السؤال: فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. مَن يجوز أن يعتبر مفتيا حقيقيا في الإسلام؟ وما هي المؤهلات الأساسية الشخصية لمن يتصدى للفتوى ولهداية الناس في فهمه واتباع الشريعة الإسلامية؟

مع الشكر وجزيل الاحترام لفضيلتكم.

فاروق جرار

الأمين العام المساعد لمؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه. وبعد:

إن الفتوى منصب عظيم الأثر، بعيد الخطر، فإن المفتي - كما قال الإمام الشاطبي - قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فهو خليفته ووارثه، "العلماء ورثة الأنبياء"(1).. وهو نائب عنه في تبليغ الأحكام، وتعليم الأنام، وإنذارهم بها لعلهم يحذرون، وهو إلى جوار تبليغه في المنقول عن صاحب الشريعة، قائم مقامه في إنشاء الأحكام في المستنبط منها بحسب نظره واجتهاده، فهو من هذا الوجه - كما قال الشاطبي - شارع، واجب اتباعه، والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق (2).

واعتبر الإمام أبو عبد الله ابن القيم المفتي موقِّعا عن الله تعالى فيما يفتي به، وألف في ذلك كتابه القيم المشهور "إعلام الموقعين عن رب العالمين" الذي قال في فاتحته: "إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكر فضله، ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات؛ فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟!" (3).

إنكار السلف على من أفتى بغير علم:

وكان السلف ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى ولم يتأهل لها، ويعتبرون ذلك ثُلْمة في الإسلام، ومنكرا عظيما يجب أن يُمنع، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" (4)، وروى الإمام أحمد وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أفتى بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه" (5).

وذلك لأن المستفتي معذور إذا كان من أفتاه لبس لبوس أهل العلم، وحشر نفسه في زمرتهم، وغرّ الناس بمظهره وسمته، غير أن من أقر هذا المفتي - بعد تبين جهله وخلطه - من ولاة الأمور يشاركه في الإثم أيضا، ولا سيما إذا كان من أهل الحظوة لديهم، والقربى إليهم، فهو ينفعهم، وهم ينفعونه، على طريقة "احملني أحملك"!

ومن ثم قرّر العلماء: أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو عاص أيضا، ونقل ابن القيم عن أبي الفرج بن الجوزي رحمه الله قال: ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية.

قال: وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم.

وإذا تعين على ولي الأمر منع مَن لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى فكيف بمَن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على هؤلاء، ولما قال له بعضهم يوما: أجُعِلت محتسبا على الفتوى؟! قال له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟ (6).

والإمام أبو حنيفة رغم ذهابه إلى عدم الحجر على السفيه احتراما لآدميته، يقول بوجوب الحجر على المفتي الماجن المتلاعب بأحكام الشرع، لما وراء تلاعبه من ضرر عام على الجماعة المسلمة، لا يقاوم حقه الفردي في حرية التصرف.

وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن - شيخ الإمام مالك - يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق! (7)، وقال غير واحد من السلف في بعض أهل زمانه: إن أحدهم يفتي في المسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر!

وأقول: فكيف لو رأى ربيعة وغيره، ما رأينا من علماء زماننا نحن؟ وكيف أصبح يفتي في قضايا الدين الكبرى من لا علم له بالأصول ولا بالفروع، ولم يتصل بالقرآن والسنة اتصال الدارس المتعمق، بل اتصال الخاطف المتعجل؟ بل كيف أصبح بعض الشباب يفتون في أمور خطيرة بمنتهى السهولة والسذاجة، مثل قولهم بتكفير الأفراد والمجتمعات، وتحريمهم على أتباعهم حضور الجمع والجماعات.

وكثير من هؤلاء ليسوا من "أهل الذكر" في علوم الشريعة، ولا كلّف نفسه أن يجلس إلى أهل الذكر ويأخذ عنهم، ويتخرج على أيديهم، إنما كوّن ثقافته من قراءات سريعة في كتب المعاصرين، أما المصادر الأصلية فبينه وبين قراءتها مائة حجاب وحجاب، ولو قرأها ما فهمها، لأنه لا يملك المفاتيح المعينة على فهمها وهضمها.

فكل علم له لغة ومصطلحات لا يفهمها إلا أهله العارفون به المتخصصون فيه، فكما لا يستطيع المهندس أو الطبيب أن يقرأ كتب القانون وحده دون مرشد ومعلم، ولا يستطيع القانوني أن يقرأ كتب الهندسة وحده، كذلك لا يستطيع أحد هؤلاء أن يدرس كتب الشريعة وحده دون موجه يأخذ بيده.

ثقافة المفتي:

إن المفتي أو الفقيه الذي يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بل يوقع عن الله جل شأنه، جدير بأن يكون على قدر كبير من العلم بالإسلام، والإحاطة بأدلة الأحكام، والدراية بعلوم العربية، مع البصيرة والمعرفة بالحياة وبالناس أيضا بالإضافة إلى ملكة الفقه والاستنباط.

لا يجوز أن يفتي الناس في دينهم من ليس له صلة وثيقة وخبرة عميقة بمصدريه الأساسيين: الكتاب والسنة، ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم تكن له ملكة في فهم لغة العرب وتذوقها، ومعرفة علومها وآدابها حتى يقدر على فهم القرآن والحديث.

ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم يتمرس بأقوال الفقهاء، ليعرف منها مدارك الأحكام، وطرائق الاستنباط، ويعرف منها كذلك مواضع الإجماع ومواقع الخلاف.

ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم يتمرس بعلم أصول الفقه، ومعرفة القياس والعلة، ومتى يستعمل القياس، ومتى لا يجوز.

كما لا يجوز له أن يُفتي ما لم يكن عالما بمقاصد الشريعة، وعلل الأحكام، فمَن عاش مع ظواهر النصوص وحرفيَّتها، ولم يكن له التفات إلى أسرارها ومقاصدها: لم يُحسن الفتوى في دين الله. ولم يكتفِ الإمام الشاطبي بأن جعل العلم بمقاصد الشريعة شرطا للاجتهاد، بل جعله سببا للاجتهاد.

كما لا يجوز أن يفتي مَن لم يعايش الفقهاء في كتبهم وأقوالهم، ويطلع على اختلافهم، وتعدد مداركهم، وتنوع مشاربهم، ولهذا قالوا: مَن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه!

ولا يجوز أن يفتي الناس من يعيش في صومعة حسية أو معنوية، لا يعي واقع الناس، ولا يحس بمشكلاتهم.

يروي الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه "الفقيه والمتفقه" عن الإمام الشافعي قوله: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلا عارفا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزليه، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيم أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر، وبما يحتاج إليه العلم والقرآن، ويستعمل - مع هذا - الإنصات وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأفكار، وتكون له قريحة (أي ملكة وموهبة) بعد هذا، فإن كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي" (8).

على أن الحفظ وحده لا يجعل الحافظ فقيها، ما لم تكن لديه المقدرة على التمييز بين المقبول والمردود، والصحيح والمعلول، وكذلك على الاستنباط والترجيح، أو التوفيق بين النصوص بعضها وبعض، وبينها وبين المقاصد الشرعية والقواعد الكلية.

قيل للإمام عبد الله بن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر، بصيرا بالرأي.

وبهذا لا يكفي الأثر دون الرأي، ولا الرأي دون الأثر. ولا بد للمفتي من ثقافة عامة، تصله بالحياة والكون، وتطلعه على سير التاريخ، وسنن الله في الاجتماع الإنساني، حتى لا يعيش في الحياة وهو بعيد عنها، جاهل بأوضاعها.

يقول الخطيب البغدادي أيضا في "الفقيه والمتفقه": "اعلم أن العلوم كلها أبازير للفقه، وليس دون الفقه علم إلا وصاحبه يحتاج إلى ما يحتاج إليه الفقيه، لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم، فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه، ولن يدرك ذلك إلا بملاقاة الرجال، والاجتماع مع أهل النحل والمقالات المختلفة، ومساءلتهم وكثرة المذاكرة لهم، وجمع الكتب ومدارستها، ودوام مطالعتها".

ولا يريد الخطيب من المفتي أو الفقيه أن يجمع الكتب في خزائنه من هنا وهناك دون أن يعيها، ويفهم ما فيها، فهذا كمثل الحمار يحمل أسفارا.

ونقل عن بعض الحكماء أنه قيل له: إن فلانا جمع كتبا كثيرة، فقال: هل فهمه على قدر كتبه؟ قيل: لا. قال: فما صنع شيئا! ما تصنع البهيمة بالعلم؟!

وقال رجل لرجل كتب، ولا يعلم شيئا مما كتب: ما لك من كتبك إلا فضل تعبك وطول أرقك، وتسويد ورقك! (9).

إن من أسوأ الأشياء خطرا على المفتي أن يعيش في الكتب، وينفصل عن الواقع؛ ولهذا أحسن الخطيب رحمه الله حين طلب إلى المفتي أن يعرف الجد والهزل، والنفع والضر في أمور الحياة.

ومما قاله الإمام أحمد: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية، لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.

والثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة. (إشارة إلى الجانب الأخلاقي).

والثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته. (يشير إلى التمكن العلمي).

والرابعة: الكفاية (أي من العيش) وإلا مضغه الناس.

والخامسة: معرفة الناس (10).

والمراد بـ (معرفة الناس): معرفة الحياة والواقع الذي يحياه الناس.

إن المفتي البصير يجب أن يكون واعيا للواقع، غير غافل عنه، حتى يربط فتواه بحياة الناس، فهو لا يكتب نظريات، ولا يلقي فتواه في فراغ، ومراعاة الواقع تجعل المفتي يراعي أمورا معينة، ويضع قيودا خاصة، وينبه على اعتبارات مهمة.

وقال الإمام ابن القيم: إن الفقيه هو من يزاوج بين الواجب والواقع، بمعنى أنه لا ينبغي أن يعيش فيما يجب أن يقع، دون أن يلتفت إلى ما هو واقع بالفعل، أو ينظر إلى زمان مضى، ولا يعرف زمنه هو، ولكل زمن حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم.

وهناك جانب مهم يتعلق بدين المفتى وضميره وتقواه، فإن العلم وحده لا يغني إذا لم يسنده إيمان يعصم صاحبه من اتباع الهوى في فتواه، فالمفروض في المفتي: أن يقصد بفتواه وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته، لا إرضاء العوام، ولا إرضاء ذي السلطان. وأن يتحرى الحق ما استطاع، ولا يتسرع ليقال عنه عالم علاَّمة! ويشاور إخوانه من أهل العلم فيما أشكل عليه، وأن يحيل إلى غيره فيما يراه أعلم به منه، وأن يقول: لا أدري فيما لا يدريه فهذا ما تقتضيه أمانة العلم ومسؤوليته.

وقد سئل الإمام مالك عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري.

هؤلاء هم الأئمة، وهم القدوة، ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه. وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

..........................

* من كتاب "فتاوى معاصرة" لفضيلة الشيخ.

(1) رواه أحمد في المسند (21715)، وقال مخرّجوه: حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف، وأبو داود في العلم (3641)، والترمذي في العلم (2682)، وابن ماجه في المقدمة (223)، وابن حبان في صحيحه كتاب العلم (1/ 289)، والبيهقي في الشعب (2/ 262)، وصححه الألباني في صحيح الجامج (6297).

(2) انظر: الموافقات (4/ 244، 246).

(3) انظر: إعلام الموقعين (1/ 10)، طبعة دار الجيل بيروت. 

(4) متفق عليه: رواه البخاري في العلم (100)، ومسلم في العلم (2673)، كما رواه أحمد في المسند (6511)، والترمذي في العلم (2652)، وابن ماجه في المقدمة (52) عن ابن عمرو.

(5) رواه أحمد في المسند (8266)، وقال مخرّجوه: إسناده ضعيف، وأبو داود في العلم (3657)، والدارمي في سننه (1/ 69)، والحاكم في المستدرك كتاب العلم (1/ 215)، وصححه، ووافقه الذهبي، والبخاري في الأدب المفرد (1/ 100)، والبيهقي في الكبرى كتاب آداب القاضي (10/ 116)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6068) عن أبي هريرة.

(6) انظر: إعلام الموقعين (4/ 317).

(7) انظر: إعلام الموقعين (4/ 207).

(8) انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 157) مطابع القصيم بالرياض.

(9) الفقيه والمتفقه ص158،159.

(10) ذكره ابن بطة في كتابه في الخلع، ونقله ابن القيم في الإعلام (4/ 199).