كانت المملكة العربية السعودية في العقد الأخير «عقد التسعينات» من عقود القرن الرابع عشر الهجري «عقد السبعينات من القرن العشرين» في حالة من اليقظة والحركة، فقد وصلت إليها الصحوة الإسلامية التي بدأت في مصر، بعد هزيمة حزيران (1967م)، وطفق كثير من شبابها الذين حصلوا على الدكتوراه من خارج البلاد يعودون إليها، ويقودون زمام التعليم والتربية والثقافة في كثير من المؤسسات، كما ضمت المملكة في رحابها كثيرًا من دعاة الحركة الإسلامية ليعملوا في مدارسها ومعاهدها وجامعاتها. وكان من ثمرة ذلك كله صحوة عامة ظهرت بشائرها في صور مختلفة، ومسارات عدة.

تأثير شخصية الملك فيصل وسياسته:

وكان وجود الملك فيصل بن عبد العزيز، دافعًا للعمل الإسلامي الرسمي والشعبي إلى الأمام، بفضل توجهه الإسلامي الواضح، وغيرته على الدعوة الإسلامية، وحماسته للقضايا الإسلامية، وتعاطفه مع الدعاة المسلمين، وتقريبه للعلماء والصلحاء من الناس، وتبنيه للقضية الفلسطينية، ومواقفه المشرفة في أمور كثيرة تتعلق بالأمة الإسلامية.

كل هذا جعل الناس تلتف حوله، وجعل من المملكة مهوى أفئدة الغيورين على الإسلام وأمته وحضارته؛ فلا غرو أن تتبنى المملكة كل ما من شأنه أن يعلي كلمة الإسلام من مؤتمرات وندوات؛ ولهذا عقدت في المملكة عدة مؤتمرات إسلامية عالمية في فترة وجيزة، حضرها المئات من العلماء والخبراء المختصين والمهتمين في العالم الإسلامي، وخارج العالم الإسلامي..

من ذلك: المؤتمر العالمي الأول للتعليم الذي أقيم في جدة، والمؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي أقيم في مكة، وكان مقررًا أن يعقد في حياة الملك فيصل، ثم حدث اغتيال الملك رحمه الله - الذي فُجعت به أمة الإسلام في المشارق والمغارب - فأجل حتى عقد في عهد الملك خالد في صفر (1396هـ)، فبراير (1976م).

ثم دعي إلى مؤتمر إسلامي عالمي آخر، يعقد تحت رعاية الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي كان يرأسها حينذاك سماحة العلَّامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ونائبه الشيخ عبد المحسن العباد، وكان موضوع هذا المؤتمر هو: توجيه الدعوة وإعداد الدعاة، وكان موعده في صفر (1397هـ)، شباط أو فبراير (1977م).

دعي إلى هذا المؤتمر نحو ثلاثمائة عالِم مسلم، اجتمعوا في رحاب المدينة المنورة، بجوار مسجد رسول الله وقبره الشريف صلى الله عليه وسلم، وبإشراف الجامعة الإسلامية التي تضم عدة آلاف من الطلاب المسلمين من نحو ثمانين جنسية.

وكان البحث الذي طلب مني: ما يتعلق بالإعداد العلمي أو المعرفي للداعية. وقد وفقني الله تعالى، فكتبت بحثًا جعلت عنوان: «ثقافة الداعية»، وبينت فيه أنواع الثقافات التي يجب أن يتسلح بها الداعية، لخوض معركة الدعوة، وهو قوي محصّن، واقف على أرض صُلبة.

هذه الثقافات هي:

1 - الثقافة الدينية بأنواعها وألوانها: «القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله وقواعده، والعقيدة ومقارنة الأديان».

2 - الثقافة اللغوية والأدبية، وهو ما يسميه الأقدمون: «العلوم الآلية».

3 - الثقافة التاريخية، ولا سيما التاريخ الإسلامي الذي يبدأ بالسيرة النبوية.

4 - الثقافة الإنسانية، أعني: التزود بقدر مناسب من العلوم الإنسانية والاجتماعية.

5 - الثقافة العلمية، بدراسة ما لا بد منه من العلوم الطبيعية والرياضية.

6 - الثقافة الواقعية، وهي دراسة الواقع بما هو عليه بلا تهوين ولا تهويل؛ واقعنا وواقع أعدائنا.

والحمد لله أن البحث كان موضع الرضا والثناء من المشاركين في المؤتمر. ثم صدر في كتاب، انتشر واشتهر، حتى أمسى من المتطلبات الأساسية لتكوين الداعية، وأصبح موضع الاهتمام من الأكاديميين والحركيين على سواء. وفي الجلسة الافتتاحية للمؤتمر: رشح المؤتمرون سماحة الشيخ ابن باز لرئاسة المؤتمر، كما هي العادة، في ترشح رئيس كل جامعة لرئاسة المؤتمر، ولكن الشيخ ابن باز تنازل عن الرئاسة للشيخ عبد المحسن العباد نائب رئيس الجامعة.

ثم جاء دور ترشيح مقرر عام للمؤتمر، فوقف شيخنا الجليل العلامة سماحة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي جمهورية مصر الأسبق ليقول: أنا أرشح الداعية الإسلامية الكبير الشيخ يوسف القرضاوي، ليكون مقررًا للمؤتمر... وكان بجواري الأستاذ محمد المبارك المفكر الإسلامي السوري المعروف، فقلت له: أنا سأرشح الشيخ الغزالي، وأرجو أن تثنِّي عليَّ لأسباب أنت تعرفها... فوافقني على ذلك. فقلت: أنا أعتز بثقة أستاذنا الكبير الشيخ حسنين مخلوف، وأعُدّ ترشيحه لي شهادة لي أفخر بها، ولكني متنازل لشيخنا الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي؛ لأسباب لا تخفى عليكم، فقال الأستاذ المبارك: وأنا أثني على هذا الترشيح. وهنا قال بعض الإخوة: هذا يوم الإيثار: الشيخ ابن باز آثر الشيخ العباد، والشيخ القرضاوي آثر الشيخ الغزالي!

وكان السبب المباشر لترشيحي للشيخ الغزالي أن الرئيس السادات هاجمه جهرة في حديث مذاع على الهواء، حين سأله الطالب عبد المنعم أبو الفتوح، رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة «الأمين العام لاتحاد الأطباء العرب اليوم»: لماذا يفسح المجال للمداحين والمنافقين، وتغلق الأبواب في وجوه العلماء والدعاة الصادقين والمعتدلين من الأمة، والواعين لمشكلاتها وعلاجها؟! ... وضرب مثلًا بالشيخ الغزالي، الذي اضطر إلى أن يغادر البلاد، لما ضيق عليه... إلخ. فما كان من السادات إلا أن رد بغضب وحنق، وكأن هذا السؤال لمس عنده وترًا حساسًا، هاج هائجه، وأثار ثائرته، ففتح النار على الشيخ الغزالي، وقال فيما قال: هذا داعية فتنة، ومثير للنعرة الطائفية البغيضة.

وهذه تهمة باطلة بالنسبة للشيخ الغزالي، فما كان الشيخ في يوم من الأيام، داعية لطائفية ولا مثيرًا لفتنة بين أبناء البلد الواحد. بل كان من دعاة التسامح أبدًا، على نهج شيخه حسن البنا. ولكن إذا هاجم الإسلام مهاجم ما من المسلمين أو النصارى: رد عليه بالمنطق العلمي الرصين، وألزمه الجادة، وهذا لا حرج فيه، ولا يعيبه أحد، إذ لا مجاملة في الحق، ولا مداهنة في الدين، والحق أحق أن يتبع. فهذا ما دفعني إلى أن أقدم الشيخ الغزالي، ليكون ردًّا على من هاجمه، باختيار علماء الأمة له مقررًا عامًّا للمؤتمر، وكان في الواقع نعم المقرر. فقد أعطي القوس باريها.

ومما أذكره هنا: أن تليفزيون المملكة بالمدينة أرسل جماعة من المصورين والمذيعين، ليلتقطوا صورًا للمؤتمر، ويُجْروا بعض المقابلات مع عدد من العلماء، ليبثوها في نشرة الأخبار، أو في برنامج خاص عن المؤتمر، فرفض الشيخ عبد المحسن العباد رئيس المؤتمر أن يسمح لرجال التليفزيون بالدخول إلى القاعة وتصوير المؤتمر، ووقف هو بعض الأساتذة من الجامعة معه سدًّا منيعًا، ليصدوا هؤلاء عن الدخول. وقالوا لهم: لا يمكن أن تدخلوا أبدًا إلى القاعة ونحن هنا!!

وحجة الشيخ عبد المحسن ومن معه: أن التليفزيون قائم على «التصوير» والتصوير محرم في الإسلام! وأشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون. وقد ثبت في تحريم التصوير أحاديث صحاح مستفيضة لا يشك من له صلة بعلم الحديث في ثبوتها وصحتها. وهذا مسلّم به، ولا نشكك فيه، ولكن التشكيك في دلالة الأحاديث لا في ثبوتها، فهل هي تعني هذا التصوير الفوتوغرافي أو الضوئي؟ أو أن هذا التصوير إنما هو عكس للصورة على الورق، كما تعكس الصورة في المرآة؟ ولذلك نجد أهل الخليج يسمون التصوير عكسًا، والمصور عكّاسًا، والصور عُكُوسًا. والأحاديث قد عللت التحريم بأن المصور يضاهي خلق الله عز وجل، وهنا لا مضاهاة، بل هو خلق الله تعالى نفسه، والذي في التلفاز ليس صورة مضاهية، بل هي خلق الله ذاته.

على كل حال، لم تكن المناقشة مجدية مع الشيخ عبد المحسن، فهو متمسك برأيه، لا يتنازل عنه، ولا يفرط فيه. والحقيقة: أنه رجل صالح ذو دين وتقوى ومخافة لله، ويعمل لخدمة الجامعة بلا كلل ولا ملل، ويبذل من نفسه ووقته وجهده ما لا يصبر عليه إلا أولو العزم من الرجال.

وقد لمست ذلك في عملنا معه، بوصفي عضوًا في المجلس الأعلى للجامعة، فهذا جعلني أقترب منه، وأعرف بعض فضائله، ولما سألت عنه زملاءه وطلابه أجمعوا على إطرائه ومدحه والثناء عليه، في علمه ودينه وخلقه وسيرته، جزاه الله خيرًا. وإن كنا نخالفه في ظاهريته وتشدده، ولكن المرء مسئول عما يقتنع به عقله، ويؤديه إليه اجتهاده، ويدين الله تعالى به، ويلقاه عليه، وإنما لكل امرئ ما نوى.

انقسم المؤتمر إلى عدة لجان حسب الموضوعات التي تبحث، والتي طلبت من الباحثين، وكتبوا فيها. وكل لجنة تضم عددًا من المدعوين، تختار لها رئيسًا ومقررًا، ثم يبعث مقرر اللجان الفرعية: تقرير كل لجنة بعد كل جلسة إلى المقرر العام. وظل المؤتمر عدة أيام في حركة دائبة، ونقاش علمي حي، ينبثق في العادة عن توصيات أو مشروع قرار، يرسل من اللجان الفرعية إلى المقرر العام.

وقبل الجلسة الختامية، عقدت جلسة خاصة لمناقشة التوصيات، ومشروعات القرارات، لإبقائها أو حذفها، أو تعديلها بإعادة صياغتها، حتى اكتملت مجموعة مهمة وقوية من التوصيات، فيها نظرة شاملة لهموم الأمة، ومشكلات الدعوة، وواجبات الدعاة، والعقبات التي تواجههم، وواجب الأمة نحو الدعوة والدعاة.

وقد وضعت هذه التوصيات والقرارات في صيغتها النهائية، وأقرها المؤتمر في جلسة ختامية، قرأها الشيخ الغزالي على المؤتمرين والضيوف. وقد وزعت على الأعضاء، وعلى الصحف وأجهزة الإعلام، بل طبعت مستقلة، ونشرت مستقلة، لما فيها من شمولية وتنوع وتوازن وتكامل. وليت المسئولين عن أمة الإسلام - حكوميين وشعبيين - التزموا بما في هذه التوصيات، ففيها خير كثير، لو كانوا يعلمون.