د. صلاح سلطان

من فيض الله على الشيخ والأمة كلها هذه المنهجية التي وهبه الله إياها، والمنهجية تعني طريقة ترتيب النصوص والأفكار، وإنزال النصوص على الوقائع، ومراعاة أصول الاستنباط اللغوية والشرعية بما يخدم المقاصد الكلية والجزئية والخاصة، ومراعاة التيسير والوسطية، واستنهاض الأمة إلى المقاصد العليا من شريعة الله تعالى، هذه بعض معالم المنهج التي تتضح في فكر شيخنا القرضاوي.

ولا شك أن هناك فرقا بين التراث في مفردات العلوم والمنهجية في التعامل مع هذه المفردات، مثل من عنده أرض واسعة وأدوات بناء كثيرة ومتعددة تصلح أن تكوِّن بناء فخما ضخما رائعا رائقا، لكنه يحتاج إلى عقل مهندس تصميم يضع كل أداة في موضعها اللائق بها، فيتم المبنى ويتحقق المعنى، فإذا بقيت المفردات على الأرض زاحمت المارة، وأرهقت العامة، وربما لا تنفع صاحبها لأنه يريد عمارة لا أدواتها.

وقلّ من العلماء -إن لم يندر- من عنده المفردات الغزيرة والمناهج الأصيلة التي يجمع بينها في سياق نادر، فيخرج بالجديد الفريد، ومن الشواهد على هذا الفرق سواء من حيث التأصيل أو التطبيق ما يلي:

يقول الله تعالى: ]لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[ [المائدة: 48]، فالشرعة أحكام تفصيلية، والمناهج منظومة فكرية تجعل للأدوات منافع صحيحة في مواضعها الكلية، وهي جزء من الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ولعل آية المائدة عن الوضوء تبدأ بالأحكام التفصيلية عن الوضوء والغسل، وترسي قاعدة منهجية، وهي: ]مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ [[المائدة:6]، وفي آيات سورة البقرة تفصيل عن أحكام الزواج والطلاق، وترسي معها منهجية: ] وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [[النساء:19]، وآيات آل عمران تتحدث عن تفاصيل غزوة أحد، وترسي منهجية الشورى: ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ [ [آل عمران: 159]، وآيات سورة الحشر ترسي منهجية: ]كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [ [الحشر:7].

وعندما تسأل الخثعمية الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الحج عن أبيها لا يجيبها بالحكم التفصيلي فقط أن هذا جائز، بل يعطيها منهج الاستنباط القياسي: "أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟، قالت: نعم، قال: اقضوا الله، فدين الله أحق بالقضاء".

والحق أن النماذج العملية التطبيقية التي تميزت بالمنهج كانت نادرة في تاريخنا الإسلامي، ومن ذلك ما يلي:

1ـ منهج ابن عباس في استنباط المعاني من القرآن؛ مثل سورة العصر، واستنتاج أن هناك نعيا من الله لنبيه، فليستعد للقاء الله، وكان هذا من إجابة الله تعالى لدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل".

2ـ منهج سيدنا عمر في استنباط الأحكام في أرض السواد والمؤلفة قلوبهم، وتوقيف حد قطع يد السارق عام المجاعة، وتوريث الأم ثلث الباقي، والعول، كل هذا كان يصدر عن منهج فريد.

3ـ جمع الإمام علي -كرم الله وجهه- بين آية الرضاع حولين والحمل والرضاع ثلاثين شهرا، وهو ما أسقط الحد بالشبهة، وكان يعبر أيضا عن منهج فريد.

4ـ ما ذكره الخليفة أبو جعفر للإمام مالك: وطّئْ للناس كتابا يتبعوا فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر وشواذ ابن مسعود، كان يعبر عن منهجية وسطية رائعة.

5ـ الأئمة الأعلام لم يكونوا أعلاما بسبب وفرة محفوظاتهم، وكثرة اطلاعهم، بل كان مع ذلك منهجية في استنباط الأحكام، وتفرد في التناول؛ مثل أبي حنيفة الذي كان إذا قاس لم يلحق، والإمام مالك والأخذ بالمصالح وإجماع أو عمل أهل المدينة، والشافعي والانتصار لأخبار الآحاد، وإفادتها العلم الظني، ووجوب العمل بها، ورفض الاستحسان: "من استحسن فقد شرع"، والإمام أحمد والعمل بقول الصحابي، وابن حزم وظاهريته المعروفة.

6- وكان للبخاري ومسلم منهجية خاصة في ضبط الرواية جعلت الصحاح تؤخذ عنهما باطمئنان وأمان لا يتوفر لموسوعات أكبر منها، كما كان للرازي منهجية في الجرح والتعديل.

7ـ لا شك أن الشاطبي كان صاحب منهجية متميزة في التوفيق بين مدرسة الشافعية والحنفية في الأصول وطرق الفكر المقاصدي.

8ـ لم يبرز الإمامان الجليلان ابن تيمية وابن القيم في تاريخنا الفقهي للثراء العلمي فقط؛ بل للمنهجية الشجاعة في تناول قضايا المذهب الحنبلي ومناقشتها، وطرح رؤى أخرى مثل الطلقات الثلاث وغيرها.

9ـ كُتب تفاسير القرآن الكريم الكثيرة، فيقول عنها جوّاد مُغْنية: "إنك تقرأ جميع التفاسير فتجدها كلها تفسر الحياة من خلال القرآن الكريم إلا تفسيرا واحدا يصنع الحياة من خلال القرآن؛ هو تفسير الظلال"؛ ولذا صار الظلال في حس ووجدان الأمة إضافة فريدة إلى علوم التفسير.

10ـ هناك الآلاف من الكُتّاب والمؤلفين والدعاة والمصلحين، لكن قوما بأعيانهم صاروا في سماء الفكر والدعوة والإصلاح ذوي قبول خاص، ليس ذلك لوفرة علمهم، بل للمناهج التي يحملونها في طرحهم؛ مثل: الندوي، والمودودي، وابن عاشور، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وحسن البنا، والغزالي، والشعراوي، والعلواني.

وتبدو براعة الشيخ القرضاوي المبكرة في الفقه في فقه الزكاة -وهو رسالته للدكتوراة- وهي دراسة استوعبت واستفاضت، ولم يكتب تاريخيا مثلها، وتتضح فيها ملكته الفقهية الفذة القوية، وانساب الشيخ كالسيل الهادر الذي يروي الصحراء الجرداء بوابل من السماء، وصار كتابه الحلال والحرام في الإسلام عَلَما عليه، وتَقَدَّمَه إلى دول شتى في العالم، وصنع الله له قبولا فقهيا في كل مكان من الأرض، وكتب في كل قضايا الفقه بأسلوب ميسر؛ في العبادات، والغناء والموسيقي، والاجتهاد، وفقه الدولة، والفقه الإسلامي، وبيع المرابحة للآمر بالشراء، وفوائد البنوك: الربا الحرام.

وبعد أن كان أصوليا (تخرج في كلية أصول الدين) -بمفهوم المصريين- صار شرعيا كأفضل ما يكون خريجو كلية الشريعة، فجمع بين مدرسة النص قرآنا وسنة والفقه الإسلامي حول النص والاجتهاد وضوابطه، وتبنى فيه منهجية وسطية صارت أحد معالمه ومآثره.

من هنا نستطيع أن نقول: إن شيخنا القرضاوي ممن رُزق المنهج السديد في تأصيل الوسطية وتحريرها وتطبيقها وتأكيدها حتى صارت علما عليه، ومن فرائد بدائعه، ومناهج تناوله، وأصول استنباطه، وطريق تخريجه، وهي –بحق- من نعم الله على الأمة عندما اشتدت عليها الغمة، وتنازع الفكرَ الإسلامي والتفكير الفقهي غلاةٌ متشددون وأغرار منفلتون، وصار الإفتاء مرتع الأهواء، وولج فيه من لا يحسنه، سواء ممن لم يرزقوا الأدوات العلمية أو المناهج الأصولية في الاستنباط، فكأن الله تعالى أراد أن يأتي الشيخ على قَدَر منه سبحانه؛ كي يقود وسط بحار التحلل والتحجر هذه السفينة من الوسطية، ولقيت قبول العلماء والأحرار ممن صفت نفوسهم عن العمالة أو الأهواء، وبقي من لم يفهم الشيخ، أو فهمه وحسده، أو غاظه أن يعود بالأمة إلى وسطية الإسلام الناصعة، فأعلنوا الحرب، وبالغوا في الأذى، ومضى الشيخ لا يلوي على شيء يدعو الله أن يدافع عنه، ويقود سفينة الوسطية بلباقة نادرة وقدرة فائقة وشجاعة باسلة وسط أمواج عالية.

ويمكن أن نورد بعضا من الخلاصات التي ساقها الشيخ كمناهج وليست تفصيلات للأحكام، فيما يلي:

1ـ التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة.

2ـ اتباع أهواء العامة لا يقل عن اتباع أهواء السلاطين.

3ـ التركيز على المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه.

4ـ التعايش بلا ذوبان، والمحافظة بلا انغلاق.

5ـ رفض الجبرية في العقيدة، والشكلية في العبادة، والسلبية في التربية، والظاهرية في التفسير، والسطحية في التفكير.

6ـ الارتباط بالأصل، والاتصال بالعصر.

7ـ الجمع بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية.

.........

* المقال منقول بتصرف عن بحث للدكتور صلاح سلطان عن الشيخ القرضاوي تحت عنوان: "التكوين العلمي والفكري للقرضاوي".