تواصلت اللقاءات الفكرية لفضيلة العلامة د. يوسف القرضاوي مع علماء الشيعة وعلماء السنة في طهران التي يزورها بدعوة من المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وقد أكد فضيلته على عدد من المبادئ الأساسية للتقريب بين أبناء القبلة الواحدة .. وبينما كان العالم المعروف آية الله تسخيري رئيس رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية بوزارة الإرشاد الإيرانية يرحب بالعلامة القرضاوي قائلاً له انتم ذخر للأمة الإسلامية، لم تشاركوا في اختلافها بل كان لكم دور مشهود في وقف الحرب العراقية الإيرانية واصفاً إياه بأنه قمة بذلت حياتها لجميع الأمة .. رد فضيلة د. القرضاوي على آية الله تسخيري (وهو عالم من علماء الشيعة المعروفين بجهودهم المرموقة للتقارب بين أبناء الشيعة وأبناء السنة والتقارب الإيراني العربي أيضاً) فقال: أنني اعتبر نفسي في بلدي فحيثما ارتفعت المآذن اعتبر ذلك وطناً لي .. وقال: إننا يجب أن نعمل على مستوى الإسلام الذي نمثله، وعلى مستوى العصر الذي نعيش فيه، وعلى مستوى ما يعمل الآخرون لأديانهم وفلسفتهم فلو نظرنا إلى هذه النواحي الثلاث لوجدنا أننا مقصرون جداً .. وروى قائلاً: أذكر أننا كنا في منظمة الدعوة الإسلامية في كمبالا وهي منظمة تتخذ الخرطوم مقراً لها، وتعقد اجتماعاتها في أماكن مختلفة كل عام، قام لواء سابق في الجيش السوداني وحكى لنا قصة مؤثرة هي انه حين استقل السودان ذهبنا إلى قرية في الجنوب، و أهلها لم يروا سيارة قط في حياتهم وعندما شاهدوا السيارة هرول الناس وهربوا إلى البيوت، ما هذا الشيء الذي يمشي وليس حصاناً ولا بقرة ولا حيوان؟ ثم جمعناهم بعد ذلك وقلنا لهم نحن سودانيون مثلكم وجئنا لنتعاون معكم ونساعدكم وبينما نحن نكلمهم سمعنا جرساً يدق سألنا هل هي مدرسة؟ قالوا لا توجد مدرسة ولا أحد يقرأ ولا يكتب في هذه القرية بل هذا أبونا، سالنأ: من أبوكم هذا؟ قالوا: هذا رجل يأتينا مرتين كل أسبوع وذهبوا لهذا الرجل الذي يركب دراجة ومعه حقيبتان .. سألناه .. يروي اللواء السوداني .. من أنت؟ قال: فلان، من أي البلاد؟ قال أنا من بروكسل ماذا تفعل قال: أنا أسكن في قرية كذا، وعندي حوالي (40) قرية أزور كل قرية منها كل أسبوع مرتين، وهو يأتي ومعه حلوى للأطفال في إحدى الحقيبتين والأخرى فيها أدوية خفيفة للناس .. يأتي ويحدثهم عن المسيح، عن العذراء، وينتقل إلى قرية أخرى بدراجته وسط هذه الغابات والأدغال، وقد ترك بروكسل وسهولة الحياة فيها .. قلنا له: كم سنة لك هنا؟ قال: ثلاثون سنة، قالوا: كم مرة زرت وطنك، قال: ولا مرة، قالوا له متى تنوي العودة إلى وطنك؟ قال: ما هذه الأسئلة: أنا وطني هنا، ورسالتي هنا وحياتي هنا وقبري هنا! وعلق د. القرضاوي على تلك القصة قائلاً:

إنه رجل صاحب رسالة .. ودينه الذي يقول فيه ابن حزم: لا توجد في الدنيا مقولة أشد فساداً وبطلاناً من قول النصارى الثلاثة واحد. والواحد ثلاثة، ويقول: ولولا أن رأينا هؤلاء الناس بأعيننا ونسمعهم بآذاننا ونجادلهم بألسنتنا ما صدقنا أن في الوجود من يقول هذه المقالة، ومع هذا وجدنا أناسا يفرغون أنفسهم لمثل هذا، وينذرون حياتهم لذلك علق آية الله تسخيري قائلاً:
كم لدينا من مثل هذا الرجل .. وقال القرضاوي: نحن محتاجون لذلك.

مبادئ أساسية للتقريب

يرى فضيلة د. القرضاوي أن وحدة الأمة فريضة وضرورة ويعتبر ذلك مبدأ أساسياً للتقريب فيقول: إن رب هذه الأمة واحد وكتابها واحد ونبيها واحد، وقبلتها واحدة، وشعائرها واحدة، وشريعتها واحدة وآدابها ومصيرها واحد وعدوها واحد .. وقد أمر الله تعالى الأمة بالاتحاد والائتلاف، ونهاها عن التفرق والاختلاف فقال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، ونهاهم على ما يوحد كلمتهم ويجمع صفهم وهو الاشتغال بالدعوة والأمر والنهي (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، وحذرهم من الوقوع فيما أهلك الأمم من قبلهم فقال (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).

كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاتحاد والترابط والتراحم والتعاضد فيما بين بعضهم وبعض كما في الحديث المتفق عليه (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك أصابعه، وقال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) .. وهناك الأحاديث التي حثت على الارتباط بالجماعة، وان يد الله مع الجماعة، ومن شذ: شذ في النار، وان الذئب إنما يأكل من الغنم الشاردة .. وأضاف قائلاً:
كل هذه النصوص تؤكد أن وحدة الأمة فريضة لازمة، كما أنها ضرورة حاسمة، فهي فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، خاصة في عصرنا هذا.

حديث مشهور وفهم آخر

وتعرض د. القرضاوي لحديث اشتهر في كتب السنة وكتب العقائد وكتب الفرق وقال إن الناس اعتقدوا أنه حديث ثابت لا مطعن فيه، لشيوعه وشهرته، مع أن الشهرة لا تلزم الثبوت والصحة ذلك هو حديث (افتراق الأمة إلى فرق بين السبعين، كلها في النار إلا واحدة، ) وهو حديث يوحي ظاهره بأن الفرقة أبدية في الأمة، و أنها قدر مكتوب عليها لافكاك منه، ودعا إلى بحث هذا الحديث بموضوعية وحياد من ناحية ثبوته أو من ناحية دلالته إن ثبت.

وقد قام بهذا البحث بالفعل حيث ذكر رواة الحديث وقال إن التقوية بكثرة الطرق ليست على اطلاقها، فكم من حديث له طرق عدة ضعفوه، وخصوصاً المتقدمين، كما يبدو ذلك في كتب التخريج، والعلل وغيرها، و إنما قد يؤخذ بها فيما لا معارض له، ولا أشكال في معناه.
وقال كما بوجود أشكال في ذلك: في الحكم بان التفرق قدر حتمي مكتوب على الأمة لافكاك لها منه، وكذلك الحكم بافتراق الأمة اكثر مم فترق اليهود والنصارى من قبل، وبأن هذه الفرق كلها في النار إلا واحدة منها وهو يفتح باباً لأن تدعي كل فرقة أنها الناجية، وأن غيرها هو الهالك وفي هذا ما فيه من تمزيق للأمة وطعن بعضها في بعض، مما يضعفها جميعاً ويقوي عدوها عليها ويغريه بها.
وروى فضيلته أن هناك طعنا في الحديث عامة، وفي هذه الزيادة خاصة (كلها هالكة إلا واحدة) لما تؤدي إليه من تضليل الأمة بعضها لبعض، بل تكفيرها بعضها لبعض .. ثم أضاف: على أن الحديث .. وإن حسنه بعض العلماء كالحافظ ابن حجر أو صححه بعضهم كشيخ الإسلام ابن تيمية بتعدد طرقه .. لايدل على أن هذا الافتراق بهذه الصورة وهذا العدد أمر مؤيد ودائم إلى أن تقوم الساعة، ويكفي لصدق الحديث انه يوجد هذا في وقت من الأوقات، قد توجد بعض هذه الفرق، ثم يغلب الحق باطلها، فتنقرض ولا تعود أبدا، وهذا ما حدث بالفعل لكثير من الفرق المنحرفة، فقد هلك بعضها ولم يعد له وجود.

الانشغال في هموم الأمة

وذكر الدكتور القرضاوي إن شغل المسلم بهموم أمته الكبرى يعد من المبادئ الأساسية للتقريب فمما يوقع الناس في حفرة الاختلاف وينأى بهم عن الاجتماع والائتلاف فراغ نفوسهم من الهموم الكبيرة والآمال العظيمة والأحلام الواسعة .. ولا يجمع الناس شيء كما تجمعهم الهموم والمصائب المشتركة، والوقوف في وجه عدو مشترك وإن من الخيانة لأمتنا اليوم أن نغرقها في بحر من الجدل حول مسائل في فروع الفقه أو على هامش العقيدة، اختلف فيها السابقون وتنازع فيها اللاحقون، ولا أمل في أن يتفق عليها المعاصرون في حين ننسى مشكلات الأمة ومآسيها ومصائبها التي ربما كنا سببا أو جزءا من السبب في وقوعها.
وعدّد من هموم الأمة: التخلف العلمي التكنولوجي والحضاري وهم النظام الاجتماعي والاقتصادي، وهم الاستبدال والتسلط السياسي وهم التغريب والغزو الفكري والثقافي وهم العدوان والاغتصاب الصهيوني وهم التجزئة والتمزق العربي والاسلامي، وهم التسيب والانحلال الخلقي، وهي هموم بلا ريب كبيرة وثقيلة ونحتاج لمعالجتها إلى تكاتف العقول لمتفكر والعزائم لتصميم والأيدي لتنفيذ وتستغرق من الجهود والأوقات والأموال الكثير والكثير.
وعدد بعد ذلك جوانب مما يمكن أن نتعاون عليه كأمة إسلامية ربما نعرض له في رسالة أخرى إن شاء الله.

لقطات ونظرات

نشرت صحيفة كيهان العربي التي تصدر باللغة العربية في إيران خبر الزيارة العلمية للدكتور يوسف القرضاوي في الصفحة الأولى واعتبرتها زيارة هامة ووصفته بسماحة العلامة المجاهد الشيخ.

في أغلب اللقاءات العلمية كان بعض العلماء والأساتذة يتعجبون من أن د. القرضاوي تكلم في مسألة كذا، وكذا، ويقولون انه يؤيد موقفنا من القوى الكبرى، وعبر الدكتور محمد علي آذرشب مدير مركز الدراسات الثقافية العربية الإيرانية والأستاذ بجامعة طهران ورئيس تحرير مجلة رسالة التقريب عن ذلك قائلا كنا نظن أننا وحدنا نغني في سرب منفرد، ونتمنى أن نعرف أن عالماً كبيراً كالقرضاوي يقف معنا ضد هذه القوى الأميركية والصهيونية.

قال د. آذرشب نفسه وقد زار الدوحة من قبل مشاركاً في ندوة العلاقات العربية الإيرانية، التي نظمتها جامعة قطر ومركز دراسات الوحدة العربية ببيروت إنني أتوضأ حينما التقي السيد القائد خامنئي وقد توضأت للقاء الشيخ القرضاوي أيضاً اليوم!.

يقوم المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بتيسير كل السبل لإنجاح اللقاءات العلمية التي يقوم بها د. القرضاوي في طهران والتي بدأت بصورة مكثفة أمس الأول (السبت الموافق 7/6/1998م).

ويمثل كل من سماحة العلامة واعظ زاده الخراساني أمين عام المجمع نموذجا طيباً حيث خصص السيد جلال ميرأغاي ليقوم بكل أعمال التنسيق مع محمدي وكل من الشيخ زاده ويتحدثان اللغة العربية، إضافة لجهود آية الله محمد تسخيري رئيس رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية الفائقة في ذلك.

- تصويب: السيد محمد حسين الهاشمي المدير العام بالرابطة .. هذا هو اسمه وليس كما ذكرت في الرسالة السابقة محمد علي الهاشمي. فعذرا له.