السؤال: في القرن الماضي بدأت الهجرة من بعض الدول العربية والإسلامية إلى ديار الغرب، واستوطن بعض أهلنا في هذه البلاد، فما حكم هذا الاستيطان؟ وما تقولون في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، وقوله: "من جامع مشركًا فهو مثله" فهذه الأحاديث بعض العلماء يتعللون بها ويقولون إنه لا يجوز للمسلم أن يقيم في بلد الكفار؟

جواب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

عرض الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي لهذه المسألة المهمة في الحلقة الثالثة والعشرين من برنامج فقه الحياة، الذي أذيع على قناة أنا في رمضان 1430، الموافق لسنة 2009، وقد رأى فضيلته أن السفر إلى البلاد غير الإسلامية جائز، سواء أكانت الحاجة علمية أو تجارية أو ثقافية أو أمنية، كما رأى أن هذه الإقامة مشروطة بإقامة فروض الدين وأن لا يضطهد في دينه ، ومن خاف على دينه فعليه أن يعود.

يقول الشيخ القرضاوي :

عصرنا هذا فرض أوضاعًا لم يكن يحلم بها المسلمون، وأصبحنا نجد الإسلام في كثير من البلاد دون جهد منا، فمثلاً أوربا احتاجت إلى العمالة من البلاد التي من حولها، فذهبت العمالة من شمال إفريقيا إلى فرنسا، وذهبت العمالة من تركيا إلى ألمانيا، وذهبت العمالة من الهند وباكستان وغيرهما إلى إنجلترا، واستقرت هذه العمالة واستوطنت، وأكثرهم أخذ الجنسية، ونشأ أولادهم يحملون جنسية هذه البلاد، ويتعلمون لغتها ويتعلمون في مدارسها، وأصبحوا جزءًا من المجتمع، فكان لابد لهم من فقه غير فقه المسلمين في المجتمعات الأخرى.

وأنا أذكر أنه لما صدر كتابي "غير المسلمين في المجتمع الإسلامي" قابلني أحد الإخوة الهنود، وقال نحن في حاجة إلى كتاب آخر يكمل هذا الكتاب، قلت له وما هو؟ قال: "المسلمون في غير المجتمع الإسلامي"، فنحن نعيش في مجتمع غير إسلامي ولنا مشكلاتنا، ولنا إخوة يعيشون في أوربا وأمريكا ويحتاجون إلى فقه خاص.

وهذا ما تنبه إليه إخواننا في اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا، وهذا أيضا من آثار الصحوة الإسلامية، حيث شعر المسلمون بوجودهم، بينما  بعض الأقليات التي نشأت في بلاد غير الإسلام، ذهبت الأجيال الأولى منها وانتهت تمامًا، فمثلاً في أستراليا ذهب أناس من أفغانستان وأنشئوا مساجد رأيتها بعيني، مساجد وليس حولها مسلمون؛ لأن أهلها تزوجوا من الأستراليات، ولم تكن معهم زوجاتهم، ونشأ أبناؤهم على دين أمهاتهم، وضاع هذا الجيل، وهو نفس ما حدث في أمريكا اللاتينية، ففي الأرجنتين الجيل الأول ذهب وانتهى.

لكن مع الصحوة الإسلامية، شعر المسلمون بذاتياتهم، فبدءوا يبحثون عن إنشاء منظمات تمثلهم، وتحفظ هويتهم، مثل اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا، الذي أنشأ بدوره عدة مؤسسات منها: المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.

وعن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، وقوله: "من جامع مشركًا فهو مثله" فهذه الأحاديث بعض العلماء يتعللون بها ويقولون إنه لا يجوز للمسلم أن يقيم في بلد الكفار؟، يقول القرضاوي:

أولاً: هذه الأحاديث غير صحيحة، وثانيا من ناحية تأويلها فإن حديث "أنا بريء" هذا قاله الرسول في مناسبة معينة، حيث إن مسلمًا قتل أثناء القتال؛ لأن المهاجمين من المسلمين ما كانوا يعرفون أنه مسلم؛ لأنه كان يفترض أن يهاجر من هذه الأرض إلى المدينة، فقبل الفتح كان من الواجب على كل من أسلم أن يهاجر إلى المدينة المنورة، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (الأنفال:72)، فهؤلاء الذين بقوا في ديارهم وجاء المسلمون يغزون قومهم، ما الذي يعرفهم أن هؤلاء مسلمون؟ ولذلك فإن براءة النبي هي براءته من ديتهم؛ لأنه لم يهاجر من بلاد الشرك إلى بلاد التوحيد أو دار الإسلام في ذلك الوقت، وقد ألغيت هذه الهجرة بعد الفتح "لا هجرة بعد الفتح".

فهذا معنى الحديث، ولو كان صحيحًا، فكيف ينتشر الإسلام في العالم؟ إذا كنا نبقى نحن المسلمين في ديارنا لا ندخل بلدًا إلا إذا كان مسلمًا؟ فالهجرة في سبيل الله أمر مهم، ولذلك نقول من كانت له حاجة إلى هذه البلاد فليذهب، فهناك من يذهب ليتعلم، الكثيرون تعلموا في أوربا أو أمريكا، أو للاستشفاء من بعض الأمراض لا يوجد لها علاج إلا في هذه البلاد، أو للعمل، حيث تضيق كثيرًا بعض بلادنا ولا يجد الناس فيها عملاً، والله تعالى يقول: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} (النساء:100).

شروط لا بد منها لجواز الإقامة:

ثم تناول الشيخ الشروط التي لا بد من توافرها لجواز الإقامة في هذه البلاد، فقال:

على المسلم الذي يذهب إلى هذه البلاد أن يتعاون مع إخوانه حتى يحافظ على هويته، وأنا لي محاضرة قديمة اسمها "واجبات المسلم المغترب" وأجملتها في خمس واجبات: يحافظ على دينه، وينمي حياته الروحية والثقافية والفكرية، ويحافظ على أسرته؛ زوجته وأولاده، ويتعاون مع إخوانه المسلمين من حوله،فـ "كل غريب للغريب نسيبُ"، ولا يستطيع المسلمون أن يؤكدوا وجودهم إلا من خلال عمل جماعي، فكيف يبنون مساجد لعباداتهم، وكيف يبنون مدارس لتعليم أولادهم، ويقيمون أندية لأنشطتهم الاجتماعية والترويحية، ثم هناك واجبه نحو الذين يعيش من حولهم، سواء كانوا أمريكيين أو أوربيين، في أن يدعوهم إلى الإسلام ويعرفهم به من خلال أقواله وأفعاله وسيرته وأسوته، وأخيرًا واجبه نحو الأمة الإسلامية، فهو جزء من الأمة الكبرى وينبغي أن يعنى بقضاياها.

وأذكر أنني قلت للإخوة في تلك الأيام إن من لم يستطع منكم أن يحافظ على نفسه وأسرته، وأولاده، وذراريه، وخاف أن يضيع دينهم، فليبدأ رحلة العودة لبلده من الغد، وأذكر أن أحد الإخوة في القاهرة جاء بعدها بسنتين، وقال: أنا فلان الفلاني، وسمعت محاضرتك في نيوجيرسي حيث قلت لنا إن من لم يستطع المحافظة على دينه فليبدأ رحلة العودة من الغد، وأنا لم أستطع أن أحافظ على أبنائي خصوصًا بناتي، وكدن يضعن مني، فبدأت رحلة العودة وربنا فتح لي هنا.

والله أعلم.