أبدأ هذا الجزء من ملامح السيرة والمسيرة بأمر كان ينبغي أن يكون في الجزء السابق «الثالث»، ولكن الذاكرة التي أصابتها الشيخوخة خانتني، فحسبت الحادث متأخرًا عن وقته. ولا غرو أن ينسى المرء بعض الأحداث، أو أن ينسى ميقاتها، فقد نسي آدم أبو البشر، كما ذكر القرآن، ومن شابه أباه فما ظلم، وقال في ذلك الشاعر: فإنّ أول ناسٍ أولُ الناس! وقال فتى موسى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (الكهف: 63).
هذا الحدث هو: وفاة أخي وصديقي الشيخ مصباح محمد عبده رحمه الله رحمة واسعة. فقد عرفت بالسؤال وبالرجوع إلى التواريخ: أنه توفي في صيف سنة 1975م. وهذا هو الصديق الثاني الذي أفقده من أصدقائي المقربين، أصدقاء الشباب، بعد أن فقدت صديقي الأول محمد الدمرداش مراد رحمه الله. وأنا رجل عاطفي، أحزن وأفرح، وأضحك وأبكي، وإن كانت عاطفة الحزن عندي أقوى، ومنها الحزن على الأصدقاء.
أزمة قلبية
أجل، لقد ودَّعنا الأخ الحبيب والصديق الصدوق، الشيخ مصباح محمد عبده المدرس بالمعهد الديني الثانوي في قطر، والذي وافته المنية فجأة في أوائل العام الدراسي في 26/9/1975م، بعد أزمة قلبية، لم يسعفه فيها الدواء المعتاد الذي كان يتناوله عندما تصيبه هذه الأزمة، إذ يبدو أن الدواء قد فرغ من عنده، ولم يسارع بإحضار البديل لينفذ قضاء الله في وقته المقدّر له، كما قال تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (نوح: 4)، {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون:11).
وقد اتصل بي أهله، وقد بلغ الكتاب أجله، فذهبت إلى منزله، لأجد «المصباح» قد انطفأ، وقد فات أوان الإسعاف والإنقاذ، ولم يبق إلا التسليم لقدر الله الذي لا يُرَد وإلا أن نقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156)، كان مصباح كأنما يتهيأ للخروج، فقد كنا في إجازة العيد، ولذا وجدته بكامل لباسه، وكل شيء فيه كأنه لا يزال حيًّا. لولا هذا الكائن الداخلي الذي يجحده الماديون، ويؤمن به كل ذي دين، وهو ما نسميه «الروح». الذي به يكتسب هذا الغلاف الطيني «الحياة».
وبدون هذه الروح - أو ما يسمِّيه عامة الناس: السر الإلهي - يتحول الإنسان صاحب العلم والبيان، إلى جثة هامدة، بمجرد أن يختطف الموت هذا الكائن الداخلي، ولا يستطيع أحد له مقاومة. وهكذا دخلنا الحياة بغير إرادتنا، وخرجنا منها بغير إرادتنا. {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (المؤمنون: 80).
نقل جثمانه إلى بلده
وأصرّت زوجته على أن يُدفن في بلده «محلة أبو علي»، وأن يُنقل جثمانه - كما هي العادة - على الطائرة إلى القاهرة، ثم تحمله سيارة إسعاف إلى حيث يُقبر، وكنا نود لو وري جثمانه في ثرى قطر، وهي أرض إسلامية، بدل السفر وما فيه من مشقة. ولكن أمام إصرار الزوجة، لم يكن بد من تسفيره على حساب حكومة قطر، وأن يسافر أحد الإخوة في رفقة أهله.
رفقاء الدرب
كان مصباح من أصدقائي القدامى، ومن رفقاء الدرب في الدراسة والسكن والدعوة والمحنة. لقد تعارفنا حين كنا طلبة في المرحلة الثانوية في طنطا، وزرته في قريته، وزارني في قريتي، ولكني كنت الأكثر ترددًا على قريته «محلة أبو علي»، وهي تعتبر الجار ذي القربى للمحلة الكبرى. والآن تلاصقتا، وأصبحت كأنها جزء من المحلة الكبرى. وكان مصباح قد تُوفي أبوه وهو صغير، وتربّى يتيمًا مثلي، وتولّت تربيته أمه، وكانت امرأة عاقلة ذات عزيمة قوية، مازالت وراءه حتى دخل الأزهر وتخرّج فيه.
أصدقائي في «محلة أبو علي»
وكان لي كثرة من الأصدقاء في «محلة ابو علي» منهم من لحق بربه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا. منهم: السيد النفاض، ورمزي الدمنهوري، والسيد الغضبان، وعبد القادر عامر، حفظهم الله، ومنهم: حمدي شبند، وعلى خفاجة، وعبد المجيد بقلولة رحمه الله تعالى.
وكنت كثيرًا ما أبيت في محلة أبو علي - أيام العزوبة - مع أحد الأصدقاء. وفي كلية أصول الدين سكن معي مصباح في «شقة شارع راتب باشا» الشهيرة، في شبرا، ولكنه نجا من الاعتقال في حين أن معظم سكانها اعتقلوا.
وعمل الشيخ مصباح مفتشًا للمساجد في وزارة الأوقاف مع الشيخ الغزالي، إلى أن جاء إلى قطر. وقد تحدَّثت عن مصباح من قبل في هذه المذكرات بمناسبات شتَّى، وخصوصًا في الجزء الأول. وقد اعتقل معنا في محنة 1949م، ودخل معي معتقل هايكستب ورحلنا معًا إلى الطور، وأصابه ما أصابه من مرض الروماتيزم. وذكرت من فكاهاته وطرائفه، ما أضحكنا وأدخل علينا البهجة في أتون الاعتقال.
آلف مألوف
كان مصباح رجلًا طيب القلب، نقيِّ السريرة، ظاهره كباطنه، مُحببًا إلى الناس، لم أر أحدًا يكرهه أو يعاديه. فقد كان سهل التعامل، هينًا لينًا متواضعًا خافض الجناح لإخوانه، يَألف ويؤلف، بسيطًا في مظهره وفي مخبره وفي حياته كلها، كما كان فكهًا خفيف الروح، له لطائف وفكاهات تصدر عنه بلا تكلف ولا تصنع.
لطائف وفكاهات
كنا ونحن بالكلية إذا سُئل: كم كان ترتيبك يا شيخ مصباح؟ فيقول: الشيخ يوسف هو الأول من ناحية، وأنا الأول من الناحية الأخرى! فنحن نحيط بالكلية من جانبيها! وكان يعمد إلي الألفاظ الغريبة الشائكة، إذا كانت صحيحة، مثل لفظة الدلالة، ينطقها بضم الدال «الدُّلالة» فإذا اعترض عليه معترض وسأله، قال: الدال يجوز فيها الفتح والكسر والضم، ثم يقول: أنا أتي بالغريب، ليسُتشكل عليّ فأجيب! وله شعر مما يسميه بعضهم الشعر الحلمنتيشي! لا أذكر منه الآن شيئًا أرويه.
رحم الله مصباحًا وغفر له وتقبَّله في عباده الصالحين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وجمعنا به في الفردوس الأعلى. آمين