السؤال: شهدت حفلًا كبيرًا حضره جلة من العلماء والباحثين والمفكرين وافتتح الحفل بالقرآن الكريم، ثم بعدد من الكلمات التي تقال في مثل هذه المناسبات، والذي لفت نظري ونظر الكثيرين من الحاضرين، أن أحد المتكلمين وهو عالم وأديب مرموق، جاء في كلمته عبارة كثيرًا ما تتكرر على ألسنة الخطباء، وأقلام الكتاب، وهي: أن النجاح الذي تحقق للمؤسسة إنما تم بفضل الله تعالى وجهود العاملين المخلصين وبذلهم ونشاطهم... إلخ. وهنا قام عالم كبير معقبًا على كلمة العالم السابق بأن هذا التعبير " بفضل الله وجهود العاملين.. إلخ" لا يجوز؛ لأنه ينافي إخلاص التوحيد لله تعالى، ويوهم إشراك الآخرين معه وتسويتهم به جل جلاله، وأن الواجب دفع هذا الإيهام بأن يقال: بفضل الله تعالى ثم بجهود العاملين المخلصين.

وانتهى الحفل ولم يعقب أحد على التعقيب، ولكن تساءل الكثيرون عن مدى الخطأ في العبارة الأولى، وعن مدى الوجوب والإلزام في العبارة الثانية، وهل هناك دليل على لزوم مثل ذلك؟ نرجو البيان والإيضاح، داعين لكم بالصحة ودوام التوفيق في خدمة الإسلام ونفع المسلمين .

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد :

العقيدة هي جوهر الإسلام، والإيمان بالله تعالى هو جوهر العقيدة، والتوحيد هو جوهر الإيمان، والتوحيد يعني إفراد الله سبحانه بالعبادة والاستعانة، فلا يعبد غيره، ولا يستعان إلا به، وهو الذي يتجلى في مناجاة المسلم لربه في كل صلواته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5).

والتوحيد هو المحرر الحقيقي للبشر من العبودية لكل ما سوى الله تعالى، فهو يحررهم من العبودية للطبيعة، ومن العبودية للأشياء، ومن العبودية للأشخاص، ومن العبودية للأوهام، ومن العبودية للأهواء، ومنها هوى الإنسان نفسه؛ وبهذا يحيا الإنسان سيدًا في الكون عبدًا لله وحده. والأديان السماوية كلها تدعو الناس إلى التوحيد، وكل رسول من عند الله، كان أول ما يوجه إلى قومه هذا النداء: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (هود: 50، 61،84).

ثم جاء الإسلام ليؤكد ما جاءت به الرسالات السابقة من التوحيد وتنقيته مما علق به من خرافات الوثنية، وتحريفات الغلاة والمفرطين، وكانت رسالته إلى أهل الكتاب دعوة قوية إلى هذا التوحيد النقي الناصع تمثله الآية الكريمة التي ختم بها النبي رسائله إلى قيصر والنجاشي والمقوقس وغيرهم من أمراء النصارى، وهي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64).

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تثبيت دعائم التوحيد في المجتمع المسلم، حتى إن المسلم يستقبل الحياة في أول لحظة بكلمة التوحيد، ويودعها في آخر لحظة بكلمة التوحيد، حيث علَّمنا أن نؤذن في أذن الطفل حين يولد لنسمعه "لا إله إلا الله"، وأن نلقن المحتضر على فراش الموت كلمة "لا إله إلا الله"، فهذه الكلمة أول ما يسمعه وآخر ما يسمعه.

كما حرص الرسول الكريم على حماية حمى التوحيد من أي شائبة تشوبه؛ حتى لا يتسرب إلى عقيدة المسلمين ما تسرب إلى أهل الكتاب من قبلهم؛ حتى انتهوا إلى ما انتهوا إليه، من "التشبيه والتجسيم" الذي يقول به اليهود، و"التثليث" الذي يقول به النصارى، وحتى لا يقعوا فيما وقعت فيه الأمم القديمة مثل قوم نوح الذين وضعوا صورًا لصالحيهم يتذكرونهم بها، فما زالوا يعظمونها، ويزيدون في تعظيمها، حتى انتهى بهم المطاف إلى عبادتها.

وهذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقاوم أي مظهر من مظاهر الغلو في شخصه. فإن الغلو أوسع أبواب الشرك. ومن ذلك: الألفاظ الموهمة للتقديس أو المشعرة بالمساواة مع الله تعالى، وهذا يُعرف بدلالة الحال ودلالة المقال معًا؛ ولهذا حين قال رجل في خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله، وشئت يا رسول الله، أنكر عليه ذلك بشدة وقال: "أجعلتني مع الله عِدْلا؟ - وفي لفظ: ندًا - لا بل ما شاء الله وحده". (رواه البخاري في: الأدب المفرد (787)، وابن ماجة (2117)، وأحمد (1839و2561)، وقال شاكر: إسناده صحيح).

وفي الحديث الآخر: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان". (رواه أحمد (5/384، 394)، وأبو داود (4980) من حديث حذيفة، وذكره الألباني في سلسلة الصحيحة برقم (137).

وحديث ثالث: أن حبرًا - أي من أهل الكتاب - جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال إنكم تشركون: تقولون: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: ما شاء الله ثم شئت". (رواه أحمد (6/371،372)، والحاكم (4/297) وصححه ووافقه الذهبي من حديث قتيلة بنت صيفي امرأة من جهينة، ذكره في الصحيحة 136). فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على ضرورة التحرز من الألفاظ الموهمة للشرك، وإن لم يقصد قائلها إليه.

ولكن السؤال المهم هنا: أهذا واجب في جميع الألفاظ والعبارات بحيث لا يجوز العطف بالواو على فعل أو أمر أُسند إلى الله تعالى أم هذا التشديد خاص ببعض الألفاظ والعبارات التي لها إيحاء خاص مثل لفظ "المشيئة"، ومثله لفظ "التوكل"، كأن يقول توكلت على الله وعلى فلان، وأمثالهما؟ إن الذي يقرأ القرآن الكريم ويجول فيه متدبرًا؛ يجد أن الكتاب العزيز استعمل تعبيرات مشابهة للتعبير الذي اعترض عليه: "بفضل الله وجهود المخلصين" وذلك في مناسبات متعددة، ومن ذلك:

أـ قوله تعالى: يخاطب رسوله: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ...} (الأنفال: 62-63)، ولم يقل سبحانه: هو الذي أيدك بنصره ثم بالمؤمنين.

ب ـ قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان: 14)، ولم يقل: أن اشكر لي ثم لوالديك.

جـ ـ قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا} (غافر: 35)، ولم يقل: ثم عند الذين آمنوا.

د ـ قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 105)، ولم يقل: ثم رسوله ثم المؤمنون.

هـ ـ ومثلها: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقين: 8)، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} (المائدة: 55)، وما كان من هذا القبيل، وهو كثير.

و ـ قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ} (النساء: 75)، ولم يقل: ثم المستضعفين.

ز ـ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} (التوبة: 59)، ولم يقل هنا: ما آتاهم الله ثم رسوله، سيؤتينا الله من فضله ثم رسوله.

ح ـ قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} (التوبة: 62)، ولم يقل: والله ثم رسوله.

هذه النماذج المتعددة وما شابهها في القرآن الكريم؛ تدلنا بوضوح على أن استخدام حرف "ثم" في العطف بدل "الواو" - في مثل الموقف الذي كان بسببه السؤال والاستفسار - ليس بواجب ولا لازم دائمًا، وأن استعمال "الواو" ليس منكرًا ولا ممنوعًا في كل حال. إنما يُمنع في حالات معينة توهم التسوية في الصورة بين الله وخلقه، كما في حالات نسبة المشيئة إلى الله عز وجل، فعطف مشيئة العبد المخلوق على مشيئة الله الخالق، في سياق واحد بالواو التي تفيد مطلق الجمع؛ ينفر منه حس الإنسان الموحد، وهو ما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال له من قال: ما شاء الله وشئت! قائلًا: "أجعلتني لله عدلًا أو ندًا؟".

ويشبه ذلك ما يقوله بعض الناس، باسم الله واسم فلان، باسم الله واسم الوطن. ونحوه أو قريب منه ما يقال: لوجه الله ووجه فلان. فالذي ينبغي هنا هو الاحتياط؛ سدًا للذريعة، وحماية لجناب التوحيد، وبعدًا عن مظنة الغلو والتقديس، فإنما هلك من كان قبلنا بالغلو في الدين. وبالله التوفيق.

والله أعلم