السؤال: جرت مناقشة حامية بين بعض المعنيين بالدراسات الإسلامية وبعض، حول قـضية أثارها بعض الدعاة والمثقفين الإسلاميين في هذا العصر، وهي قـضية "تجديد أصول الفقه"، وبعض الزملاء اعـتبر هذه المقولة مرفوضة كليًا، فإن أصول الفقه يحتكم إليها عند الخلاف، فكيف تصبح هي محلاً للخلاف، فهذا يجددها في اتجاه، وذاك يجددها في اتجاه آخر. وبعض آخر لم ير في هذا الأمر بأسًا، وإنما يـضيق بتجديده الجامدون والحرفيون الذين يريدون أن يبقى كل قديم على قدمه.

وقد رأينا أن نحكمك في هذا النزاع الفكري، وقد ارتـضاك الطرفان المتنازعان حكمًا بينهما.

نرجو ألا تـضن علينا بكلمة فاصلة، وإن كنا نعرف كثرة مشاغلك.

نفع اللّه بكم، ووفقكم لإضاءة الطريق للحائرين.

من جامعـة الأمـير عبد القادر للعلـوم الإسـلامية

بالجزائر قسطنطينة

جواب فضيلة الشيخ:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

يدور السؤال حول كلمتين أساسيتين هما: التجديد وأصول الفقه.

أما كلمة "التجديد" فقد اقترنت بها ملابسات تاريخية جعلت كثيرًا من المتدينين الملتزمين يتخوفون من إطلاقها.

لقد قامت محاولات من بعض المستغربين من بني جلدتنا، أريد بها طمس هويتنا التاريخية، وذاتيتنا الإسلامية، تحت عنوان "التجديد". وهؤلاء الذين ظهروا باسم التجديد هم الذين سخر منهم أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي، حين قال: إنهم يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر!! وهم الذين ندد بهم أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته عن "الأزهر" فقال:

لا تحذ حذو عصابة مفتونـــة  **  يجدون كل قديم أمرٍ منكــرا !

ولو استطاعوا في المجامع أنكروا  **  من مات من آبائهم أو عُمِّـــرا!

من كل ساع في القديم وهدمـه  **  وإذا تقــدم للبناية قصــرا!

وهم الذين أشار إليهم شاعر الإسلام في الهند د. محمد إقبال، حين قال في بعض محاوراته: إن جديدهم هو قديم أوربا.. وقال: إن الكعبة لا تُجدد، ولا تُجلب لها حجارة من الغرب!

هذا اللون من دعوى التجديد مرفوض يقينًا. وقد قلت في بعض ما كتبت: "إن هذا أولى بأن يسمى تبديدًا من أن يسمى تجديدًا" (انظر: فصل: "أصالة لا رجعية، وتحديث لا تغريب" من كتابنا: بينات الحل الإسلامي).

فالتجديد الحقيقي مشروع بل مطلوب في كل شيء: في الماديات، والمعنويات، في الدنيا والدين، حتى إن الإيمان ليحتاج إلى تجديد، والدين يحتاج إلى تجديد. وفى الحديث الذي رواه عبد اللّه بن عمرو مرفوعًا: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم، كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم" (رواه الحاكم وقال: رواته ثقات، ووافقه الذهبي 1/4).

وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في المعرفة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (صححه العراقي وغيره، وذكره في صحيح الجامع الصغير)، المهم هو تحديد مفهوم التجديد ومداه (انظر في ذلك: بحث "تجديد الدين في ضوء السنة" من كتابنا: "من أجل صحوة راشدة").

وإذا كان الشارع قد أذن "بتجديد الدين" نفسه، وعرف تاريخ المسلمين فئة من الأعلام أطلق عليهم اسم «المجددين» من أمثال الإمام الشافعي والإمام الغزالي، وغيرهما... فلا حرج علينا إذن من "تجديد أصول الفقه"، وما "أصول الفقه"؟ إنه العلم الذي وضعه المسلمون ليضبطوا به استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. وبعبارة أخرى: العلم الذي يضع القواعد الضابطة للاستدلال فيما فيه نص، وفيما لا نص فيه.

وهو علم إسلامي صرف، ومن مفاخر تراثنا الفكري الإسلامي، وقد اعتبره شيخ مؤرخي الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث الشيخ مصطفى عبد الرازق أحد العلوم الأساسية المعبرة عن الفلسفة الإسلامية، أكثر من فلسفة المدرسة المشائية الإسلامية: مدرسة الكندي والفارابي وابن سينا.

وإذا كان "علم أصول الفقه" قد وضعه المسلمون بالأمس ووسعوه وطوروه ابتداء من "رسالة" الإمام الشافعي (ت: 204 هـ) إلى "إرشاد الفحول" للإمام الشوكاني (ت: 255 هـ) إلى مؤلفات المعاصرين.. فلا عجب أن يقبل التجديد اليوم. المسلمون هم الذين أسسوه، وهم الذين يجددونه.

كل العلوم الإسلامية قابلة للتجديد. الفقه وأصوله، والتفسير، وعلم الكلام، والتصوف، بل الواجب على الأمة متضامنة أن تعمل على تجديد هذه العلوم كلها. ومنذ ما يقرب من عشرين عامًا شاركت في مؤتمر "الحضارة الإسلامية بين الأصالة والتجديد" في بيروت، وكان بحثي حول "الفقه": وقد نشر في مجلة  "المسلم المعاصر" ثم في رسالة مستقلة: بعنوان "الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد"، وفيه تحدثت عن جوانب التجديد المطلوبة في الفقه الإسلامي المعاصر (نشرته "دار الصحوة" بالقاهرة).

وأهم جوانب التجديد المنشود في الفقه هو "إحياء الاجتهاد" بضوابطه الشرعية، بعدما شاع في وقت ما، أن باب الاجتهاد قد أغلق. وما دامت علوم الفقه والتفسير والكلام والتصوف قابلة للتجديد، بل محتاجة إليه، فلماذا لا يدخل "علم أصول الفقه" ضمن هذه المنظومة؟

لقد كتبت في مجال آخر عن حاجة علم الأصول إلى مزيد من التحقيق والتعميق والتطبيق. كما كتب في ذلك أخونا الدكتور حسن الترابي الأمين العام للحركة الإسلامية في السودان رسالة حول "تجديد أصول الفقه" لم يتح لي أن أراها، ولكني سُئلت عنها كثيرًا في أكثر من بلد، وأكثر من ملتقى.

بل ذكرت في كتابي عن: "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" أن بعض مسائل الاعتقاد قابلة للاجتهاد، وهي المسائل التي اختلفت فيها الأمة، وتعددت فيها الأقوال، ولا شك أن الحق واحد منها، والمخطئ فيها مغفور له، بل مأجور أجرًا واحدًا، إن شاء الله، على قدر تحريه للحق، وتعبه من أجله، وهذا هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا، قال في إحدى رسائله: "فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية والعلمية، أو المسائل الفروعية العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-وجماهير أئمة الإسلام. وأما تفريق المسائل إلى أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها. فهذا التفريق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة الإسلام. وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض. ا هـ.

وإذا كان بعض مسائل الاعتقاد قابلاً لأن يدخل دائرة الاجتهاد، فأولى منه بالدخول بعض مسائل "أصول الفقه"، على الرغم مما شاع لدى كثير من الدارسين أن أصول الفقه قطعية، وأن الأصول إذا لم تكن قطعية ودخلها الاجتهاد كغيرها، لم يعد لنا معيار نحتكم إليه إذا اختلفنا في الفروع!

ومنذ سنوات ثارت هذه القضية على صفحات العدد الافتتاحي من مجلة "المسلم المعاصر" حيث تبنت المجلة الدعوة إلى اجتهاد معاصر قوي يعتمد على أصول الإسلام، ولا يغفل حاجات العصر، ولم تقصر دعوتها على الاجتهاد في الفقه، بل شملت الاجتهاد في أصوله، واعترض بعض الباحثين المعاصرين (هو الكاتب الاقتصادي الإسلامي المعروف الأستاذ محمود أبو السعود) على هذه الدعوة بأن أصول الفقه قطعية، فكيف نجتهد فيها؟

وكان لي شرف المشاركة في تجلية هذه القضية في العدد (التالي مجلة "المسلم المعاصر" مقالة: "نظرات في العدد الأول" للمؤلف)، وكان مما قلته فيها: لا ريب أن الشاطبي -رحمه اللّه- بذل جهده لإثبات أن الأصول قطعية، ولكن ما المراد بالأصول هنا؟ يحسن بنا أن ننقل من تعليق العلامة الشيخ عبد اللّه دراز على "الموافقات" ما يوضح المقام حيث يقول:

(تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة: مثل "لا ضرر ولا ضرار" الحديث، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أَخْرَى} (فاطر:18)، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَج} (الحج:78)، "إنما الأعمال بالنيات" الحديث. وهكذا. وهذه تسمى أدلة أيضًا كالكتاب والسنة والإجماع... إلخ وهي قطعية بلا نزاع. وتطلق أيضًا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه القوانين هي من الأصول. فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية، فالقاضي أبو بكر الباقلاني ومن وافقه: على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني (الموافقات: 1/29 ط: التجارية)، والشاطبي قد عارض هذا بأدلة ذكرها، مقررًا في النهاية أن ما كان ظنيًا يطرح من علم الأصول، فيكون ذكره تبعيًا لا غير) (انظر الموافقات 1/29).

والذي يطالع علم أصول الفقه يتبين له أن رأي القاضي ومن وافقه هو الراجح، وذلك لما يرى من الخلاف المنتشر في كثير من مسائل الأصول. فهناك من الأدلة ما هو مختلف فيه بين مثبت بإطلاق، وناف بإطلاق، وقائل بالتفصيل، مثل اختلافهم في المصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستصحاب وغيرها. مما هو معلوم لكل دارس للأصول. والقياس، وهو من الأدلة الأربعة الأساسية لدى المذاهب المتبوعة، فيه نزاع وكلام طويل الذيول من الظاهرية وغيرهم. حتى الإجماع لا يخلو من كلام حول إمكانه ووقوعه، والعلم به، وحجيته.

هذا إلى أن القواعد والقوانين التي وضعها أئمة هذا العلم، لضبط الفهم، والاستنباط من المصدرين الأساسيين القطعيين: "الكتاب والسنة"، لم تسلم من الخلاف وتعارض وجهات النظر، كما يتضح ذلك في مسائل العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والناسخ والمنسوخ... وغيرها. فضلاً عما تختص به السنة من خلاف حول ثبوت الآحاد منها، وشروط الاحتجاج بها، سواء كانت شروطًا في السند أم في المتن، وغير ذلك مما يتعلق بقبول الحديث، واختلاف المذاهب في ذلك أمر معلوم مشهور، نلمس أثره بوضوح في علم أصول الحديث، كما نلمسه في علم أصول الفقه.

وإذا كان مثل هذا الخلاف واقعًا في أصول الفقه، فلا نستطيع أن نوافق الإمام الشاطبي على اعتبار كل مسائل الأصول قطعية. فالقطعي لا يسع مثل هذا الاختلاف ولا يحتمله، من ثم ألف العلامة الشوكاني كتابه الذي سماه: "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" محاولاً فيه تمحيص الخلاف، وتصحيح الصحيح، ونبذ الضعيف، وقال في مقدمته:

"إن علم أصول الفقه لما كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يُلجأ إليه عند تحرير المسائل، وتقرير الدلائل، في غالب الأحكام، وكانت مسائله المقررة، وقواعده المحررة، تؤخذ مسلمة عند كثير من الناظرين، كما تراه في مباحث الباحثين، وتصانيف المصنفين، فإن أحدهم إذا استشهد بكلمة من كلام أهل الأصول، أذعن له المنازعون، وإن كانوا من الفحول؛ لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن قواعد مؤسسة على الحق الحقيق بالقبول، مربوطة بأدلة علمية أي يقينية من المعقول والمنقول، تقصر عن القدح في شيء منها أيدي الفحول، وإن تبالغت في الطول. وبهذه الوسيلة صار كثير من أهل العلم واقعًا في الرأي رافعًا له أعظم راية، وهو يظن أنه لم يعمل بغير علم الرواية حملني ذلك بعد سؤال جماعة لي من أهل العلم على التصنيف في هذا العلم الشريف، قاصدًا به إيضاح راجحه من مرجوحه، وبيان سقيمه من صحيحه، موضحًا لما يصلح منه للرد إليه، وما لا يصلح للتعويل عليه. ليكون العالم على بصيرة في علمه يتضح له بها الصواب، ولا يبقى بينه وبين درك الحق الحقيقي بالقبول حجاب... لأن تحرير ما هو الحق هو غاية الطلبات، ونهاية الرغبات، لا سيما في مثل هذا الفن الذي رجع كثير من المجتهدين بالرجوع إليه إلى التقليد من حيث لا يشعرون، ووقع غالب المتمسكين بالأدلة بسببه في الرأي البحت وهم لا يعلمون" (إرشاد الفحول ص2،3 ط. السعادة).

وبهذا كله يتضح أن للاجتهاد في أصول الفقه مجالاً رحبًا، هو مجال التمحيص والتحرير والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون من قضايا جمة، ومحاولة الشوكاني "تحقيق الحق" منها لا يَعْنِي أنه لم يدع لمن بعده شيئًا، فالباب لا يزال مفتوحًا لمن وهبه اللّه المؤهلات لِوُلُوجه، ولكل مجتهد نصيب، وقد يتهيأ للمفضول ما لا يتهيأ للفاضل.

الأمر الذي يجب تأكيده بقوة هو أن ما ثبت بدليل قطعي لا يجوز أن ندع للمتلاعبين أن يجترئوا على اقتحام حماه. فإن هذه "القطعيات" هي عماد الوحدة الاعتقادية والفكرية والعملية للأمة. وهي لها بمثابة الرواسي للأرض، تمنعها أن تميد وتضطرب. ولا يجوز لنا التساهل مع قوم من الأدعياء، يريدون أن يحولوا القطعيات إلى محتملات، والمحكمات إلى متشابهات، ويجعلوا الدين كله عجينة لينة في أيديهم يشكلونها كيف شاءت لهم أهواؤهم، ووسوست إليهم شياطينهم.

ولقد بلغ التلاعب بهؤلاء إلى حد أنهم اجترءوا على الأحكام الثابتة بصريح القرآن، مثل توريث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، فهم يريدون أن "يجتهدوا" في التسوية بين الذكر والأنثى! بدعوى أن التفاوت كان في زمن لم تكن المرأة فيه تعمل مثل الرجل! وجهل هؤلاء أو تجاهلوا أن المرأة وإن عملت وخرجت من مملكتها وزاحمت الرجال بالمناكب تظل في كفالة الرجل ونفقته: ابنة وأختًا وزوجة وأمًا، غنية كانت أو فقيرة، وأن أعباءها المالية دون أعبائه، فهو يتزوج فيدفع مهرًا، ويتحمل نفقة، وهي تتزوج فتأخذ مهرًا، وينفق عليها، ولو كانت من ذوات الثراء.

وبلغ التلاعب ببعضهم أن قالوا: إن الخنازير التي حرمها القرآن وجعل لحمها رجسًا، كانت خنازير سيئة التغذية، أما خنازير اليوم فتربى تحت إشراف لم تنله الخنازير القديمة. وهكذا يريد هؤلاء لشرع اللّه أن يتبع أهواء الناس، لا أن تخضع أهواء الناس لشرع اللّه {وَلَو اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَوَاتُ وَالأرْض وَمَن فِيهِنَّ} (المؤمنون:71).

إننا نقول لهؤلاء الذين عبّدوا أنفسهم لفكرة التطور المطلق ويطالبون الإسلام أن يتطور! نقول لهم: لماذا تطالبون الإسلام أن يتطور، ولا تطالبون التطور أن يسلم؟! والإسلام إنما شرعه اللّه لِيَحْكُم، لا ليُحْكَم، وليقود لا ليقاد، فكيف تجعلون الحاكم محكومًا، والمتبوع تابعًا؟! {أَفَحُكْمَ الجَاهِليَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لقَوْمٍ يُوقِنُون} (المائدة:50).