السؤال: ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى جواز الصرف من الزكاة على الأعمال الخيرية التي يقوم بها بعض الأفراد أو الجمعيات. مثل بناء المساجد أو المستشفيات أو المدارس أو غير ذلك من أعمال البر مثل تكفين الموتى أو تعليم الأيتام وتدريبهم على مهنة ونحو ذلك.

وحجة هؤلاء العلماء أن هذا كله داخل في عموم معنى "سبيل الله" في الآية الكريمة التي حددت مصارف الزكاة، وهي آية "إنما الصدقات…"، ونقلوا ذلك عن بعض العلماء المتقدمين. مع أن الرأي المشهور الذي نعرفه من الفقه أن "سبيل الله" معناه الجهاد وغزو الكفار.

فهل ترى فضيلتكم التوسع في مدلول "سبيل الله" بحيث يشمل كل عمل خيري أم تقصرونه على الجهاد والغزو كما هو رأي المذاهب المتبوعة؟

وما الذي رجحتموه في كتابكم "فقه الزكاة" حول هذه المسألة باعتباره موسوعة في أحكام الزكاة وأسرارها ؟ وما الذي يدخل من أعمال الخير في سبيل الله وما لا يدخل فيه؟

جواب سماحة الشيخ:

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

لقد فصلت الحديث في كتابي عن مصرف "في سبيل الله" وآراء المذاهب والعلماء في تفسيره وتحديد مدلوله، من المتقدمين والمتأخرين، ولا ريب أن منهم من حمل "سبيل الله" على معناه اللغوي العام، الذي يشمل كل طريق موصل إلى مرضاة الله؛ وعلى هذا يدخل في مضمونه كل عمل من أعمال القرب أو الخيرات، ولا غنى لمن أراد التوسع والتفصيل عن الرجوع إلى الكتاب "فقه الزكاة" (فقه الزكاة الجزء الثاني) ليقرأ فيه الأقوال وأدلتها معها، ولا بأس أن أذكر هنا ما يكفي إن شاء الله تعالى.

وأبادر فأقول: إن الجمعيات الخيرية التي تعمل لمساعدة الفقراء، مثل إطعامهم أو إيوائهم أو تعليمهم أو تدريبهم، أو علاجهم لا يجوز إعطاؤها من الزكاة المفروضة باعتبار ذلك في "سبيل الله" بل باعتبارها ممثلة للفقراء أو نائبة عنهم، فإعطاؤها بمثابة الإعطاء للفقراء أنفسهم، كالذي يعطي ولي اليتيم الفقير فهو أعطى اليتيم نفسه، وأما فيما عدا ذلك، فلا أؤيد المتوسعين في تفسير مدلول "سبيل الله" في آية "إنما الصدقات…" المتعلقة بمصارف الزكاة .

بل الذي أرجحه أن المعنى العام لسبيل الله لا يصلح أن يراد هنا، لأنه بهذا العموم يتسع لجهات كثيرة، لا تحصر أصنافها فضلاً عن أشخاصها، وهذا ينافي حصر المصارف في ثمانية، كما هو ظاهر في الآية، كما أن سبيل الله بالمعنى العام يشمل إعطاء الفقراء والمساكين وبقية الأصناف السبعة الأخرى، لأنها جميعًا من البر وطاعة الله، فما الفرق إذن بين هذا المصرف وما سبقه وما يلحقه؟

إن كلام الله البليغ المعجز يجب أن ينزه عن التكرار بغير فائدة، فلا بد أن يراد به معنى خاص يميزه عن بقية المصارف، وهذا ما فهمه المفسرون والفقهاء من أقدم العصور، فصرفوا معنى "سبيل الله".. إلى الجهاد. وقالوا: إنه المراد به عند إطلاق اللفظ؛ ولهذا قال ابن الأثير: إنه صار لكثرة الاستعمال فيه كأنه مقصور عليه.

ومما يؤيد ما قاله ابن الأثير، ما رواه الطبراني: أن الصحابة كانوا يوماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا شاباً جلداً، فقالوا: لو كان شبابه وجلده في سبيل الله؟ يريدون في الجهاد ونصرة الإسلام. (قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، ج3 ص4 ط. المنيريه)، وصحت أحاديث كثيرة عن الرسول وأصحابه تدل على أن المعنى المتبادر لكلمة "سبيل الله" هو الجهاد. كقول عمر في الحديث الصحيح: "حملت على فرس في سبيل الله" يعني في الجهاد، وحديث الشيخين: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها".

فهذه القرائن كلها كافية في ترجيح أن المراد من "سبيل الله" في آية المصارف، هو الجهاد، كما قال الجمهور، وليس المعنى اللغوي الأصلي، وقد أيد ذلك حديث لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة… وذكر منهم الغازي في "سبيل الله"، وهذا ما اختاره الشيخ أبو زهره في بحثه في "الزكاة" الذي قدمه لمؤتمر البحوث الإسلامية الثاني؛ ولهذا أوثر عدم التوسع في مدلول "سبيل الله" بحيث يشمل كل المصالح والقربات، ولكني أرجح عدم التضييق فيه، بحيث لا يقصر على الجهاد بمعناه العسكري المحض.

إن الجهاد قد يكون بالقلم واللسان، كما يكون بالسيف والسنان. قد يكون الجهاد فكرياً، أو تربوياً، أو اجتماعياً، واقتصادياً، أو سياسياً، كما يكون عسكرياً، وكل هذه الأنواع من الجهاد تحتاج إلى الإمداد والتمويل.

المهم أن يتحقق الشرط الأساسي لذلك كله، وهو أن يكون "في سبيل الله" أي في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته في الأرض، فكل جهاد أريد به أن تكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، أياً كان نوع هذا الجهاد وسلاحه، فالنصرة لدين الله وطريقته وشريعته تتحقق بالغزو والقتال في بعض الأحوال، بل قد يتعين هذا الطريق في بعض الأزمنة والأمكنة لنصرة دين الله، ولكن قد يأتي عصر -كعصرنا- يكون فيه الغزو الفكري والنفسي أهم وأبعد خطراً وأعمق أثراً، من الغزو المادي العسكري.

فإذا كان جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة قديماً، قد حصروا هذا السهم في تجهيز الغزاة والمرابطين على الثغور، وإمدادهم بما يحتاجون إليه من خيل وكراع وسلاح، فنحن نضيف إليهم في عصرنا غزاة ومرابطين من نوع آخر، أولئك الذين يعملون على غزو العقول والقلوب بتعاليم الإسلام، والدعوة إلى الإسلام، أولئك هم المرابطون بجهودهم وألسنتهم وأقلامهم للدفاع عن عقائد الإسلام وشرائع الإسلام.

ودليلنا على هذا التوسع في معنى الجهاد:

أولاً: أن الجهاد في الإسلام لا ينحصر في الغزو الحربي والقتال بالسيف فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سئل: أي الجهاد أفضل؟ فقال: "كلمة حق عند سلطان جائر". رواه أحمد والنسائي والبيهقي في الشعب والضياء المقدسي عن طارق بن شهاب وقال المنذري بعد عزوه للنسائي إسناده صحيح. (التيسر للمناوي ج1 ص182)

كما روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمنون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس وقال صحيح وأقروه كما في التيسير شرح الجامع الصغير للمناوي ج1 ص485.

ثانياً: إن ما ذكرناه من ألوان الجهاد والنشاط الإسلامي لو لم يكن داخلاً في معنى الجهاد بالنص، لوجب إلحاقه به بالقياس، فكلاهما عمل يقصد به نصرة الإسلام والدفاع عنه، ومقاومة أعدائه، وإعلاء كلمته في الأرض،  وقد رأينا للقياس مدخلاً في كثير من أبواب الزكاة، ولم نجد مذهباً إلا قال به في صورة من الصور؛ وبذلك يكون ما اخترناه هنا في معنى سبيل الله هو رأي الجمهور مع بعض التوسعة في مدلوله .

وأود أن أنبه هنا على أن بعض الأعمال والمشروعات قد تكون في بلد ما و زمن ما وحالة ما، جهاداً في سبيل الله، ولا تكون كذلك في بلد آخر أو وقت آخر أو حال أخرى، فإنشاء مدرسة في الظروف العادية عمل صالح وجهد مشكور يحبذه الإسلام ولكن لا يعد جهاداً، فإذا كان بلد قد أصبح فيه التعليم وأصبحت المؤسسات التعليمية في يد المبشرين أو الشيوعيين أو اللادينيين العلمانيين؛ فإن من أعظم الجهاد إنشاء مدرسة إسلامية خالصة، تعلم أبناء المسلمين ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم، ويحصنهم من معاول التخريب الفكري والخلقي، وتحميهم من السموم المنفوثة في المناهج والكتب، وفي عقول المعلمين، وفي الروح العامة التي توجه المدارس والتعليم كله.

ومثل ذلك يقال في إنشاء مكتبة إسلامية للمطالعة في مواجهة المكتبات الهدامة، وكذلك إنشاء مستشفى إسلامي لعلاج المسلمين، وإنقاذهم من استغلال الإرساليات التبشيرية الجشعة المضللة، وإن كانت المؤسسات الفكرية والثقافية تظل أشد خطراً و أبعد أثراً.

من سبيل الله تحرير أرض الإسلام من حكم الكفار:

ولا شك أن من أهم ما ينطبق عليه معنى الجهاد في عصرنا هو: العمل لتحرير الأرض الإسلامية من حكم الكفار الذين استولوا عليها، وأقاموا فيها حكمهم بدل حكم الله، سواء أكان هؤلاء الكفار يهوداً أم نصارى أم وثنيين، أم ملحدين لا يدينون بدين، فالكفر كله ملة واحدة، فالرأسمالي والشيوعي، والغربي والشرقي، والكتابي واللاديني، كلهم سواء في وجوب محاربتهم إذا احتلوا جزءاً من ديار الإسلام، يقوم بذلك أدنى البلاد إلى هذا الجزء يعاونهم الأقرب فالأقرب، حسب الحاجة، إلى أن يشمل الوجوب المسلمين جميعاً، إن لم تقم الكفاية إلا بالجميع.

ولم يبتل المسلمون في عصر، كما ابتلوا اليوم، بوقوع كثير من ديارهم في قبضة الكفرة المستعمرين، وفي مقدمة هذه الديار: فلسطين التي سلط عليها شذاذ الآفاق من اليهود، ومثل ذلك "كشمير" التي تسلط عليها الهندوس المشركون… و"أريتريا" التي تسلطت عليها الصليبية الحاقدة الماكرة، ومثل ذلك البلاد الإسلامية العريقة مثل بخارى وسمرقند وطشقند.. التي تسلطت عليها الشيوعية الملحدة الطاغية.

واسترداد هذه البلاد كلها، وتخليصها من براثن الكفر، وأحكام الكفار واجب على كافة المسلمين بالتضامن، وإعلان الحرب المقدسة لإنقاذها فريضة إسلامية، فإذا قامت حرب في أي جزء من هذه الأجزاء بهذا القصد، ولهذه الغاية: تخليص البلد من أحكام الكفر وطغيان الكفرة، فهي - بلا نزاع- جهاد في سبيل الله، يجب أن يمول ويعان، وأن يدفع له قسط من مال الزكاة، يقل ويكثر حسب حصيلة الزكاة من جهة، وحسب حاجة الجهاد من جهة ثانية، وحسب حاجة سائر المصارف الأخرى شدة وضعفاً من جهة ثالثة، وكل هذا موكول لأهل الحل والعقد، وذوي الرأي والشورى من المسلمين، إن وجدوا.

السعي لإعادة حكم الإسلام جهاد في سبيل الله:

وأحق ما ينبغي أن يصرف إليه سهم "في سبيل الله" في عصرنا ما ذكره العلامة السيد رشيد رضا رحمه الله، حيث اقترح تأليف جمعية ممن بقي من أهل الدين والشرف من المسلمين، تنظم جمع الزكاة منهم، وتصرفها - قبل كل شيء في مصالح المرتبطين بهذه الجمعية قال: ويجب أن يراعى في تنظيم هذه الجمعية: أن لسهم "سبيل الله" مصرفاً في السعي لإعادة حكم الإسلام، وهو أهم من الجهاد لحفظه -في حال وجوده- من عدوان الكفار، ومصرفا آخر في الدعوة إليه والدفاع عنه بالألسنة والأقلام إذا تعذر الدفاع عنه بالسيوف والأسنة وألسنة الـنيران (تفسير المنار ج10 ص598ط. ثانية).

صور متنوعة للجهاد الإسلامي في عصرنا:

ويحسن بي أن أذكر هنا بعض الصور والأمثلة للجهاد الإسلامي في عصرنا الذي يعد "في سبيل الله" وقبل عرض هذه الصور والأمثلة أحب أن أوضح حقيقة لها أهميتها هنا. هذه الحقيقية هي: أن عبء تجهيز الجيوش النظامية وتسليحها والإنفاق عليها، قد كان -منذ فجر الإسلام- محمولا على الخزانة العامة للدولة الإسلامية، لا على أموال الزكاة، فكان ينفق على الجيوش والسلاح والمقاتلة من أموال الفيء والخراج ونحوها، وإنما يصرف من الزكاة على بعض الأمور التكميلية، كالنفقة على المجاهدين المتطوعين ونحو ذلك.

وكذلك نرى ميزانية الجيوش والدفاع في عصرنا، فعبؤها يقع على كاهل الميزانية العامة، لأنها تتطلب نفقات هائلة تنوء بها حصيلة الزكاة، ولو أن الزكاة حملت مثل هذه النفقات لكانت جديرة أن تبتلع حصيلتها ولا تكفي؛ لهذا نرى أن توجيه هذا المصرف إلى الجهاد الثقافي والتربوي والإعلامي أولى في عصرنا، بشرط أن يكون جهاداً إسلامياً صحيحاً.

ونستطيع أن نضرب أمثلة شتى لكثير من الأعمال التي تحتاج إليها رسالة الإسلام في هذا العصر، هي جديرة أن تعد بحق جهاداً في سبيل الله. إن إنشاء مراكز للدعوة إلى الإسلام الصحيح، وتبليغ رسالته إلى غير المسلمين في كافة القارات، في هذا العالم الذي تتصارع فيه الأديان والمذاهب، جهاد في سبيل الله.

وإن إنشاء مراكز إسلامية واعية في داخل بلاد الإسلام نفسها، تحتضن الشباب المسلم وتقوم على توجيهه الوجهة الإسلامية السليمة، وحمايته من الإلحاد في العقيدة، والانحراف في الفكر، والانحلال في السلوك، وتعده لنصرة الإسلام، وتحكيم شرعه، ومقاومة أعدائه، جهاد في سبيل الله.

وإن إنشاء صحيفة إسلامية خالصة، تقف في وجه الصحف الهدامة والمضللة، لتعلي كلمة الله، وتصدع بقولة الحق، وترد عن الإسلام أكاذيب المفترين، وشبهات المضللين، وتعلم هذا الدين لأهله خالياً من الزوائد، والشوائب، جهاد في سبيل الله.

وإن نشر كتاب إسلامي أصيل، يحسن عرض الإسلام، أو جانب منه، ويكشف عن مكنون جواهره، ويبرز جمال تعاليمه، ونصاعة حقائقه، كما يفضح أباطيل خصومه، وتعميم مثل هذا الكتاب على نطاق واسع، جهاد في سبيل الله.

وإن تفريغ رجال أقوياء أمناء مخلصين، لعمل في المجالات السابقة بهمة وغيرة وتخطيط لخدمة هذا الدين، ومد نوره في الآفاق، ورد كيد أعدائه المتربصين به، وإيقاظ أبنائه النائمين عنه، ومقاومة موجات التبشير والإلحاد والإباحية والعلمانية، جهاد في سبيل الله.

وإن معاونة الدعاة إلى الإسلام الحق، الذين تتآمر عليهم القوى المعادية للإسلام في الخارج، مستعينة بالطغاة والمرتدين من الداخل، جهاد في سبيل الله.

وإن الصرف على هذه المجالات المتعددة لهو أولى ما ينبغي أن يدفع فيه المسلم زكاته وفوق زكاته ، فليس للإسلام -بعد الله- إلا أبناء الإسلام، وخاصة في عصر غربة الإسلام.