عدتُ إلى الدوحة من رحلتي الطويلة إلى الشرق الأقصى، وعادتْ زوجتي وأولادي أيضًا إلى الدوحة بعد أن قضوا الإجازة الصيفية في مصر، واستمتعوا برؤية الأهل والأقارب والأحباب، وودعوا «أم الدنيا» كما يسمونها!

عدنا جميعًا إلى قطر، وقد بتنا نحِن إلى قطر، ونشتاق إليها، فقد أصبحت لنا وطنًا ثانيًا، وكيف لا، وقد ولد فيها خمسة من أولادي؟ واثنتان من بناتي، قدمتا إلى قطر، وإحداهما لم تكمل السنة، والأخرى لم تكمل السنتين.

والإنسان بطبيعته المدنية والاجتماعية يألف المكان وأهله، كما يألفه المكان وأهله، والمرء المؤمن تقوم بينه وبين البيئة من حوله ألفة وصلة ودودة، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم في أُحد: «هذا أُحد جبل يحبنا ونحبه!»، فانظر كيف عبر عن الجبل أنه يحبهم، كأن له قلبًا تصدر عنه مشاعر الود، وعواطف الحب كالإنسان!

توديع المعهد والتفرغ لكليتي التربية

ظللت في السنة الدراسية (1973 - 1974م) محتفظًا بوظيفتي في إدارة المعهد الديني، جامعًا بينها وبين عملي في كلية التربية، مع ما يكلفني هذا من جُهد وجَهد، فقد كان المعهد جزءًا مني، وأنا جزء منه، وكان عزيزًا عليَّ أن أودعه وأتركه بعد اثني عشر عامًا قضيتها في إرساء دعائمه، وإعلاء بنيانه، وكان إخواني في المعهد يرغبون أن أبقى معهم لمصلحة المعهد وطلابه، والاحتفاظ بما كسب من سمعة طيبة.

والحمد لله، وفقني الله أن أؤدي لكل عمل منهما حقه، ولكن كان هذا على حساب صحتي من ناحية، وأمور أخرى مثل: الكتابة والبحث؛ ولذا استخرت الله تعالى، وتوكلت عليه، وقررت في هذه السنة (1974 - 1975م) أن أدع المعهد لأحد إخواني يقوم على إدارته، ورشحت لذلك الأخ الكريم العالِم الداعية الشيخ علي محمد جماز، المدرس بالمعهد رحمه الله، ووافقتِ الإدارة على ذلك، وقام بواجبه خير قيام، ولا سيما أن هناك من الزملاء الأفاضل من يعاونه، مثل: الشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ مصباح محمد عبده، والأستاذ رشدي المصري، وآخرين. ولم يمنعني هذا أن أزور المعهد بين حين وآخر، للاطمئنان على سير العمل فيه، أو إلقاء محاضرة، أو المشاركة في مناسبة معينة أو نحو ذلك.

عدت إلى كلية التربية -أو كليتي التربية- وقد زادت سنة، فأصبح الطلاب والطالبات الذين نجحوا فيها في السنة الثانية، وإن كان نظام الكلية لا يحسب بالسنوات، ولكنه يحسب بالساعات المكتسبة.

وكان على الطالب أن يكتسب (144) ساعة في مدة دراسته، وهي في الغالب موزعة على ثمانية فصول دراسية، كل فصل (18) ساعة، ومن شعر بصعوبة هذا المقدار من الساعات عليه، يمكنه أن يأخذ أقل، ويقضي بالجامعة مدة أطول، ومن أراد أن يأخذ أكثر فلا يسمح له، إلا إذا عرف أستاذه أو مرشده الأكاديمي، أن لديه استعداد لذلك، وأن درجاته في الفصول السابقة تشهد له بذلك.

زاد عدد الطلاب والطالبات، كما زاد عدد أعضاء هيئة التدريس، وفي قسم الدراسات الإسلامية ضم إلينا الأخ الصديق، والزميل الكريم الدكتور محمد عبد الستار نصار، المعار من كلية أصول الدين بالأزهر الشريف، والمتخصص في العقيدة والفلسفة، فأصبحنا ثلاثة في قسم الدراسات الإسلامية بدل اثنين.

الخطابة في مسجد أبي بكر الصديق

كنت في السنوات الماضية، أخطب الجمعة في بعض المساجد، بصفة غير منتظمة، خطبت فترة في مسجد الشيخ خليفة، وفترة أخرى في مسجد بنّة الدرويش «شقيقة الشيخ قاسم درويش فخرو»، وفي مساجد متفرقة خطبًا متنوعة، ثم شرعت رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية المسئولة عن المساجد، في إنشاء جوامع كبيرة تتسع لعدد كبير من المصلين في صلاة الجمعة، وكان مسجد أبي بكر الصديق هو أول هذه المساجد، وقد طلب مني أن أتطوع بخطبة الجمعة فيه، ورضيت بذلك، والتزمت بخطبة الجمعة فيه، ما دمت في الدوحة، إلا مريضًا أو على سفر.

وأنا أؤيد سياسة الجوامع الكبيرة التي تجمع ألوف المصلين فيها كل جمعة؛ فهذا يتفق مع ما كان عليه سلف الأمة، فالأصل أن يبنى المسجد ليسع أهل البلد جميعًا، كما رأينا المسجد النبوي في المدينة قد بني ليسع أهلها في الجمعة، فلما كثر الناس في عهد الصحابة وسعوا المسجد.

ولما فتح عمرو بن العاص مصر؛ بنى مسجده في الفسطاط ليسع أهل الفسطاط.

وحين بنى أحمد بن طولون مدينة القطائع؛ بنى مسجده الكبير ليسع أهلها.

وحين بنى جوهر الصقلي مدينة القاهرة؛ بنى فيها الجامع الأزهر ليسع أهلها.

وكانت هذه المدن كلها مستقلة بعضها عن بعض: الفسطاط «مصر القديمة»، و«القطائع»، و«القاهرة»، ثم امتد العمران واتسع، ودخل بعضها في بعض، ودخل غيرها، حتى أصبحت القاهرة الكبرى اليوم تشمل مناطق كثيرة كل منها كان يعد مدينة أو قرية منفصلة.

والناس في عصرنا أحوج ما يكونون إلى المساجد الجامعة الواسعة؛ نظرًا للكثافة العالية للسكان، وامتداد المباني إلى أعلى، حتى إن بعض العمارات والأبراج العالية، فيها من السكان ما يقارب سكان قرية قديمة من القرى الكبرى أو يزيد.

المهم، أني ظللت أخطب في جامع أبي بكر الصديق، حتى أنشئ مسجد عمر بن الخطاب، وكان أرحب منه وأوسع، وفي منطقة أكثر حيوية، فطلب مني أن أقوم بالخطبة فيه احتسابًا، فلم أملك إلا الترحيب بذلك، وظللت حتى اليوم أخطب في هذا المسجد احتسابًا، وإن كانت كثرة الأسفار والمشاغل، تحرمني من المواظبة على الخطبة فيه.

واعتاد تليفزيون قطر أن يذيع هذه الخطبة على الهواء، وأصبح الناس يترقبونها في بقاع شتى، وخصوصًا بعد أن تحول تليفزيون قطر إلى قناة فضائية تشاهد في أنحاء كثيرة من العالم، وهذا من فضل الله علينا أن غدت الكلمة الإسلامية الموجهة تسمعها آذان العالم في التو والحال.

السنة الدراسية (1975 - 1976م)

إلهام وسهام تختاران شعبة «العلمي»:

بدأت السنة الدراسية (1975 - 1976م)، وفيها: انتقلت كل من إلهام وسهام ابنتَيَّ، إلى الصف الثاني من المرحلة الثانوية، وهو الصف الذي ينقسم فيه الطلبة والطالبات إلى شعبتين: علمي وأدبي، وكلتاهما قد اختارتا شعبة العلمي، وأنا لا أحب أن أضغط على أبنائي ولا بناتي في اختيار توجههم التعليمي، ولا أفرض عليهم ما أحب، كما نجد كثيرًا من الآباء -مثل الأطباء- يفرضون على أولادهم أن يرثوا مهنتهم، وربما لم يكن لهم أي ميل لهذه المهنة. فلسفتي: أن يختار كل امرئ لنفسه بعد أن نشرح له مزايا كل توجه، وعيوبه إن كان فيه عيوب.

وقد عرضت على ابنتيّ -مجرد عرض- أن ينوعا في اختيارهما، فتختار واحدة العلمي، والأخرى الأدبي، فقالتا في نفس واحد: يا أبت، إن الأدبي لا يدخله غير البنات الكسلانات! فقلت: وفقكما الله فيما اخترتماه، وجعله خيرًا لكما في دينكما ودنياكما.

درجة أستاذ:

بعد سنتين في الكلية أحسست بفارق الدرجات في الكادر الجامعي، فدرجة المدرس غير درجة الأستاذ المساعد، وهي غير درجة الأستاذ، وقد كنت عينت بدرجة أستاذ مساعد، ولم أبال بذلك يومها، ثم تبين الفرق بينها وبين درجة الأستاذ، لا في الناحية المادية فحسب، ولكن في القيمة الأدبية.

وكلمتُ الدكتور كاظمًا في ذلك، وأن الجامعات السعودية تعطي الدرجات بالأهلية والشهرة العلمية، وليس بالشهادات ولا بالأقدمية، فالشيخ الشعراوي، والشيخ الغزالي، والشيخ سيد سابق، والشيخ سيد صقر، والشيخ عليّ الطنطاوي، والأستاذ محمد المبارك، والأستاذ محمد قطب، وغيرهم لا يحملون شهادة دكتوراه، ولكنهم جميعًا يعينون في درجة أستاذ، لما تميز به عطاؤهم العلمي. وإني لأرجو أن أعامل كهؤلاء! وإذا كانوا محتاجين إلى أبحاث للترقية، فعندي أبحاث جاهزة، وأكثر من المطلوب.

وتجاوب معي الدكتور كاظم، وقال: نزور معًا: الشيخ قاسم بن حمد وزير التربية، والرئيس الأعلى للجامعة في ذلك الوقت ونكلمه في هذا الأمر، فكانت استجابة الرجل أسرع مما توقعنا، وقال له: يا دكتور كاظم، الشيخ يوسف عندنا شيخ الأساتذة! وما هي إلا أيام حتى صدر القرار بتعييني في درجة أستاذ.

د. عبد العظيم الديب في قطر:

وفي هذه السنة (1975 - 1976م) أضيف إلى قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية: الأخ الحبيب، والصديق الوفي، والزميل القديم في معهد طنطا: الدكتور عبد العظيم الديب، الذي حصل على الدكتوراه حديثًا من «كلية دار العلوم» عن «فقه إمام الحرمين»، والذي حقق كتابه الشهير: «البرهان» في أصول الفقه، وعكف على تراث الإمام، لخدمته وتحقيقه وإعداده للنشر.

وقد أشرت في الجزء الأول إلى الصلة الوثيقة، التي كانت تربطني بعبد العظيم منذ كان طالبًا في المرحلة الابتدائية بمعهد طنطا، وقد فرقت الأيام بيننا حتى التقينا مرة أخرى عند نزولي في سنة (1973م)، ومناقشتي لرسالة الدكتوراه، وجددنا الذكريات، وأنشدنا قول الشاعر:   وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما  **  يظنان كل الظن أن لا تلاقيا!

وقد اتفقنا بمجرد الفراغ من رسالته، وإنهاء إجراءاته: أن يقدم أوراقه في أسرع وقت إلى قطر؛ وهذا ما كان.

ومن الطريف: أننا حينما كنا في معهد طنطا كنا نناديه بـ «عبد العزيز الديب»، ثم فوجئنا بأنه الآن «عبد العظيم الديب»، فعرفت أن الاسم الأول هو الاسم الذي سمته به والدته، وهو كان ينادى به في قريته وبين أصدقائه وإخوانه، والاسم الآخر هو المكتوب في شهادة الميلاد والأوراق الرسمية.

ومنذ جاء عبد العظيم إلى قطر، حمل العبء معي، وكان الساعد الأيمن لي، وقد هضم نظام الساعات المكتسبة، وأصول الإرشاد الأكاديمي، وساهم في تيسير ذلك للطلاب مساهمة فعالة.

كما أنه رجل مخلص في تدريسه، يتعب على دروسه، ويعد محاضراته، ويقترب من تلاميذه، ويبتكر في طرائقه، حتى إنه كان يدرس كتاب: «الحلال والحرام في الإسلام» فاخترع له أسئلة على الطريقة الأمريكية، بملء الفراغات، أو الإجابة بعلامة صح أو غلط، أو بكلمة: نعم أو لا.. إلى غير ذلك؛ ولهذا كان قريبًا من الطلبة والطالبات، محببًا إليهم، محوطًا بعواطفهم، حتى بعد أن يتخرجوا، يظلون على صلة به، وقرب منه، وسؤال دائم عنه. وهذا ما لم أجده إلا عند القليلين من الأساتذة.

فمن الأساتذة من يحبه الطالب، ولا يحترمه؛ لأنه طيب القلب، دمث الأخلاق، جياش العاطفة، فمثله، يحب، ولكن ليس عنده من العلم والموهبة والشخصية ما يجعل الطالب يحترمه، ومن الأساتذة: من يحترمه الطالب لقوة شخصيته، وسعة علمه، وضبطه لقواعد الدرس، ولكنه لا يحبه؛ لفظاظته أو كبريائه، أو جلافة طبعه، أو نحو ذلك، مما لا يجذب القلوب إليه.

ومنهم: من لا يحترمه الطالب ولا يحبه، فليس عنده من العلم والشخصية ما يحترمه الطالب ويقدره لأجله، ولا عنده من العاطفة، وحسن المعاملة، وانبساط الشخصية: ما يحببه إلى الطالب.

ومنهم: من يجمع له الطلاب بين التقدير والحب معًا؛ لما وهبه الله من علم، وما منحه من مواهب، وما يبذل من جهود؛ تفرض على كل من اتصل به أن يقدره ويحترمه، ويعطيه حقه من الإكبار والتقدير، كما أن لديه من الفضائل النفسية، والمكارم الأخلاقية، والسلاسة والعذوبة في الشخصية، ما يجعله يألف ويؤلف، ويُحِب ويُحَب.

وأحسب أن عبد العظيم كان -إلى حد كبير- مع طلابه من هذا الصنف. ليست هذه شهادة صديق لصديق، وإنما هي شهادة رئيس أو عميد لأستاذ، على أن شهادة الصديق لصديقه ليست دائمًا موضع تهمة، فالله تعالى يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: 152).

ومن الأصدقاء من يجور على صديقه، أو لا يعطيه حقه من الثناء إذا كان أهلًا لذلك، حتى لا يتهم بالتحيز، وهو بهذا قد ظلم صديقه، وظلم الحق معًا. كما قيل: إن بعض القضاة حكموا على بعض الأمراء ظلمًا ليشتهروا بالعدل!

وقد شاهدت بنفسي بعض الأساتذة -وأنا عميد لكلية الشريعة- ظلم ابني، ولم يعطه الدرجة التي يستحقها، حتى لا يقال: إنه جامل ابن العميد!! هكذا اعترف لي بلسانه.

اشتغل عبد العظيم بالتحقيق أكثر مما اشتغل بالتأليف، مع أنه قادر على التأليف بمنهجية وجدارة، ولقلمه نفحة أدبية ظاهرة، وله اهتمام بالثقافة العامة، وبالتاريخ الإسلامي خاصة، وله فيه دراسات وكتابات جيدة، نشرت له «الأمة» في سلسلة كتبها الدورية: كتابًا منها: «المنهج في كتابة التاريخ الإسلامي عند المستشرقين»، حتى إنه كتب قبل ذلك كتابًا عن: «أبي القاسم الزهراوي» الطبيب الجراح المسلم المعروف. وقلما يعنى المشايخ بمثل هذه الأشياء!

ولكن الذي استغرق وقته هو تحقيق تراث إمام الحرمين الفقهي، الذي أمسى من المختصين به، أو قل: من العاشقين له، فحقق ونشر من تراثه: «البرهان» في أصول الفقه، و«الغياثي» في السياسة الشرعية، و«الدرة المضية» في الخلاف بين الحنفية والشافعية.

وأخيرًا أنجز عمله الكبير، في تحقيق: «نهاية المطلب ودراية المذهب»، وهو أعظم أعمال إمام الحرمين، وأحد أمهات كتب الشافعية، وقد عكف عليه أكثر من عشرين سنة، وعانى فيه معاناة لمستها بنفسي، وبخاصة أن بعض أجزائه كان من نسخة واحدة، وهو الآن في سبيل نشره، يسّر الله له الأمر. وقد سعدت بكتابة مقدمة له.