا فيها قلعتها الشهيرة وسجنها الرهيب، وتجولنا في أنحاء حلب، فهي مدينة عريقة، لها تاريخ ولها أريجها الخاص، وهي مدينة سيف الدولة الحمداني، وأبي فراس الشاعر الفارس، وأبي الطيب المتنبي، وغيرهم من العلماء والأدباء والفلاسفة.

ومن حلب انطلقنا إلى منطقة «اصطياف» قريبة من الحدود التركية أظن أن اسمها «كَسَب» وبقينا فيها مدة لا أذكرها، ثم انتقلنا إلى منطقة أخرى قرب اللاذقية، إلى مصيف على البحر اسمه: «عين البسيط».

ثم انطلقنا من هذه المنطقة إلى اللاذقية، ليستضيفنا شقيق الأخ الصديق الأديب الباحث الأستاذ هاني طايع، الذي لا يستطيع أيضًا النزول من قطر إلى سوريا.

ومن اللاذقية ودّعت الأخ سامي وأهله، ليستكمل إجازته في سوريا، وسافرت أنا إلى لبنان عن طريق طرطوس، ونزلت بفندق شبلي في سوق الغرب.

إلى تركيا مع الشيخ عبد المعز:

وبعد رجوعي إلى لبنان، حضر فضيلة الأخ الكبير الشيخ عبد المعز عبد الستار إلى بيروت في طريقه إلى تركيا، فسأل عني، ولقيته، وأخبرني أنه مسافر إلى تركيا، ويريد أن أكون معه، وبخاصة أنني ذهبت مرتين إلى تركيا، وأصبحت خبيرًا بمداخلها ومخارجها، وجوامعها ومتاحفها وأسواقها.

وسافرنا من بيروت إلى إستانبول مرة واحدة، عن طريق الطيران التركي، وكان مع الشيخ ابناه محمد وعبد الستار. وفي هذه الزيارة جددت العهد بزيارة المناطق التي زرتها من قبل سنتي (1967، و1968م)، فزرتها مرة أخرى مع الشيخ عبد المعز. وسافرنا إلى «يالوا» وإلى «بورصة» وركبنا «التليفريك»، واستمتعنا بجبل بورصة، وأكلنا اللحم المشوي، وحلينا بالبطيخ، على العادة في تلك الزيارة.

وفي عودتنا حدثت لنا حادثة، لولا لطف الله تعالى بنا لكنا هلكنا، فقد كان في الطريق مطر مستمر، تسبب في انزلاق «الباص» الذي نركبه، وكاد ينقلب بنا، لولا أنه اتجه نحو الجبل، ومن شدة الصدمة وقع الناس في داخل الباص، واصطدم بعضهم ببعض، وجرح بعضهم، وسقطت الأمتعة التي كان يحملها بعض الناس، وخصوصًا «الكربوز» وهو: البطيخ، و«القاوون» وهو: الشمام، و«الشفتلي»: الخوخ أو الدرَّاق، فقد تدحرجت هذه الأشياء، ونزلت من الحافلة، وهي تجري وتركض بسرعة في الطريق النازل من أعلى إلى أسفل. وسقطت إحدى النساء من الحافلة، واصطدمت بالأرض، وسالت منها الدماء، ونقلتها إحدى السيارات إلى أقرب مستشفى، ولا ندري ما فعل الله بها.

وتعطلت السيارة، ووقفنا حتى جيء لنا بسيارة أخرى، وقلنا: الحمد لله، لو اتجهت الحافلة «الباص» نحو الوادي، لكان في ذلك هلاك محقق. والعجيب أن أحدًا لا يعرف عنا شيئًا، فللَّه الفضل والمنة، ففي كل قدر لطف. وقد قال ابن عطاء: من ظن انفكاك لطفه تعالى عن قدره؛ فذلك لقصور نظره: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (يوسف: 100).

ثم عدنا إلى لبنان مرة أخرى، وقد أوشكت الإجازة أن تنتهي، وقرب موعد وصول الأولاد من القاهرة إلى بيروت. وبعد أيام قليلة عادت زوجتي وأولادي، بعد أن عاشوا هذه الإجازة في مصر، واستمتعوا بجو مصر، ونيل مصر، وأريج مصر، وإن قالوا: إن عدم وجودك معنا جعلنا نشعر دائمًا أن هناك فراغًا لا يسده أحد، قلت: أرجو الله ألا يحدث ذلك في المستقبل.

ومن لبنان عدنا إلى قطر - أنا والعائلة - نستقبل عامًا دراسيًّا جديدًا، نسأل الله أن يكون خيرًا من سابقه، وأن يمدنا فيه بعونه، ويحرسنا بعينه، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك.

.....

(1) الآن وأنا أهيئ هذه المذكرات للمطبعة في شهر مايو 2004 ؛ أقول: قد أتيح لي أن أزور سوريا وأدخلها جهارًا نهارًا، بدعوة من مجمع الشيخ أحمد كفتارو المفتي العام لسوريا، وأن ألقى الرئيس بشار الأسد ونائبيه، وأن يرحب الجميع بي، ويدعونني ألا أنقطع عن زيارة سوريا، وأن أتحدث في محاضرات عامة، وفي التليفزيون السوري، وكل شيء بأجل مسمى، وقد عَدّ كثيرون من الإسلاميين زيارتي لسوريا فتحًا من الله تعالى. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.