وأخذنا طريقنا إلى «سنغافورة»، وكانت إحدى «المضايق» البحرية التي كان يهيمن عليها المسلمون، مثل: «باب المندب»، و«جبل طارق»، و«البسفور»، و«الدردنيل»، ويسميه الأتراك «البوغاز»، وقد كانت سنغافورة -كما قلنا- جزءًا من بلاد الملايو، وهي بلاد إسلامية، فلما كثر فيها الصينيون، سعوا إلى فصلها عن ماليزيا، ليتخذوا منها دولة نموذجية مستقلة، يقوم اقتصادها على الصناعة والسياحة، وتقوم سياستها على الديمقراطية، وتراعى بشدة: النظافة، والنظام، والانضباط، ولا تسمح بأي خلل في هذه النواحي.

والمسلمون يكوّنون فيها أقلية كبيرة، ولهم مدارسهم، وجوامعهم، وجمعياتهم، ومؤسساتهم الخاصة، وقد زرنا الجمعية الإسلامية هناك، وقد تعرفنا على عدد من أعضائها وأطلعونا على أنشطتهم الدعوية، والثقافية، والتربوية، والاجتماعية، والاقتصادية، فسررنا بها، ودعونا لهم بالتوفيق، ولليمنيين خاصة جالية مرموقة، وقد صحبونا إلى مدرسة لهم تسمى: «مدرسة الجنيد».

إلى الفلبين:

بعد سنغافورة ولّينا وجهنا شطر «الفلبين»، ونزلنا على عاصمتها «مانيلا»، وقضينا فيها يومين، زرنا فيها بعض الجهات والمؤسسات الإسلامية في المدينة، وقابلنا بعض المسئولين الذين اهتموا بنا وبزيارتنا اهتمامًا غير عادي، وكان ذلك في عهد الرئيس «ماركوس» طاغية الفلبين المعروف، وقد عرفوا أنّا نقصد الجنوب الذي يسكنه المسلمون، فهيئوا لنا طائرة عسكرية خاصة، تنقلنا إلى أقرب مطار لمدينة «مراوي ستي» إحدى عواصم الجنوب الإسلامي، وهي المقصودة بالزيارة.

ومن المعروف: أن الجنوب الإسلامي تقوم فيه -منذ سنوات- مقاومة ضد حكومة مانيلا، تطالب بالاستقلال، والحكومة تطاردهم وتحاول سحقهم، ولم تستطع ذلك حتى اليوم، وقد كان لإسرائيل أصابع في التهييج على المسلمين هناك، منذ أعلنوا غضبهم على سفارتهم هناك، وبالفعل ركبنا الطائرة العسكرية ووصلنا إلى المطار، وكان الناس في استقبالنا بأعداد كبيرة، وقد طوقونا بالورود والأزهار على عادة أهل تلك البلاد في تكريم الضيوف.

ووصلنا إلى «مراوي ستي» لنجد المدينة، وكأنما خرجت عن بكرة أبيها تستقبلنا، فالمسلمون هناك يحسون باليتم والضياع، حتى يأتيهم ضيف مسلم كبير، فيلتفوا حوله، وكأنما يقولون لخصومهم: نحن لسنا وحدنا، نحن جزء من أمة كبرى، تملأ الأرض من المحيط إلى المحيط!

كان المسلمون حكام الفلبين من قبل:

كان المسلمون في الفلبين هم أول من وجّه لنا الدعوة لنقوم بهذه الزيارة، فهم المقصودون أولًا وبالذات؛ ولذا وجب أن نبقى معهم أطول مدة ممكنة، لنتعرف على أحوالهم، وأوضاعهم وحاجاتهم ومشكلاتهم، ونجتهد أن نساهم ما أمكننا في حلها.

وكان المسلمون قديمًا هم الذين يحكمون هذه البلاد، حتى جاء الإسبان، بما يملكون من عتاد حديث، وأسلحة غير الأسلحة التقليدية، التي في أيدي المسلمين، ووقعت الحرب بين الفريقين، وانتهت إلى أن لاذ المسلمون بالجنوب واستقروا فيه، وأصبحت لهم الغلبة عليه، والتمكن في أرضه، والإسبان هم الذين أطلقوا على هذه البلاد اسم: «الفلبين» نسبة إلى فيليب أحد ملوكهم، ولم يكن هذا اسمها التاريخي، وقد وقعت بين المسلمين وبين «ماجلان» الرحالة الاستعماري المعروف معركة قُتل فيها «ماجلان».

المسلمون والدولة المركزية في مانيلا:

وفي العصر الحديث أرادت الدولة المركزية في «مانيلا» أن تخضع المسلمين في الجنوب لها، ورفض المسلمون أن يدينوا لها بالولاء والطاعة؛ لأنهم لا يرون أنفسهم جزءًا من الدولة، ولا يجوز للمسلم أن يذعن لغير المسلم، والله تعالى يقول: {وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا} (النساء: 141).

أصدرت الدولة في منتصف القرن الماضي قانونًا يفرض على كل مالك أرض أن يسجلها رسميًّا، وإلا عُدَّت أرضًا لا مالك لها، فيجوز للدولة أن تأخذها وأن تعطيها للآخرين.

ورفض المسلمون هذا القانون، وانتهزت الدولة المركزية الفرصة لتهجِّر من نصارى المناطق الأخرى من يستولي على هذه الأرض بقوة السلاح، ومعه قوة الشرطة، وقوة القانون؛ وهذا ما دعا المسلمين في تلك المناطق إلى أن يحملوا السلاح ليدافعوا عن أملاكهم ووجودهم وأرضهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.

وزاد الطين بلة: أن المسلمين رفضوا أن يدخلوا مدارس الدولة، وأن يتعلموا في جامعاتها، إلا قليلًا منهم، فترتب على ذلك أن أصبح المسلمون لا يعملون في دوائر الحكومة المختلفة؛ لأنهم لا يملكون مؤهلات أي عمل في الحكومة.

وأصبح للمسلمين تعليمهم الخاص، الذي تقوم عليه المدارس والمعاهد العربية الكثيرة في الجنوب الإسلامي، وهي مدارس تعلم طلابها وطالبتها: العلوم الشرعية والعربية، على الطريقة التقليدية القديمة، التي هجرها الأزهر وغيره من المعاهد الدينية، واختاروا طرقًا أيسر منها وأقرب في تعلم النحو والصرف والبلاغة، وغيرها من العلوم.

ولا يتعلم هؤلاء اللغة الإنجليزية، وهي ضرورية للناس في هذا البلد، كما لا يتعلمون العلوم الطبيعية والرياضية، فلا يعرفون شيئًا عن الفيزياء والكيمياء والأحياء، والهندسة والجبر، وغيرها، كما لا يدرسون شيئًا عن الجغرافيا أو التاريخ.

إن هذه المدارس -وهي بالعشرات، بل بالمئات- بمناهجها وكتبها ومدرسيها، تعيش خارج العصر، وكأنما هم أهل الكهف، حين خرجوا من نومهم، فوجدوا دنيا غير الدنيا، ولكن هؤلاء لم ينهضوا من نومهم، ولم يخرجوا من كهفهم بعد!

هذا هو واقع القوم الذين ذهبنا إليهم، والذين دعونا إلى زيارتهم، وقد نزلنا ضيوفًا على محافظة المدينة، فقد كان القوم حريصين على أن نظل تحت أعينهم، خوفًا من أن نتصل بالمجاهدين الذين يقُضّون مضاجعهم، والذين يطالبون بحكم فدرالي، يستقلون بمقتضاه في هذه المنطقة.

المدارس العربية في جنوبي الفلبين:

بدأنا زيارة المدارس العربية، التي احتفت بنا احتفاءً لا نظير له، وجلسنا مع مديريها ومع مدرسيها ومدرساتها، وقدمنا لهم من النصائح ما نرى أنه أصلح لهم، وكان من هذه المدارس: ما أسسته جمعية «إقامة الإسلام» التي أسسها الشيخ أحمد بشير رحمه الله، وقد زارنا في قطر وفي المعهد الديني أكثر من مرة. وأخرى أقامتها هيئات شعبية، وجمعيات خيرية، ورجال أخيار صالحون.

وكان من نصائحنا لهذه المدارس ورجالها: أن تكون لها رابطة أو اتحاد، يجمع بينها، ينشئ جمعية عمومية، وينتخب مجلس إدارة، يقوم على تهيئة ما يلزمها من طلبات، ويرتب أولوياتها، ويعمل على تطوير مناهجها وكتبها، وإدخال ما هو ضروري من العلوم والمواد الدراسية.

قالوا: إن هذا التطوير يحتاج إلى مبان تصلح له، وهذه ليست عندنا، ويحتاج إلى معلم متخصص، ونحن لا نملك هذا المدرس، ويحتاج إلى إدارة تديرها، وهذه ليست عندنا.

فقلنا لهم: إذا اتحدتم، وحددتم مطالبكم، وطلبتم المساعدة من بعض البلاد العربية والإسلامية، يمكنها أن تقدم إليكم العون، ولو بالتدريج.

كان أهل الخير في قطر يثقون بالشيخ الأنصاري، ويدفعون له مبالغ عند زيارته لبلاد المسلمين، يفوضونه في إنفاقها، وكان الشيخ كلما زرنا مدرسة دفع إليها مبلغًا، وكلما عرفت المدارس الأخرى ذلك، تزاحموا على الشيخ يريدون نصيبهم من هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، وقد ظهر عدد من المدارس لا حصر له، وخصوصًا الصغيرة منها.

وقلت للشيخ رحمه الله: هذا أمر لا نهاية له بهذه الطريقة، لا بد أن نكلف من ثقاتهم المأمونين العارفين بقيمة هذه المدارس ومدى عطائها، ومدى حاجتها، ونعطيهم المبالغ، ونكلفهم صرفها على مستحقيها بما يرون، والعهدة عليهم، وهم أعلم بقومهم منا.

جامعة مندناو:

وكان أبرز مؤسسة في مدينة «مراوي» هي «جامعة مَنْدِناو» التي يفترض أن يكون للمسلمين فيها نصيب الأسد، بوصفها في منطقة إسلامية، ولكن المسلمين -كما ذكرنا- لا يتعلمون في المدارس الحكومية -الابتدائية والإعدادية والثانوية- التي تؤهلهم للقبول في هذه الجامعة؛ لذا لم ينالوا حظهم منها كما ينبغي.

وفي هذه الجامعة: معهد الملك فيصل للدراسات الإسلامية، وقد دعيت لإلقاء محاضرة فيه، قام بعض الإخوة المصريين الذين يعملون هناك بترجمتها، «أظنه الأستاذ حسّوبة»، وكان لها وقع حسن في نفوس الأساتذة والطلاب، وقد كرمتنا الجامعة وأعطتنا شهادات تقدير للشيخ الأنصاري، والأستاذ سيد أبو يوسف، ولي.

أحمد ألونتو:

كما زرنا جمعية «أنصار الإسلام» التي أسسها الزعيم المسلم الفلبيني «أحمد ألونتو» الذي كان عضوًا لمجلس الشيوخ هناك، وكان صديقًا للدكتور إبراهيم كاظم، عميد كلية التربية، والذي حصل فيما بعد على جائزة الملك فيصل في خدمة الإسلام، وقد أنشأ «ألونتو» جامعة سمَّاها: «الجامعة الإسلامية» وقد زرناها مع الشيخ الأنصاري، ودعيت لإلقاء محاضرة فيها على طلابها.

وظللت طوال هذه الأيام في جنوبي الفلبين أتحدث في كل مدرسة نذهب إليها، وكان معنا أكثر من مترجم، يتناوبون واحدًا بعد الآخر، حتى تعب المترجمون، وبحت أصواتهم، وأحمد الله أن بقيت سليمًا لم يصبني شيء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

إلى كوريا الجنوبية:

ومن جنوبي الفلبين، نقلتنا الطائرة العسكرية لتعود إلى مانيلا لنبيت فيها ليلة، اشترينا فيها بعض التحف الخشبية الفلبينية، وبعض اللوحات المزينة بصدف البحر، ثم غادرنا «مانيلا» إلى مدينة «سؤول» عاصمة كوريا الجنوبية، ونزلنا في فندق «هَيَاتْ»، ولما سألناهم عن معنى هذا الاسم، قالوا: لا نعرف له معنى؛ لأنه من غير لغتنا، قلنا لهم: إن أصله عربي، وهو «حياة». ومن الطريف: أن بعض الفنادق في البلاد العربية نقلت هذا الاسم، وتسمت به منطوقًا كما هو بالهاء لا بالحاء، ولما سألناهم، قالوا: هذا اسم لا نعرف أصله، فقد جاءنا من بلاد الشرق الأقصى!!

كان همنا في زيارة كوريا هو: زيارة جامع كوريا ومركزها الإسلامي، الذي ساهمت دولة قطر في إنشائه، وغدا محور النشاط الإسلامي، وكوريا بلد بوذي، لكن دخله الإسلام بعد الحرب العالمية الثانية، حين وقعت الحرب بين الكوريتين، وأرسلت بعض البلاد جنودًا من جيوشها لحماية كوريا الجنوبية من خطر الزحف الشيوعي، الذي تمثله كوريا الشمالية.

وكان من البلاد التي شاركت بجنودها هناك: تركيا، وكان في الجيش التركي: جنود مسلمون ملتزمون بأداء الصلاة في أوقاتها، وكان الكوريون ينظرون إليهم، وهم يؤدون الصلوات كل يوم خمس مرات بانتظام، وكثيرًا ما يصلونها جماعة بأذان وإقامة، ثم يقفون صفًّا متراصًّا خلف إمامهم، وكان هؤلاء الجنود في غاية النظافة والاستقامة في القول والعمل والأدب مع الناس، فسألهم الناس عن هذا العمل الذي يلتزمون به كل يوم، فقالوا: هذه صلاتنا نحن المسلمين فرضها الله علينا خمس مرات في اليوم والليلة، لتكون صلة بين المرء وربه.

وسألوهم عن الإسلام، فشرحوه لهم بإيجاز: إنه إيمان بالله الواحد، وبدار يجزى فيها الناس بعد الموت، ثم عمل الصالحات، وفعل الخيرات، واجتناب الشرور والسيئات، فأعجب كثيرون بهذا الدين، وأعلنوا أنهم مسلمون، وتكاثروا يومًا بعد يوم، حتى أمسوا نحو عشرين ألفًا في ذلك الوقت.

وكان من هؤلاء: المسلم الغيور النشيط «الحاج صبري» الذي سافر إلى البلاد العربية، ليعرّف بمسلمي كوريا، ويلتمس لهم المعونة، وخصوصًا لإقامة مسجدهم ومركزهم الإسلامي، وقد التقينا بعدد من المسلمين الجدد، والقائمين على النشاط هناك، وألقينا بعض الدروس في المسجد، وزرنا قرية لهم أسلم أهلها، وأقاموا مدرسة لتعليم أطفالهم بجوارهم.

وأخذونا إلى المناطق الجبلية والمتميزة التي يرتادها السائحون، لنأخذ حظنا منها، وزرنا جامعة كوريا، وألقيت فيها محاضرة على طلاب قسم اللغة العربية، وقد أُهدي كل عضو في الوفد القطري فصًّا من الحجر الكريم التي تمتاز به كوريا، وهو حجر «التوباس»، كما اشترينا بعض الحرير الطبيعي الذي تشتهر به كوريا.

إلى اليابان:

ومِن سؤول في كوريا، استقللنا الطائرة إلى طوكيو عاصمة اليابان، هذه الدولة التي هُزمت في الحرب العالمية الثانية، وألقت عليها أمريكا قنبلتين ذريتين على مدينتين من مدنها: هيروشيما وناجازاكي، وقتلت عشرات الألوف، وتركت آثارها الضارة على آخرين أضعاف من قتلوا، ولكن اليابان التي هزمت في الحرب: انتصرت بعد ذلك في ميدان آخر هو: ميدان الصناعة والتكنولوجيا، فأضحت منتجاتها تغزو أسواق أمريكا وأوروبا، وأصبحت تملك اقتصادًا قويًّا ينافس -إن لم يفق- أعظم اقتصادات العالم.

لقد بدأت اليابان نهضتها العلمية والصناعية تقريبًا مع مصر، في عهد محمد عليّ، وإن شئت الدقة قلت: إن مصر سبقتها بقليل، فانظر أين مصر اليوم؟ وأين اليابان؟ وهل هناك وجه للشبه أو المقارنة؟ نزلت في فندق غاية في الفخامة، يقدم خدمات متطورة، ولكنه غال جدًّا، والحياة في اليابان تكوي السائحين كيًّا، لشدة غلائها، أحسبها أغلى بلد في العالم؛ لذا لم نبق فيها كثيرًا، وبخاصة أن رحلتنا طالت، فاتصلنا بالمركز الإسلامي، وجاءنا الأخ الكريم والصديق العزيز الدكتور صالح السامرائي، الذي عاش في اليابان مدة طويلة، وحصل على الدكتوراه منها، وهو الآن مدير المركز الإسلامي بها، وحامل هموم نشر الدعوة فيها، وإقامة المؤسسات فيها.

زرنا المركز الإسلامي، ورتب لنا لقاء مع المسلمين في طوكيو، حيث تعشينا معهم، ثم تحدثنا إليهم، ثم وجهوا إلينا أسئلتهم، وأجبناهم عنها، وكان ممن لقيناه: الدكتور عليّ السمني، أستاذ اللغة العربية، وهو من مصر ويقيم في اليابان من فترة طويلة، وزرنا المسجد الذي بناه الأتراك، الذين هاجروا قديمًا من تركيا، وزرنا بعض البلاد الأخرى، التي نسيت اسمها بطول الزمن، وكان فيها الأخ المسلم الياباني: د. خالد كيبا.

ودعانا بعض الإخوة اليابانيين للغداء عنده، فرأينا بيوتهم المتواضعة، والصغيرة والبسيطة، في بنائها وفي أثاثها ومحتوياتها، والتي ينتفعون فيها بكل جزء من المنزل، وكل شبر فيه، وترى الحجرة تستخدم للجلوس، فإذا جاء وقت الطعام تحولت بسهولة إلى حجرة طعام، وبقليل من التحوير تنقلب إلى حجرة نوم، وقد هيأ لنا إخواننا زيارة بعض الأماكن السياحية، فهكذا يحاول إخواننا في كل بلد أن يوفروا لنا حظًّا من ذلك، وإن قل، ترويحًا لنا من عناء السفر، ومتاعب اللقاء والكلام المستمر في كل مكان ننزله، وهو شعور مشكور منهم جزاهم الله خيرًا.

كما هيئوا لنا زيارة لبعض المتاجر الكبرى التي كان فيها تنزيلات، لنشتري بعض ما يلزمنا، وخصوصًا من «اللؤلؤ الياباني» الشهير، فاشترينا نحن الثلاثة: الشيخ الأنصاري، وأبو يوسف، وأنا: ما رأيناه مطلوبًا لنا، ويروق أسرنا، فالمفروض بعد هذه الغيبة أن يعود كل منا إلى أهل بيته بما يسرهم، وهذا من أدب المسلم مع أهله، ومما نصح به الرسول الكريم المسافر.

إلى هونج كونج:

ثم بدأنا طريق العودة، لنزور مدينة «هونج كونج» الشهيرة، وهي آخر محطة لنا في رحلتنا، وقد أخرناها، لنخفف من طول الطريق في العودة، وهونج كونج -كما هو معلوم- مدينة صينية يديرها الإنجليز، وقد جعلوا منها قلعة صناعية وتجارية تنافس أعظم مدن العالم، وعواصمه التجارية.

والإسلام قد دخل الصين من القرن الأول الهجري، فلا غرابة أن يكون في هذه الجزيرة مسلمون، على أن من المسلمين فيها مهاجرين جاءوا من بلاد شتى، وكان فيها -على ما أذكر مسجدان- زرناهما كليهما وتحدثنا فيهما، وهم يحاولون أن يبنوا مسجدًا كبيرًا في منطقة حية في وسط المدينة.

وكان فيها قنصل مصري نشيط، سهل لنا كثيرًا مما نحتاج إليه، وقد دعانا إلى بيته، وأكرم وفادتنا، ولما جاء وقت الصلاة أردنا أن نصلي، فجاء بسجادة وفرشها لنا متجهة إلى القبلة، وبعد أن بدأنا الصلاة، رأتنا زوجته، فقالت: إن القبلة على عكس ما تصلون، وخجل الرجل خجلًا شديدًا، وقال الشيخ الأنصاري: يا سبحان الله! رجل مسلم لا يعرف أين القبلة في بيته؟! معنى هذا: أن الرجل لم يصل يومًا في هذا البيت، وتعرف القبلة امرأته! بارك الله فيها، وهداه الله!

ولا ريب أن هذا من تأثير الاستعمار الثقافي الذي غزا المسلمين في عقر دارهم، فقطع بعضهم عن فرائض دينه الأساسية كالصلوات الخمس، حتى إن هذا الرجل الخير المهذب لا يعرف أين القبلة في بيته؟ وزرنا مدرسة إسلامية لهم، وتعرفنا بأحد الإخوة المسلمين، وهو الأخ: يوسف يو، الذي لقيناه بعد ذلك في مناسبات ومؤتمرات شتى في أنحا العالم. حفظه الله وسدد خطاه.

العودة إلى الدوحة لبداية عام دراسي جديد:

ثم ودعنا «هونج كونج» لنركب الطائرة، في طريق العودة إلى الدوحة عن طريق كراتشي، ودعونا بأدعية السفر، وزدنا فيها ما يتعلق بالإياب: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون. ووصلنا الدوحة في أمان الله، لنبدأ عامًا دراسيًّا جديدًا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.