استقبلنا العام الدراسي الجديد بهمة ونشاط، بعد عودة أولادي من مصر، وبعد سفري إلى سوريا وتركيا في الصيف.

عودة للبحث عن الدكتوراه في الأزهر:

بعد موت عبد الناصر، وتولي أنور السادات، وإزاحة مراكز القوى، التي كانت امتدادًا لحكم عبد الناصر، والإفراج عن المعتقلين، وإعلان سيادة القانون؛ تنفست مصر الصعداء، وأحس الناس أن الغُلَّ الذي كان يطوق أعناقهم قد فك عنهم.

وفي هذا الجو الذي هبت فيه نسمات الحرية، التي طالما حرمها أهل مصر: بدأتُ أفكر في العودة إلى الأصل، لأخذ الدكتوراه من الأزهر، ومن كلية «أصول الدين»، التي سجلت فيها أطروحتي عن: «الزكاة وأثرها في حل المشكلات الاجتماعية».

ولكن كان أمامي عقبات، منها: أن أقصى مدة يسمح فيها لطالب الدراسات العليا بتقديم رسالته، هي: ست سنوات، وقد مضى حوالي ضعف هذه المدة، فهل يمكن الاستثناء؟ والعقبة الأخرى: أن بحثي عن الزكاة قد نشر، وشرط قبول الأطروحة: ألّا تكون منشورة.

وكان من فضل الله ورحمته: أن وجدنا قانون أقصى مدة للتقديم قد عدل في عهد وزارة الشيخ عبد الحليم محمود، للأوقاف وشئون الأزهر: من ست سنوات إلى اثنى عشر عامًا. وهذا لم نكن نعلمه.

ولكن حتى هذا القانون لا يسمح لي بالتقديم، فقد مضى اثنا عشر عامًا أو أكثر على التقدم بأطروحتي لكلية أصول الدين.

ولكن المفاجأة الغريبة التي لم أكن أتوقعها قط: أني وجدت مجلس الكلية لم يعتمد الموضوع الذي تقدمت به إلا بعد سنة من تقديمه إلى الكلية، وهذا أمر لو عرفته في حينه لغضبت أشد الغضب، وأنحيت باللائمة على مَن أخره كل هذا الوقت.

ولكن كان لله حكمة لا نعلمها في هذا التأخير، وكما يقول المثل: كل تأخيرة فيها خيرة، فقد أتاح لي هذا التأخير أن أجد بصورة قانونية فرصة للتقدم من جديد إلى الكلية لتعيين مشرف جديد على رسالتي، واستجابت الكلية بسرعة، وعينت أحد شيوخنا الفضلاء مشرفًا هو الشيخ الدكتور عبد الرحمن عثمان، أستاذ التفسير المساعد بالكلية.

وكان الذي يركض وراء ذلك كله، ويحرك العجلة إلى الأمام، ويحل المشكلات المعقدة، هو الأخ الحبيب والصديق الصدوق الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، الذي كان يعمل مدرسًا مساعدًا بالكلية، ولم يأل جهدًا في تتبع الأمور، وتسهيل كل صعوبة تعترض الطريق.

بقي موضوع الرسالة التي يشترط ألَّا تكون منشورة قبل، وقد نشرت بحثي الأصلي. ومن حسن الحظ: أن البحث الذي نشرته كان بعنوان: «فقه الزكاة»، والبحث الذي سجلته في الكلية كان بعنوان: «الزكاة، وأثرها في حل المشكلات الاجتماعية».

لهذا صممت بحثًا جديدًا، استقيته من ثلاثة مصادر:

1 - من كتابي: «فقه الزكاة».

2 - ومن كتابي: «مشكلة الفقر».

3 - ومن بحوث جديدة لم تنشر من قبل.

وأكملت الرسالة المطلوبة من ناحية البحث، ثم من ناحية الطباعة على الآلة الكاتبة، وهي تحتاج إلى وقت غير قليل، حتى يسّر الله طباعتها ومراجعتها، وفهرستها، ثم إرسالها إلى القاهرة لتسلم إلى الكلية، لتعيِّن لجنة المناقشة، وترسلها إلى الأعضاء، حتى يمكن مناقشتها في إجازة الصيف إن شاء الله.

والحمد لله، تم إرسالها إلى القاهرة مع حماتي رحمها الله، وتسلمها صديقي الشيخ حسن عيسى، وسلمها في الحال إلى الكلية، لتتخذ إجراءات تعيين لجنة المناقشة، وقد عُينت برئاسة شيخنا العلامة الشيخ محمد علي السايس، عضو مجمع البحوث الإسلامية، وعميد كلية أصول الدين من قبل، وعضوية أستاذنا الدكتور عوض الله حجازي، عميد كلية أصول الدين وقتئذ، والمشرف على الرسالة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عثمان، وأبلغت بذلك وأنا في قطر.

إنشاء كليتي التربية في قطر:

وفي هذه الأثناء كانت كليتا التربية للبنين والبنات على وشك الإنشاء في قطر، نواة لجامعتها المنشودة، وقد أخذ المشروع وقتًا كافيًا في الدراسات والمناقشات والتهيئة والإعداد، وعقدت اجتماعات شاركتُ في بعضها، وشارك فيها عدد من الأكاديميين والتربويين، منهم: الأستاذ الدكتور محمد الشبيني، ومنهم: صديقنا الدكتور يوسف عبد المعطي، الذي يعمل من زمن طويل في الكويت، ومنهم من قطر: الدكتور كمال ناجي، والدكتور أحمد رجب عبد المجيد، والأستاذ عبد العزيز عبد الله تركي، وآخرون.

وقد وقع الاختيار على المربي الكبير الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم كاظم، عميد كلية التربية بجامعة الأزهر، ليكون عميدًا للكلية، أو قل: للكليتين، وكان الذي رشحه لذلك هو الدكتور كمال ناجي، مدير المعارف في قطر، بناءً على تزكية من الدكتور عبد العزيز كامل، الذي يعرفه معرفة جيدة.

ورأى الجميع أن هذه فرصة لتحسين وضعي المادي والأدبي، وإن كنت لم أحصل على الدكتوراه بعد، وبخاصة أن الكلية سيكون فيها قسم للدراسات الإسلامية، وكلمت الشيخ خليفة في الأمر، فأصدر قراره فورًا بتعييني في الكلية رئيسًا لقسم الدراسات الإسلامية بدرجة أستاذ مساعد «أستاذ مشارك في مصطلح بعض الجامعات»، هذا مع بقائي مديرًا للمعهد الديني، إلى جوار عملي الجديد، وكان رقم وظيفتي في الكلية رقم (6) بعد التعاقد مع الدكتور كاظم وأربعة آخرين معه.

تعليقات «دار الاعتصام» على كتاب «الحلال والحرام»:

في سنة 1972م أرسل إليَّ الأخ أسعد السيد، وقد خرج من السجن، يخبرني أنه يريد أن يبدأ عملًا مستقلًّا في الطباعة والنشر، وقد كان قبل ذلك يعمل موظفًا في إحدى دور النشر. وأنه يريد أن يستهل عمله بنشر كتاب ذي قيمة مرغوب فيه، وأنه اختار كتابي «الحلال والحرام في الإسلام» ليكون باكورة هذا العمل، وبخاصة أن الكتاب مفقود في السوق المصرية منذ طبعته مكتبة دار العروبة من عدة سنين.

وكان كتاب «الحلال والحرام» قد طبع أول طبعة في مطبعة عيسى الحلبي، وثاني طبعة في المكتب الإسلامي في بيروت، وقد طبع على نفقة الشيخ فهد بن عليّ آل ثاني، الذي قام بتوزيعه احتسابًا لوجه الله ولنفع المسلمين. ثم ظل المكتب الإسلامي يطبعه بعد ذلك، وأحسبه طبع منه خمس طبعات خلال الفترة الماضية، غير الطبعة الأولى والثالثة، وطلب الأخ أسعد أن يطبعه الطبعة الثامنة، واستجبت للأخ الكريم وأعطيته إذنًا بالنشر.

ولكني فوجئت بعد بضعة أشهر بالكتاب أرسله إليَّ الأخ أسعد مطبوعًا، وقد أخرجته «دار الاعتصام» التي تنسب إلى إخواننا في الجمعية الشرعية، وصاحبها المرحوم الشيخ أحمد عيسى عاشور، وأنهم علقوا على عدة مواطن في الكتاب، معترضين عليها، ووضعوا هذه التعليقات في صلب الكتاب دون أن يستأذنوني فيها.

وما أن رأيت هذه التعليقات وقرأتها بسرعة، حتى غلى الدم في عروقي، وثار ثائري، كيف يفعلون هذا دون إذن مني؟! ثم إني لم أعط الكتاب للاعتصام، وإنما أعطيته لأسعد. ولكن لأن أسعد لم يكن أنشأ داره بعد «دار الأنصار»؛ اضطر إلى أن يبحث عن دار تتبنى نشر الكتاب، فكانت «دار الاعتصام» التي لم يرُقْها اتجاه الكتاب إلى التيسير، فردت عليه في جملة موضوعات.

أرسلت برقية عاجلة إلى الأخ أسعد، أقول له: أوقف توزيع الكتاب، حتى أكتب ردًّا على تعليق الاعتصام، وسأكتبه في أيام إن شاء الله. وبدأت أكتب الرد، وطبعته على الآلة الكاتبة، وأرسلته بأقصى سرعة ممكنة، وأرسله أخونا أسعد ليجمع، وقد جمع فعلًا، ولكن الكتاب قد نزل إلى الأسواق، ووزع هنا وهناك، ولم يعد إلى الاستدراك سبيل، وأرسل إليَّ أخونا أسعد يخبرني بذلك آسفًا. ولكني حمّلت التبعة لأسعد، وكان جزاء ذلك أن سحبت الكتاب منه، ومن الاعتصام بالتالي.

وعندما نزلت مصر في صيف 1973م، واتفقت مع الأخ الفاضل الحاج وهبة حسن وهبة رحمه الله الذي كنت تعرفت عليه من قبل في الإخوان، على أن أنشر عنده سائر كتبي، التي نشرت في بيروت طيلة الأعوام التسعة الماضية التي لم أنزل فيها مصر، مثل: «الإيمان والحياة»، «العبادة في الإسلام»، «مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام؟»، «الناس والحق»، «عالِم وطاغية»، «الحلول المستوردة، وكيف جنت على أمتنا؟»، «الحل الإسلامي، فريضة وضرورة»، «فقه الزكاة»، «درس النكبة الثانية»، «شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان».

وعلى رأس هذه الكتب «الحلال والحرام». وطلبت من الأخ وهبة: أن ينشر تعليق الاعتصام وردي عليه، وتركت له التعليق والرد، وبعد فترة مررت عليه، فقال لي: إن هذا التعليق والرد عليه، سيأخذ أكثر من ثلاث ملازم، وهذه عبء على الكتاب، ستغلي ثمنه على القارئ المسلم، دون ضرورة إلى ذلك، فالأمور التي علقوا عليها واضحة في الكتاب، وسوف تبلبل القارئ بالتعليق والرد عليه، ورأيي أن لا ضرورة لنشره. واستجبت لرغبته، ولم ينشر الرد إلى الآن، وهو عندي، وأرجو أن تتاح لي طبعة خاصة موسّعة، تضم ردودًا على من نقدوا الكتاب، والله المستعان.

السفر إلى القاهرة:

وانتهى العام الدراسي، وكان لا بد من السفر إلى القاهرة، بعد غياب تسع سنوات كنت أقضي الإجازة فيها بين لبنان والأردن وتركيا، وقد استقرت الأمور، وأمن الناس من خوف، في عهد الرئيس السادات، وأفرج عن المعتقلين، بل أغلقت المعتقلات، وأعلن عن سيادة القانون، وتنفس الناس ملء صدورهم، واستقبلوا لأول مرة: أنسام الحرية، لتنعش أرواحهم، التي طالما شعرت بالاختناق في العهد الغابر.

لهذا عدت وأنا مطمئن غير قلق، آمن غير خائف، وهذا ما شعرت به منذ وطئت قدماي مطار القاهرة، فلم يسألني أحد: لماذا تغيبت عن مصر طوال هذه المدة؟ ولم يرسل إلى أحد من المباحث العامة لأقابله، كما كان يفعل أحمد راسخ من قبل.

وعشت فترة إجازة الصيف في أمان واطمئنان، والحمد لله، سافرت إلى قريتي صفط تراب، لأزور الأهل والأقارب، وسافرت إلى زفتى، لأزور أختي من أمي، وسافرت إلى طنطا، لأزور خالتي التي حوكمت من أجلي، وسافرت إلى المحلة الكبرى، لأزور فيها إخواني وأحبابي القدامى.

وكانت شقتي القديمة في شبرا باقية كما هي، وكان يسكن فيها أصهاري، ونزلت بها، وجددنا الصلة بجيراننا، الذين كدنا ننساهم، وقد لاحظت أني أول ما نزلت القاهرة -وسط البلد- كنت أشبه بالناسي للأماكن والاتجاهات، وكأنها أمست مختلطة عليَّ، ولكن سرعان ما استعدت الخارطة، واستردت ذاكرتي ما غاب عنها.

مناقشة الدكتوراه في 23 يوليو:

وسرعان ما أُبلغت بتعيين موعد المناقشة لرسالة الدكتوراه، وذلك يوم 23 يوليو، وكان الفضل في هذا التعجيل يرجع إلى سعي الأخ الحبيب والصديق القديم: الأستاذ عبد العظيم الديب، الذي كان يعرف الشيخ السايس رئيس اللجنة، فزاره في بيته، وأعطاه فكرة كافية عني، وعرفه بأن وقتي في القاهرة محدود، وأن السرعة من صالحي، فقرأ الشيخ الرسالة بسرعة، وحدد مع العضوين الآخرين يوم 23 يوليو للمناقشة.

وتوكلت على الله، وذهبت إلى قاعة المناقشة في اليوم الموعود، فوجدت قاعة الشيخ محمد عبده شبه ممتلئة، برغم أن اليوم يوم إجازة؛ لأنه يوم عيد الثورة، وكذلك تتم المناقشة في عطلة الصيف، ومع هذا كان الحضور كبيرًا، ولبست «الروب» الأسود المعتاد في مثل هذه المناسبة، وكان المفروض أن أعد بيانًا مكتوبًا لإلقائه، ولكني اعتمدت على قدرتي في الخطابة والارتجال، فارتجلت بيانًا شفهيًّا أعددته في نفسي، لخصت فيه الرسالة، وما انتهت إليه من نتائج، وقد لاقى البيان استحسان الحاضرين.

وتكلم فضيلة رئيس اللجنة العلّامة الشيخ محمد السايس رحمه الله، ففاجأ الحاضرين بما ليس معتادًا في هذه المناسبات، أثنى ثناءً عاطرًا على مقدم الرسالة، ودوره في خدمة العلم والإسلام، وأن الله تعالى كتب له المحبة والقبول عند الناس، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (مريم:96).

وقال الشيخ فيما قاله: إن الأستاذ القرضاوي فعل كذا وكذا، فقال الشيخ الدكتور عوض الله حجازي مداعبًا: يا مولانا، هو لم يصر أستاذًا بعد! فقال: بل هو أستاذ ونص!!

وقد سألني بعض أسئلة أجبت عنها، وكان منها: لماذا لم تتحدث عن زكاة العقارات والمصانع، وعن زكاة الأسهم والسندات، وعن زكاة الأموال الحديثة التي لم يكن يعرفها الناس من قبل؟

فقلت له: يا مولانا، لقد تكلمت عن هذه الأشياء، وأبديت فيها رأيي، ولكن أجبرني مشرفي من قبل أن أحذف هذه الفصول من رسالتي، وإلا رفض الإشراف عليها، فاضطررت إلى أن أحذفها تنفيذًا لرغبة مشرفي.

وسألني الدكتور عوض الله بعض أسئلة أجبته عنها، ولم يوجه المشرف أي سؤال إليَّ، وانتهت المناقشة، بقيام اللجنة لصلاة المغرب، ثم للتداول، وأخيرًا عادت فأعلنت نجاح الطالب بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى في الحديث وعلومه.

وقد علمت أن اللجنة ترددت: لأي القسمين تنسبني: لقسم التفسير وعلوم القرآن، أم لقسم الحديث وعلومه؟ وذلك أني حين انتسبت إلى الدراسات العليا، كانت الشعبة التي تقدمت إليها تشمل القسمين معًا: القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، ولكنهم وجدوا أن العمل الحديثي في الرسالة أوسع بكثير من العمل التفسيري، فنسبوني إلى الحديث.

وكان من حضور المناقشة أستاذنا وشيخنا البهي الخولي، الذي قال لي: إن هذا لم يكن يوم مناقشة، إنه كان عُرْس القرضاوي، إنه كان يوم احتفال بك في الأزهر! قلت له: هذا بعض ثمار غرسكم يا أستاذ، قال: بل هو ثمرة جدك واجتهادك، ومن زرع حصد. وكان صهري الأخ سامي عبد الجواد يصور الحفل تصويرًا سينمائيًّا، فلم تكن كاميرات الفيديو قد ظهرت بعد.

وكان هذا المهرجان فرصة لأرى فيه كثيرًا من الأقارب والأحبة الذين انقطعت عنهم من سنين من أهل قريتي، خالي عبد الحميد، والحاج سيد مولانا، ومن أهل طنطا والمحلة الكبرى. فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

لك الحمد مولانا على كل نعمة  **  ومن جملة النعماء قولي: لك الحمد!

التعرف على الدكتور كاظم:

بعد انتهاء المناقشة كان عليَّ أن أسعى لاستخراج ورقة من جامعة الأزهر بحصولي على الدكتوراه، فإن الشهادة الأصلية لا تستخرج إلا بعد مدة، وهذا جعلني أتردد على مدير الجامعة، وكان في حينها الأستاذ الدكتور بدوي عبد اللطيف، أستاذ التاريخ، الذي كان قد سمع عني، فاستقبلني بحفاوة، ورحب بي، وتحدثنا في أمور الجامعة وآمال الناس فيها..

وحدثته في السنة التأهيلية وأهميتها في تكوين من ينسب إلى الأزهر، وما يجب أن يكون عليه، فقال لي: ليتك تكتب لي هذا الكلام، أو خلاصته في بضع صفحات لأستفيد به، ففعلت ذلك وذهبت إليه بعد يومين أو ثلاثة، فوجدت عنده أستاذًا قدم لي نفسه، وقال: أنا سآتي عندكم إلى قطر في العام القادم. قلت له: من حضرتك؟ قال: أنا الدكتور محمد إبراهيم كاظم، عميد تربية الأزهر، وقد اخْتِرت عميدًا لكليتكم الناشئة. قلت له: أهلًا بك في قطر، وقد سمعت عنك قبل أن أراك.

وسرعان ما أنس كلانا بالآخر، كأنما تعارفنا من قديم، وقال لي: إذا لم يكن لديك مانع، فتعال نترافق في بعض المشاوير معًا. وقبل خروجنا من إدارة الجامعة دعاني إلى زيارة نائب رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور زكي شبانة، فصحبته إليه، فرحب بي د. شبانة ترحيبًا حارًّا، وقال: أنا أعرفك، منذ زرتنا في قريتنا «ششتا» وألقيت محاضرة في المسجد هناك، وتركت أثرًا طيبًا في البلدة. وكنت لا تزال طالبًا! قلت له: الحمد لله، الكلمة الطيبة لا تضيع ثمرتها. وبعد أحاديث تبادلناها استأذنا، وخرجت مع د. كاظم.

وركبت معه سيارته، وذهب بي إلى مكتبه في كلية التربية بجامعة الأزهر في مدينة نصر، وأخذت منه بعض الأوراق، ثم ذهبت معه لزيارة وزير الأوقاف فضيلة الشيخ عبد العزيز عيسى، وكان الشيخ يعرفني، وقد زارنا في قطر، فرحب بي كثيرًا. بعد ذلك استأذنتُ من الدكتور كاظم في الانصراف، على أن نلتقي كلما سنحت الفرصة، لأحدثه عن قطر وأوضاعها، ليستكمل فكرته النظرية عنها. وبعد أن استخرجت الورقة المؤقتة، بحصولي على الدكتوراه؛ أصبحت قادرًا على التحرك إلى حيث أريد.

السفر إلى مصيف الإسكندرية:

وهنا طلب الأولاد مني أن أكافئهم بالذهاب إلى مصيف الإسكندرية، ليستمتعوا بنسيم البحر، ويأخذوا قسطًا من الراحة والاستجمام، وليستنشقوا الهواء الطبيعي بدل الهواء الصناعي الذي يوفره «التكييف» في قطر.

وقلت لهم: من حقكم -ومن حقي معكم- أن تستمتعوا بشاطئ الإسكندرية، واستأجرنا شقة جميلة في حي «ميامي» قريبة جدًّا من البحر، وتراه بوضوح، وقد استأجرناها لمدة شهر، فقضيناه في جو من الهدوء والمرح، نأكل ونشرب، ونلهو ونلعب، وقد اشترينا شمسية وبعض الكراسي، لنستخدمها على الشاطئ، وفي المساء نمشي على الكرنيش لنأكل الذرة المشوية أو البطاطا المشوية، أو الترمس ونحوه.

ولم يكن أحد يعرف أني في الإسكندرية، فقد خبأت نفسي عن إخواني وأصدقائي، ولم أخبر أحدًا منهم بمقدمي إلى عروس البحر الأبيض المتوسط، ثم خطر لنا أن نسأل عن صديقنا الدكتور عبد العزيز بغاغو، زميلنا في قطر، وطبيب الصحة المدرسية البارع، وهو من سكان الإسكندرية، وحين عرف بوجودنا أبى إلا أن يدعونا إلى غدوة سمك، يوم الجمعة القادم في منزله..

وقد دعا الواعظ البليغ والخطيب الشهير الشيخ محمود عيد، خطيب جامع السلام في الإسكندرية على الغداء معه، وذهبت يوم الجمعة لأصلي عند الشيخ محمود، ودخلت مستخفيًا قابعًا في ركن قصي من المسجد، حتى لا ألفت إليَّ نظر أحد، كما أني لا ألبس الجبة والعمامة، ولكن لا أدري كيف عرف الشيخ محمود أني موجود بالمسجد، فإذا هو يعلن في الخطبة الثانية عن وجودي، ويدعوني لإلقاء كلمة بعد الصلاة.

وهناك اجتمع الناس وعرفوا أني مقيم بالإسكندرية، وأني مقيم بالعمارة رقم كذا في شارع إسكندر إبراهيم.. فلم أعد بعدها أملك نفسي، فقد دعيت إلى عدة محاضرات، وإلى عدة لقاءات، وإلى عدة دعوات: غداء وعشاء.

وانتهت الأيام التي كنت أشعر فيها بالإجازة بعيدًا عن هموم الدعوة، ومزاحمة الناس، وهذه هي ضريبة الدعوة، وضريبة الشهرة، لكن المهم أن يعمل المرء العمل، ويتقبله الله منه، فإنه تعالى قال في كتابه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (المائدة:27). وقضينا شهرنا في الإسكندرية، وما أسرع ما انقضى، ثم عدنا إلى القاهرة، لنتهيأ للعودة إلى قطر.

السنة الدراسية (1973 - 1974م)

كليتا التربية في قطر:

بعد قضاء الإجازة الصيفية في مصر، التي كانت إجازة غير عادية، رأيت فيها مصر بعد انقطاع تسع سنوات، ورأيت الأهل والأقارب والأحبة، بعد أن فرقت الأيام بيني وبينهم، وحصلت على الدكتوراه، التي كنت يئست في وقت من الأوقات أن أنالها من مصر، وقضيت أوطارًا كثيرة في هذه الفترة القصيرة، بعد هذا كله كان لا بد من العودة إلى قطر، لمباشرة عملي الجديد في كليتي التربية.

رأي المسئولون في قطر: أن يبدءوا تعليمهم العالي أو الجامعي بإنشاء كليتي التربية بأقسامها المختلفة: العلمية والأدبية؛ وبهذا تكون الكلية كأنما هي نواة لجامعة مكتملة. ففي الأقسام العلمية نجد: قسم الفيزياء، وقسم الكيمياء، وقسم الحيوان، وقسم النبات، وقسم الجيولوجيا، وعلوم البحار، وقسم الرياضيات.

وفي الأقسام الأدبية: نجد قسم الدراسات الإسلامية، وقسم اللغة العربية، وقسم اللغة الإنجليزية، وقسم الجغرافيا، وقسم التاريخ، وقسم الاجتماع، وقسم علم النفس، وأقسام التربية المختلفة.

ونظرًا لأن دولة قطر دولة محافظة، ولا يوجد فيها اختلاط في التعليم بين البنين والبنات، فمدارس البنات في جميع مراحلها كلها مؤنثة من التدريس إلى الإدارة إلى التوجيه، كلها تقوم بها المرأة، حتى الرئاسة العامة لتوجيه البنات تقوم عليها امرأة؛ ومن هنا كان التفكير من أول الأمر: أن تنشأ الدراسة الجامعية بكليتين: إحداها للطلاب والأخرى للطالبات.

ولم يكن الوقت يسعف بانتظار بناءً خاص يشاد لهذه الغاية، فرئي الاستفادة من مدرستين ابتدائيتين جديدتين أنشئتا في مدينة خليفة الشمالية للبنين والبنات فحوّلتا، لتكونا كليتين للبنين والبنات، وهما متقاربتان في المسافة، فيسهل التنقل بينهما لأعضاء هيئة التدريس، إذ كان معظم المدرسين من الرجال، وكانت توجد بعض الدكتورات، مثل: الدكتورة كوثر عبد الرسول أستاذ الجغرافيا، والدكتورة صفاء الأعسر أستاذ علم النفس، زوجة الدكتور كاظم عميد الكلية، والدكتورة زينب في الفيزياء.

وكان الدكتور كاظم عميد الكلية -أو قل: عميد الكليتين- يحسن اختيار الرجال، فاختار عددًا من الأساتذة الأقوياء الأمناء في التخصصات العلمية والأدبية، مثل: الدكتور محمد فتحي سعود في الأحياء، والدكتور كمال البتانوني في النبات، والدكتور حسين أبو ليلة في الفيزياء، والدكتور عمر عبد الرحمن في الكيمياء، والدكتور محمد سليمان في الجيولوجيا، والدكتور ماهر حسن فهمي، والدكتور عبد العزيز مطر في اللغة العربية، وغير هؤلاء ممن قامت على كواهلهم جامعة قطر.

وكان معي في قسم الدراسات الإسلامية مدرس واحد هو: الدكتور أحمد يونس سكر رحمه الله، وهو متخصص في الفقه، وفي كل سنة تنمو الكلية، وينضم إلينا أساتذة جدد، من أمثال: الدكتور جابر عبد الحميد في علم النفس، والدكتور عبد العزيز بيومي في علم النبات، والدكتور محمد نصار، والدكتور عبد العظيم الديب في الدراسات الإسلامية، ولم تزل الكلية تنمو رويدًا رويدًا، حتى صدر القرار الأميري بأن تصبح جامعة مكتملة، تشمل أربع كليات: كلية للشريعة والدراسات الإسلامية، وكلية للإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وكلية للعلوم، بالإضافة إلى كلية التربية.


جامعة قطر

ماذا كنت أدرس؟

كنت في السنوات الأولى أدرس لجميع طلاب الكلية وطالباتها: الثقافة الإسلامية، كما أدرس لطلاب الأدبي العام وطالبته: فقه السيرة النبوية. كما كنت أدرس للطلاب المتخصصين والطالبات المتخصصات في الدراسات الإسلامية: معظم المواد، كنت أدرس لهم التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، والعقيدة، والفقه وأصول الفقه.

حتى إني أشرفت على الدفعة الأولى من طالبات قسم الدراسات الإسلامية في مقرر «التربية العملية»: في السنة الثالثة والسنة الرابعة. فلم يكن أساتذة التربية قد اكتملوا بحيث يسدون الثغرات المطلوبة كلها، وقد عرف المسئولون في الكلية أني درست علوم التربية في «تخصص التدريس»، فكلفوني أن أنهض بعبء الإشراف على الطالبات، وقبلت ذلك، فكنت أزور معهن مدارس البنات، وأكلف إحداهن بتحضير درس نموذجي، لتلقيه في الفصل وتناقشها زميلاتها بعد ذلك، لتعرف نقاط القوة، ونقاط الضعف في درسها.

ولقد أفادتني بالفعل دراستي القديمة في إجازة التدريس، فقد درسنا هناك أصول التربية، وطرق التدريس العامة، وطرق التدريس الخاصة، والتربية العملية، وأذكر أني حصلت في مادة «التربية العملية» على 50 من 50 في السنة الأولى وفي السنة الثانية.

تفوق الطالبات:

ولقد لاحظت -كما لاحظ غيري من الأساتذة- تفوق الطالبات على الطلاب، وكان هذا شائعًا في جميع الأقسام العلمية والأدبية، كما كان ظاهرًا بوضوح عندنا في الدراسات الإسلامية، والعجيب أني وجدت هذا موجودًا ومعترفًا به في كل أقطار الخليج.

تُرى ما السر في هذا؟ وأين ما يقال عن تفوق الرجال على المرأة في الذكاء؟! وأن مخ الرحل أثقل وزنًا من مخ المرأة، إلى آخر ما يقوله البيولوجيون في هذا المجال؟ وأود أن أذكر بحكم ملاحظتي وتجربتي: أن هناك أسبابًا ثلاثة رصدتها، ورأيتها وراء تفوق الطالبة القطرية في الجامعة:

الأول: أن جميع الطالبات المتفوقات يدخلن جامعة قطر، حيث لا يتاح لهن الابتعاث إلى الخارج، كما هو الشأن في كثير من الطلبة المتفوقين في الثانوية، حيث يذهبون على نفقة الدولة في بعثات خارجية، إلى البلاد العربية، وإلى أوروبا، وربما إلى أمريكا، أما البنات فلا تسمح ظروفهن الاجتماعية بمثل هذا الابتعاث.

والثاني: أن الطالبات أكثر استقرارًا في الجامعة من الطلاب، فالطالبة تأتي من الصباح، وتبقى في الكلية، ولا تغادرها حتى تنتهي دراستها، أما الطالب فمعه سيارته، يحضر المحاضرة، ويركب سيارته، ويمضي هنا وهناك، فهو في الجامعة ساعة المحاضرة فقط، كما أنهن في بيوتهن أكثر لزومًا للبيت وقرارًا فيه من الأولاد؛ وهذا مما يساعد على المراجعة والمذاكرة.

والثالث: أن البنات أكثر حرصًا على الدراسة، والتنافس بينهن أشد، وحب التفوق على الأخريات أقوى وأعظم، وهذا عامل نفسي مهم في دفعهن إلى المزيد من الاجتهاد والتحصيل.