د. يوسف القرضاوي

مقدمة

كل دارس أو مراقب للفكر وتطوره خلال القرن الماضي يلحظ تطور الفكر لدى المسلمين من حالة التبعية المطلقة إلى حالة الاعتزاز والمواجهة.
فقد مر الفكر الإسلامي أعني فكر المسلمين بمراحل ابتدأت بالهزيمة المطلقة أمام فكر الحضارة الغربية الغازية التي كان يمثلها في ذلك الوقت الاستعمار المتمكّن من جلّ بلاد المسلمين في المشرق والمغرب.
توهم بعض الناس المتعجلين الخاطفين للأفكار، كأنما الإسلام هو سبب تخلف الأمة، وكأن التخلف بطبيعته إسلامي، والتقدم بطبيعته غربي. فلا غرو أن بهر الغرب أفكارهم، وخطف سنا برقه أبصارهم.
ولو كان هذا صحيحاً ما سدنا العالم، وسادت حضارتنا نحو عشرة قرون، كنا فيها معلمي البشرية، وكانت جامعاتنا تستقبل الطلاب من أنحاء العالم، وكانت أسماء علمائنا أشهر الأسماء، وكتبهم هي مراجع العلم العالمية، واللغة العربية هي لغة العلم الأولى، بل الفذة في تلك العصور.

تيار التغريب

ولو كان ما ذكروه صحيحاً ما كان الغرب لعدة قرون يعيش في عصور الظلام، ولا يرى الضوء إلا من سم الخياط. فقد كان يشكو الفقر والأمية والقذارة والتفكك في كل جوانب الحياة، حتى مسته نفحة من الشرق الإسلامي، فهب من رقود، وتحرك من جمود، في حين نحن بدأنا نسلك سبيل الانحدار .. واأسفاه. لقد رأينا رجالاً كباراً سلّموا للغرب الزمام، واستسلموا لتيار التغريب، بل منهم من كانوا دعاته ومروجيه من البدء، وكان غير المسلمين أشد جرأة وأعلى صوتاً في ذلك من المسلمين، كما رأينا أمثال سلامة موسى وغيره. ثم ظهر أثناء ذلك مسلمون كان لهم نفوذهم وجاههم، مثل طه حسين ومنصور فهمي.
هناك من تبنوا فكرة الداروينية في النشوء والتطور ودافعوا عنها، وقاتلوا دونها مثل شبلي شميل في لبنان، وإسماعيل مظهر في مصر ومن تبنوا فكرة (دور كايم) في علم الاجتماع ومن تبنوا فكرة (فرويد) في التحليل النفسي.
ومن أهم هذه الأفكار التي شغلت الناس وقسّمتهم فكرة (كارل ماركس) في فلسفة المادية الجدلية، والصراع الطبقي، والفلسفة الجماعية، والتخطيط الاقتصادي المركزي. والتي قامت على أساسها الدول الشيوعية الكبرى : الاتحاد السوفييتي في الغرب والصين في الشرق، وإن كان (ماوتسي تونغ) قد أضفى على الشيوعية الصينية طابعاً خاصاً.
وقد قامت في بلادنا أحزاب وجماعات تتبنى هذا الفكر وتروج له، وتجمع الشباب عليه، وتخوض المعترك السياسي على أساسه، منهم من كانت قبلته (موسكو) ومن كانت قبلته (بكين). منهم من كان زعيمه وملهمه (لينين) ومن كان ملهمه (ماو) ومن كان ملهمه (غيفارا) وكلهم ماركسيون.
وفي مقابل الفكرة الماركسية، كانت الفكرة الليبرالية، التي تتبنى الفلسفة الفردية، وحرية الفرد الاقتصادية والسياسية، والتي كان من ثمراتها العملية الرأسمالية في الاقتصاد والديمقراطية في السياسة. والتي قامت على أ ساسها الدول المتقدمة في أوروبا الغربية، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت معظم النخب المثقفة في أوطاننا في أوائل القرن وأوسطه منقسمين بين التيارين الجديدين المتعارضين : التيار اليساري الماركسي، والتيار الليبرالي، وإن كان الليبرالي أكثر عدداً وأقوى عدة. وكلاهما غربي النشأة والجذور والوجهة، كما أن كليهما مادي الوجهة، حسّي النزعة، نفعي التوجه.

الفكر الحقيقي

أما الفكر الإسلامي الحقيقي، فكان من أوائل القرن، كأنه غائب عن الساحة إلاّ ما كان من أصوات هنا وهناك، تقاوم وتقاوم، مثل (مجلة المنار) وصاحبها محمد رشيد رضا، امتداد مدرسة محمد عبده في مصر، ومثل جماعة ندوة العلماء ومؤسستهم (دار المصنفين) في الهند، وعلى رأسهم العلامة شبلي النعماني والسيد سليمان الندوي ومثل العلاّمة عبدالعزيز الثعالبي في تونس.
وبعد مرحلة المناداة بالتبعية المطلقة وبصراحة للفكر الغربي بخيره وبشره، جاءت مرحلة أخرى، هي مرحلة التبرير، بمعنى أخذ مسلمات الفكر الغربي ثم محاولة تبريرها إسلامياً، وتمريرها لدى الأمة، بالبحث عن فتاوى لتسويقها شرعاً.
وكانت هذه في الواقع عملية تدليس أو تلبيس من إبليس، لأنه يريد منا أن نأخذ الخواجة الغربي، ونلبسه عباءة عربية، أو عمامة إسلامية.
وبعد هذه المرحلة جاءت مرحلة أخرى، هي مرحلة الدفاع عن الإسلام، والاعتذار عن الإسلام، أي اعتبار الإسلام كأنه في قفص الاتهام، وعلينا أن ندافع عنه، ونطلب له العفو والرحمة.
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الاعتزاز بالذات، والمواجهة مع الفكر المغاير، وخصوصاً فكر الحضارة المادية المعاصرة بشقيها الرأسمالي والشيوعي. وقد تجلى ذلك في تراث الدعاة الكبار في القرن الماضي، في العالم العربي، وفي باكستان والهند وإيران، وغيرها من بلاد الإسلام.
وقد تميزت هذه المرحلة، مع الاعتزاز والمواجهة، بالانفتاح والمرونة الفكرية والتسامح مع الآخر، المخالف في الدين أو المغاير في الفكر، ودعت إلى حوار وغلب فيها تيار الوسطية الذي يدعو إلى الاعتدال في فهم الدين وتنزيله على الواقع، وفي التعامل مع الآخرين.
ومن أتباع التيارين الماركسي والليبرالي من استمروا على عبوديتهم لفكرهم القديم، ومنهم من تغير إلى النقيض، وخصوصاً الماركسيين، ومنهم من تغير في السياسة لا في الفكر، فأصبح من أتباع الموقف الأمريكي، وأحسب أن منهم دعاة التطبيع المطلق مع إسرائيل في مصر وغيرها، وهم الذين عرفوا بجماعة كوبنهاغن.
ومن هؤلاء وأولئك من تحول إلى الإسلام صادقاً. من هؤلاء الدكتور منصور فهمي. ومنهم الأستاذ إسماعيل مظهر. ومنهم الدكتور مصطفى محمود. ومنهم الأستاذ خالد محمد خالد، الذي خرج على الخط الإسلامي في كتابه الشهير (من هنا نبدأ) وما تبعه من كتب عدة، ثم رجع إلى خطه الأصلي، الخط الإسلامي، وخطّأ نفسه في شجاعة نادرة، وصراحة باهرة، في كتابه (الدولة في الإسلام) وما بعده من كتب. ومنهم الدكتور محمد عمارة، والمستشار طارق البشري، والأستاذ عادل حسين، وقد كانوا في مرحلة من حياتهم تأثروا بالماركسية، بل دخل بعضهم السجن من أجلها.
وهم الآن ثلاثتهم من أقوى وأبرز الدعاة إلى الإسلام، والمدافعين عنه، كل في موقعه. بل منهم الشيخ علي عبدالرازق، الذي لم يسع إلى طبع كتابه (الإسلام وأصول الحكم) طوال حياته، ولم يتابعه بأي بحث أو مقال يؤيد الفكرة، بل نقل عنه الدكتور عمارة أنه قال لبعض المجلات عن عبارة (الإسلام رسالة روحية ولا صلة لها بالدولة أو السياسة) . إنها عبارة ألقاها الشيطان على لسانه. وقد كان في أواخر حياته يصلي وراء الشيخ الغزالي في الجامع الأزهر ويحرص على ذلك.
وكذلك تغير الدكتور محمد حسين هيكل من النزعة الفرعونية إلى النزعة الإسلامية، بل طه حسين نفسه في أواخر حياته غيره في أوائل حياته، كما يظهر ذلك في كتابه (مرآة الإسلام).
وكذلك العقّاد، لم يكن في أوائل حياته، كما كان في آخرها، فقد غدا لساناً من ألسنة الإسلام، دعوة إليه، ودفاعاً عنه. وكتب عبقرياته الإسلامية، و (الفلسفة القرآنية) و (الإسلام في القرن العشرين) و (حقائق الإسلامي وأباطيل خصومه)، و (الشيوعية والإنسانية)، و (ما يقال عن الإسلام)، وغيرها.
وأحسب أن الاستعمار لن يكون سعيداً ولا قرير العين اليوم، إذا رأى أن جهوده الطويلة المتتابعة المكثفة المخططة، لم تحقق هدفها الأساسي في تحويل أمة الإسلام عن نهج دينها، وشرع ربها، ونسخها إلى أمة أخرى، فها هي الصحوة الإسلامية تقلب الأوضاع رأساً على عقب،وترعب القوى المعادية للإسلام، في الغرب والشرق، حتى باتوا يكيدون لها كيداً، ويمكرون بها مكراً كبّاراً، والله من ورائهم محيط، (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) الأنفال : 30
لقد قلبت الصحوة الموازين، وغيرت الأفكار والأوضاع، حتى أصبح الشارع مع الحركة الإسلامية في عامة الأقطار، في مصر وفي الأردن، وفي اليمن وفي غيرها. حتى الجزائر التي استمر فيها أخبث أنواع الاستعمار، وهو الاستعمار الاستيطاني، مائة وثلاثين عاماً، تنتصر عسرياً على هذا الاستعمار، وتعود طوعاً إلى حقيقتها وذاتيتها، وتقوم فيها صحوة إسلامية لا نظير لها، تنتهي بإيصال الإسلاميين إلى أغلبية ساحقة انتخبها الشعب مختاراً لمجلسه الوطني، وإن أبى ذلك العسكريون الموالون للثقافة الفرنسية.