كان من أهم ما حدث في تلك السنة (أواخر شهر أكتوبر سنة 1975م): المشاركة في «مهرجان ندوة العلماء» بلكهنو بالهند، الذي دعا إليه الداعية الإسلامي الكبير حبيبنا العلّامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي، رئيس ندوة العلماء؛ وذلك بمناسبة مرور خمسة وثمانين عامًا على تأسيس ندوة العلماء، التي قامت بدور مذكور مشكور، معروف غير منكور، في إقامة تعليم إسلامي، يأخذ من التراث ما صفا، ويدع ما كدر، يجمع بين العلم الواسع والإيمان الراسخ، يوفق بين صحيح المنقول وصريح المعقول، يرحب بكل جديد نافع، ويحرص على كل قديم صالح، يؤمن بثبات الأهداف ومرونة الوسائل، هو في الأولى في صلابة الحديد، وفي الثانية في ليونة الحرير.

قام على هذه الندوة منذ تأسيسها رجال كبار، جمعوا بين النقل الصحيح، والعقل الصريح، واغترفوا من التراث، ولم يغفلوا عن العصر: جمعوا بين عقلانية الفيلسوف، وروحانية المتصوف، وانضباط الفقيه، ولم يكتفوا بالرواية عن الدراية، ولا بالدراية عن الرواية..

مِن هؤلاء الرجال الأفذاذ: العلّامة شبلي النعماني، مؤسس «دار المصنفين» في أعظم كره، ومؤلف: «السيرة النبوية» الشهيرة، التي كتبها بالأردو، والعلامة سليمان الندوي، مكمل سيرة النعماني، وصاحب المؤلفات القيمة، والتي نقل إلى العربية منها محاضراته في «مِدْراس» عن «السيرة النبوية» وخصائصها، والعلّامة الشيخ عبد الحي الحسني -والد الشيخ أبي الحسن- مصنف كتاب: «نزهة الخواطر» في أعلام الهند.. وغيرهم من الرجال الربانيين الذين عَلِموا وعملوا وعلَّموا.

فكانت ندوة العلماء ومؤسساتها التعليمية مثل: «دار العلوم»، وكلياتها المختلفة في علوم الشريعة وعلوم اللغة العربية، ومعهد الفكر الإسلامي، وغيرها: نموذجًا يحتذى في الجمع بين الأصالة والمعاصرة.

أراد العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي أن يجمع كبار علماء الأمة ودعاتها بهذه المناسبة؛ ليروا هذه المؤسسة الفريدة بأعينهم، ويلمسوا آثارها بأيديهم، ويتحسسوا حاجاتها بأنفسهم، ويساهموا في إقامة مشروعاتها المستقبلية، وهم على بينة من أمرها.

ولهذا لم يسعنا حين وصلتنا دعوة الشيخ إلا أن نلبي النداء، ونهرع إلى هناك، وكنا وفدًا من قطر مكونًا من: فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، وفضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار، والفقير إليه تعالى، وقد دعي عدد من علماء الإمارات على رأسهم: فضيلة الشيخ أحمد عبد العزيز المبارك، رئيس القضاء الشرعي، وعدد من علماء المملكة العربية السعودية ورجالها، ومن الكويت، والبحرين، ومصر، وسوريا، والأردن، وغيرها. وكان على رأس الوفد المصري الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، وفضيلة الشيخ الدكتور محمد حسين الذهبي، وزير الأوقاف.

وصلت الوفود إلى دلهي، فاستقبلنا إخوة من الندوة في مطار دلهي، ومن دلهي ركبنا الطائرة إلى لكهنو، حيث وجدنا استقبالًا حافلًا في المطار، وقد ألبسونا عقودًا من الأزهار والورد، على عادة أهل تلك البلاد.

ثم رأينا الاستعدادات الضخمة في مقر ندوة العلماء لاستقبال الضيوف، ونزلنا في فندق من فنادق الدرجة الأولى في المدينة، وكان مسلمو المدينة «لكهنو» ومسلمو الهند عامة في خدمتنا، فما من مدينة في الهند إلا أرسلت ممثلين لها، وكأنا كنا ضيوفًا على مسلمي الهند جميعًا، فبالغوا في إكرامنا، حتى قال أخونا وصديقنا الدكتور محمد المهدي البدري -الذي جاء من عجمان من دولة الإمارات- مازحًا: لم يبق على الشيخ الندوي إلا أن يزوج كل ضيف هندية مسلمة!

وفي مقر الندوة أقيم سرادق ضخم يسع ألوفًا مؤلفة؛ لأن الندوة أقامت مؤسساتها في أطراف المدينة، وأخذت منطقة واسعة، فأمكنها أن تقيم حفلها الكبير بها.

كان الحفل يضم المسلمين وغير المسلمين، فقد بهر الهندوس هذا الاستعداد الكبير، وعلموا أن شيوخًا كبارًا من العالم العربي والعالم الإسلامي سيحضرون، فرغبوا في المشاركة، وحضر ألوف منهم في المهرجان. كما أن كثيرًا منهم حضروا إكرامًا للشيخ الندوي، لما له من مكانة كبيرة في الهند كلها.

وسمح الشيخ الندوي لأول مرة للمصورين أن يحضروا، ويلتقطوا الصور للحفل وللضيوف، وللمتكلمين، وقال الشيخ: إن علماء الهند لا يجيزون التصوير، ولكن لأجل خاطر إخواننا من علماء العرب سمحنا بالتصوير، نزولًا على رأيهم في إباحته.

وكان المتبع في مثل هذه الأحوال: أن يكون الشيخ أبو الحسن الندوي هو رئيس هذا المهرجان أو المؤتمر، ولكنه أبى إلا أن يكون الرئيس هو شيخ الأزهر الشيخ عبد الحليم محمود.


ندوة العلماء في الهند

وتحدث عدد من المدعوين، يقدمهم عريف الحفل، ولكن اثنين منهم حرص الشيخ الندوي على أن يقدمهم للجمهور بنفسه، أحدهما: العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، الذي يعرفه علماء الهند بآثاره العلمية، والذي له عناية خاصة بعلماء الهند وآثارهم العلمية، ولا سيما عالم لكهنو المحدّث الشهير الشيخ عبد الحي اللكنوي، الذي نشر الشيخ آثاره مثل: «الرفع والتكميل في الجرح والتعديل»، وغيرها، وعلق عليها تعليقات ضافية. والثاني، هو: يوسف القرضاوي، الذي ألبسه الشيخ ثوبًا فضفاضًا، وأضفى عليه من الصفات والمحاسن ما يليق بالمقدِّم لا الْمُقدَّم.

ارتجلت في الحفل الكبير الذي لا تكاد ترى آخره؛ كلمة قوية مركزة، أثرت في الحضور، حتى الذين لا يعرفون العربية تأثروا بها، ربما لأنها خرجت من أعماق القلب، فأثرت في القلوب، حتى قال لي الشيخ أبو الحسن: لعلك تعجب إذا علمت أن المسلمين الذين لا يعرفون العربية تأثروا بكلامك لما فيه من حرارة وحيوية، وإن لم يعرفوا معناه.

وأعجب من ذلك أن الهندوس الذين حضروا الحفل تأثروا بكلامك وإن لم يفهموه!! قلت له: إنها نفحات ندوة العلماء وشيوخها هبت علينا، فما كان في كلامنا من خير، فهو منكم وإليكم. وقد قسم أعضاء المؤتمر إلى لجان، شاركت في إحداها، أظنها: لجنة التربية والتعليم، كما شاركت في لجنة الصياغة العامة لتوصيات المؤتمر.

كانت أيامنا في «كهنو» أيامًا طيبة، حافلة بالخير، فياضة بالحب، سعدنا فيها بإخوتنا وأحبابنا في الندوة، الذين عرفناهم من قبل، والذين لم نعرفهم: الشيخ محمد الرابع، والشيخ واضح رشيد، والشيخ سعيد الأعظمي، وغيرهم من العلماء والدعاة من أرباب القلم واللسان.

وكانت دولة الهند -إكرامًا للشيخ أبي الحسن، واعترافًا بمنزلته في العالَم الإسلامي- قد استضافت عددًا من الضيوف، وهيأت لهم زيارة بعض المناطق السياحية، في دلهي، وفي تاج محل، وغيرها.

وكان الشيخ عبد الحليم محمود، والشيخ الذهبي، والشيخ الأنصاري، والشيخ عبد المعز، وأنا، ممن نزلوا ضيوفًا على الدولة، وذهبنا للسلام على رئيس الجمهورية، وكان مسلمًا، وهو الدكتور ذاكر حسين، والمعروف أن رئيس الجمهورية في الهند ليس له سلطات تذكر، وإنما السلطة في قبضة رئيس الوزراء، على غرار النظام الإنجليزي، فرئيس الجمهورية يملك ولا يحكم.

وقد دعانا رئيس الجمهورية على الغداء، ثم رافقنا عدد من رجال الحكومة لزيارة بعض الأماكن المهمة التي يحرص السياح عادة على زيارتها، فزرنا القلعة الحمراء في دلهي، ومنارة قطب الدين، وغيرها.

وكان أهم معلم سياحي زرناه هو «تاج محل»، الذي هُيئت لنا زيارته بسيارات خاصة، وحجز لنا في أحد الفنادق هناك، وهو فعلًا تحفة هندسية معمارية فنية لا نظير لها، وهو يعد من عجائب الدنيا السبع، وقد أعده الملك «شاهجهان» -أحد ملوك المغول- ليكون قبرًا لزوجته التي يحبها.

ولا ريب أن هذا من السرف والبذخ والترف المحرم في الإسلام: أن تنفق ألوف الألوف من أموال الدولة على مقبرة لميت، مهما تكن منزلته، وقد أنكر هذا كثير من الدعاة والمفكرين الإسلاميين، ولعل أشدهم في ذلك كان الأستاذ أبا الأعلى المودودي.

ولكن ربما لو نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى: أن الرجل أراد أن يبين مبلغ الرقي العمراني والحضاري للمسلمين في دولته، وتمكنها من العلم والهندسة والفنون، وأن يكون البناء معْلَمًا دالًّا على عظمة الحضارة الإسلامية في الهند..

لو نظرنا للأمر بهذه العين: ربما وجدنا له عذرًا. كما بنى المصريون الفراعنة «الأهرام» مقابر لملوكهم، ولكنها بقيت آثارًا دالة على شموخ المدنية المصرية القديمة، وارتقائها في فن المعمار، إلى مدى لم يعرف سره البشر إلى اليوم.

 ومن المهم، أن نعلم أن كل المعالم السياحية التي تباهي بها الهند وتفخر: هي معالم إسلامية، فلم نكد نجد شيئًا له قيمة يمكن أن يزار غير ما خلفه المسلمون.


تاج محل

كانت هذه أول مرة أزور فيها الهند، وهي زيارة لا شك نافعة، تعلمت منها الكثير، ورأيت فيها الكثير، وفي ختامها دعانا سفير قطر في الهند -ولا أذكر: أكان الأستاذ شريدة الكعبي أم الدكتور حسن نعمة- على الغداء في بيته، وشكرنا له حسن ضيافته، وطلبت منه أن يحجز لي للعودة إلى قطر، فأنا مرتبط بعملي الجامعي، ولا أستطيع أن أتغيب عنه كثيرًا.

وحجزت السفارة العودة لي عن طريق «بومباي» التي بت فيها ليلة في ضيافة القنصلية القطرية هناك، ورأيت في بومباي ما رأيته في دلهي: مناطق تراها غاية في النظافة والرقي والتحضر، وأخرى غاية في الفقر والقذارة حتى ليكاد الناس لا يجدون ما يسترهم. وقيل لي في بومباي: إن هنا أناسًا يولدون ويعيشون ويموتون في الشارع لا بيوت لهم!! إنها الطبقية الصارخة، التي تجعل بعض البشر كالآلهة، وبعضهم أدنى مرتبة من الحيوان!!