عرض/ أكرم كساب

ضمن سلسة "رسائل ترشيد الصحوة" صدر كتاب جديد للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي بعنوان "التربية السياسية عند الإمام حسن البنا". والكتاب يتضمن مقدمة وثماني دعائم تشمل منهج البنا في التربية السياسية.

ويرى المؤلف حسن البنا رجلا متعدد المواهب والقدرات، فهو عالم وداعية ومصلح ومجدِّد وقائد وزعيم وهو كذلك مُرَبٍّ من الطراز الأول.

كما أنه في نظره: كان مربِّيا بحكم الموهبة وبحكم الدراسة وبحكم الممارسة، وكانت لديه كل الأدوات التي يفتقر إليها المربِّي الناجح من البصيرة النَّيِّرة والقلب الكبير والعقل المنفتح واللسان الفصيح والوجه البشوش والفِراسة النادرة، إلى جوار العلم الواسع والخبرة الفنية والاجتماعية.

خصائص التربية عند البنا

ويرى القرضاوي أن التربية عند البنا تتسم بخصيصتين أساسيتين أولاهما التكامل، ومعناها: أنها تربية شاملة لا تقتصر على جانب دون جانب، فهي تتناول الروح والجسم، والعقل والعاطفة، والضمير والوجدان. وتعمل على تكوين الشخصية المسلمة تكوينا متكاملا.

وثانيتهما التوازن، ومعناها: أنها تعطي كل جانب من الجوانب حقَّه بلا طغيان ولا إخسار بحيث لا يطغى على غيره من الجوانب، ولا يحرمه حقه لحساب غيره.

ويرى الشيخ القرضاوي أن البنا اهتم اهتماما واضحا بالجانب السياسي.

ويُرجع المؤلف السبب في ذلك إلى أن الناس في ذلك الوقت رجلان: إما رجل دين وإما رجل سياسة، والجماعات نوعان: إما جماعة دينية وإما جماعة سياسية.

وحرام على رجل الدِّين أن يشتغل بالسياسة، كما يَحْرُم على رجل السياسة أن يشتغل بالدِّين، ومثل ذلك تَدَخُّل الجماعة الدينية في الشؤون السياسية، أو رجال السياسة في شؤون الدِّين.

وقد يتجاوز ويتسامح في تدخل رجل السياسة أو الجماعة السياسية في الدِّين، أما الذنب الذي لا يُغتفر ولا يُتسامح فيه عند الناس يومئذ فهو أن يتدخل رجل الدِّين أو الجماعة الدِّينية في القضايا السياسية!

في هذا الجو الذي وجد فيه البنا، يرى القرضاوي أنه كان من اللازم عليه أن يخوض معركة حامية الوطيس لمطاردة المفاهيم الخاطئة عن العلاقة بين الدِّين والسياسة، وكان لا بد من حرب الفكرة الخاطئة بالفكرة الصحيحة وهي "شمول الإسلام" لكل جوانب الحياة ومنها السياسة، كما دلَّ على ذلك القرآن والحديث وهَدْي الرسول وسيرة الصحابة، وعمل الأمة كلها طوال ثلاثة عشر قرنا أو تزيد.

دعائم التربية السياسية لدى البنا

ومن خلال تتلمذ القرضاوي على تراث البنا وقراءته الجيدة له، خرج على القارئ بدعائم ثمان قامت عليها التربية السياسية لدى مدرسة البنا وهي:

1- الربط بين الإسلام والسياسة

يرى القرضاوي أن البنا جاهد جهادًا كبيرًا ليعلِّم المسلمين فكرة شمول الإسلام، وبعبارة أخرى: ليُعيد إليهم ما كان مقررًا وثابتًا طوال ثلاثة عشر قرنا أي قبل دخول الاستعمار والغزو الفكري إلى ديارهم، وهو أن الإسلام يشمل الحياة كلها بتشريعه وتوجيهه: رأسيا منذ يولد الإنسان حتى يتوفاه الله. بل من قبل أن يولد وبعد أن يموت حيث هناك أحكام شرعية تتعلق بالجنين وأحكام تتعلق بالإنسان بعد موته.

وأفقيا حيث يوجِّه الإسلام المسلم في حياته الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية من أدب الاستنجاء إلى إمامة الحكم وعلاقات السلم والحرب.

ويؤكد القرضاوي بأن نتيجة هذا الجهاد كانت واضحة وهي وجود قاعدة ضخمة تؤمن بهذا الشمول وتنادي بالإسلام عقيدة وشريعة ودينا ودولة في كل أقطار الإسلام، وتراجُع كثيرين من ضحايا الغزو الفكري عما آمنوا به في ظلِّ وطأة الاستعمار الثقافي وبروز الصحوة الإسلامية على الساحة الفكرية والسياسية بصورة قلبت موازين القُوى.

وهذا جعل الجهات الأجنبية الراصدة من الغرب والشرق تعقد الكثير من الحلقات والندوات والمؤتمرات لدراسة هذه الظاهرة الإسلامية الخطيرة، وتنفق في ذلك الأموال والجهود.

وهذا أيضا ما جعل عملاء الغرب وعبيد أفكارهم يحاولون إيقاف الفجر أن يطلع أو الشمس أن تبزغ، وأن يعيدوا عجلة التاريخ إلى الوراء إلى عهد الاستعمار ليتصايحوا من جديد: لا سياسة في الدِّين ولا دين في السياسة!

2- إيقاظ الوعي بوجوب تحرير الوطن الإسلامي

ويرى القرضاوي أن تقوية الوعي والشعور بوجوب تحرير الأرض الإسلامية من كل سلطان أجنبي، وإجلاء المستعمر الغاصب عن ديار الإسلام كلها بكل وسيلة مشروعة، ابتداء بالوطن الصغير وادي النيل شماله وجنوبه -مصر والسودان- فالوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج، كانت هي الدعامة الثانية ضمن الدعائم التي قامت عليها التربية السياسية عند البنا.

ويدلل القرضاوي على ذلك باهتمام حسن البنا والإخوان في مصر بقضية بلدهم الذي يعيشون فيه، ومطالبه الوطنية التي تمثلت في جلاء الإنجليز عن مصره وسودانه ووحدة وادي النيل.

ويقول إن الإخوان عقدوا لذلك مؤتمرات كبرى في كافة محافظات مصر ومدنها الكبيرة لتوعية أبناء الشعب بمطالبه.

ويعلن الشيخ يوسف أنه لم يفهم هذه المطالب حق الفهم إلا من لسان حسن البنا، حين وقف في مؤتمر طنطا يشرحها ويردُّها إلى أصولها.

3- إيقاظ الوعي بوجوب إقامة الحُكم الإسلامي

يقرر القرضاوي بأن البنا عمل على إيقاظ الوعي والشعور بفرضية إقامة الحُكم الإسلامي إذ هو الغاية من تحرير الوطن، ذلك أن طرد المستعمر وتحرير الوطن من نِيره واستعباده ليس هدفا في ذاته إنما وسيلة لتحقيق هدف كبير هو أن تحقق الأمة ذاتها وتعيش بعقيدتها ولعقيدتها.

ويذكر من كلام البنا ما يؤكد هذا فيقول: وقد أكدَّ حسن البنا هذا المعنى الأساسي في كل رسائله ومقالاته ومحاضراته، ومن ذلك قوله: المطالبة بحكم القرآن وإقامة دولة الإسلام، محاربًا بذلك الفكرة العلمانية الخبيثة الدخيلة، فيقول في رسالته إلى الشباب: نريد الحكومة المسلمة التي تقود الشعب إلى المسجد، وتحمل به الناس على هدي الإسلام من بعد كما حملتهم على ذلك بأصحاب رسول الله أبي بكر وعمر من قبل.

ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومة لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يُستمد منه، ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها.. وسنعمل على إحياء نظام الحُكم الإسلامي بكل مظاهره وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام.

4- إيقاظ الوعي بوجوب إقامة الأمة المسلمة

وفي أثناء كلام القرضاوي عن هذه الدعامة التي فحواها السعي إلى إقامة الأمة المسلمة التي تضمّ شعوب الإسلام في الوطن الإسلامي أو العالم الإسلامي في رابطة واحدة تحت راية الإسلام, ذكر المؤلف أن شيخه البنا أشار إلى ذلك في الأصل الأول من (الأصول العشرين) –منوها بجانب الدولة والوطن– إلى جانب له أهميته وخطره وهو ما يتعلق بالأمة فالإسلام دولة ووطن أو حكومة وأمة.

5- إيقاظ الوعي بوجوب الوحدة الوطنية والعربية والإسلامية

يرى القرضاوي أن هذه الدعامة تتمة للدعامة الرابعة: فكلتاهما فريضة دينية، وضرورة دنيوية.

ويدلل القرضاوي على ذلك بأن الإمام "الشهيد" ظل ينادي بالوَحدة الإسلامية، ويدعو إلى التفكير بجِد لإعادة الخلافة، وينتهز كل فرصة لتأكيد هذه المعاني وتثبيتها في عقول الإخوان وقلوبهم حتى يشبَّ عليها الصغير ويَهْرَم عليها الكبير.

ويشير إلى أنه لا تنافي بين الدعوة إلى الوَحدة الإسلامية، والدعوة إلى الوَحدة الوطنية أو الوَحدة العربية، إذا فُهِم كل منها الفهم السليم ووُضِعَت في موضعها الصحيح.

ويدلل على ذلك بقول البنا: إن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص منها أن يعمل كل إنسان لخير بلده وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم أكبر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها وأن يقدِّم في ذلك الأقرب فالأقرب رحما وجوارا.

حتى إنه لم يُجِز أن تُنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر إلا لضرورة إيثارًا للأقربين بالمعروف، فكل مسلم مفروض عليه أن يسدَّ الثغرة التي هو عليها وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعا لمواطنيه لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين.

6- الترحيب بالنظام الدستوري والنيابي

ويبرز القرضاوي دور البنا في توعية الإخوان بتحديد الموقف من النظام الدستوري أو النيابي بصفة عامة، ومن الدستور المصري بصفة خاصة.

ويشرح القرضاوي مقصود البنا من شعار "القرآن دستورنا": بأنه هو المرجع الأعلى الذي نردُّ إليه كل أمورنا، فلا يُقبل أي شيء منها إذا عارض القرآن، فهو الذي يعلو ولا يعلى عليه ويَحكم ولا يُحكم عليه.

ولا يمانع البنا -كما يرى المؤلف- من وضع المسلمين نظاما لأنفسهم أو دستورا ينظم العلاقات الأساسية بين الأمة والدولة أو بين الحاكم والمحكوم، ويبين الحقوق ويفصِّل الحريات ويحدِّد الواجبات ويوزِّع السلطات ويضع النقاط على الحروف بالنسبة لنظام الحكم وعلاقاته الداخلية والخارجية، ولكن بشرط واحد وهو: ألا يتعارض مع عقائد الإسلام البيِّنة وشرائعه المُحكمة وقِيَمه الموجِّهَة، وأن يسير في ضوء تعاليمه. ولا مانع أن يقتبس من الأمم الأخرى في إطار هذا التوجُّه.

ولهذا لم يعترض علماء الإسلام في أي بلد مسلم على فكرة الدستور في حدِّ ذاتها، ولكن قد يعترضون على بعض ما يشتمل عليه الدستور من مواد مخالفة للنصوص والقواعد الإسلامية الثابتة، أو لقصوره أو تقصيره عن النص على أشياء لا بد منها مثل أن يكون الإسلام هو مصدر التشريع أو المصدر الأساسي للتشريع.

7- التنديد بالأحزاب والحزبية

من دعائم التربية السياسية عند البنا تنبيهه وتأكيده على معارضته للأحزاب المصرية القائمة في ذلك الوقت، وما جرَّته على البلاد بسبب تفرقها واختلافها وتنافرها وذلك ثمرة للنظام الحزبي البغيض عنده.

هذا -والكلام للقرضاوي- مع أنه يُقِرُّ النظام الدستوري والنيابي ويراه متفقا مع الإسلام، كما وضحنا ذلك من قبل.

ويؤكد المؤلف أن من عناصر الفكر السياسي الأساسية عند الإمام البنا: تنديده بتعدد الأحزاب المصرية واختلافها، وتهافتها على كرسي الحكم واستماتتها في الوصول إليه ولو بالتقرب إلى المستعمر الذي يحتل البلاد ويُذل العباد.

ويرى القرضاوي أن عدم إقرار البنا بالحزبية يرجع إلى سبب واضح عنده وهو أنها تؤدي إلى تفرقة الأمة -كما هو الواقع المشاهد- وهو يدعو إلى الاتحاد والائتلاف، كما تدل على ذلك آيات القرآن وأحاديث الرسول الكريم.

وبخاصة أن الأحزاب في مصر قد بلغ بها الاختلاف والتدابر والتخاصم حدا أمسى ينذر بخطر على الوطن، ولا يستفيد منه إلا المستعمر المتربص.

8- حماية الأقليات والأجانب

أما الدعامة الأخيرة من دعائم التربية السياسية عند البنا فيرى القرضاوي أنها: التركيز على حسن الصلة بغير المسلمين عموما ما داموا مسالمين للمسلمين، وعلى المواطنين منهم خصوصا ممَّن يعيشون في دار الإسلام.

ويؤكد المؤلف هنا أنه لم يجد البنا من خلال حديثه عن الوَحدة: يتحدث عن الوَحدة بين المسلمين والأقباط المسيحين، إذ كانت العلاقة بين الطرفين فيما يبدو طيبة، ولم تَثُر هذه الفتنة الملعونة -فتنة الطائفية- في ذلك الوقت بل كانت الوَحدة هي النغمة السائدة، وكانت الصلات الحسنة تجمع بين المسلمين والمسيحين بصفة عامة.

ولكن القرضاوي يذكر القارئ بأن البنا كان على علاقة طيبة بكثير من الأقباط في مصر، وكثيرا ما زار كنائسهم وجامل رؤساءهم.

ويشير إلى أن البنا اتخذ في اللجنة السياسية العليا بالمركز العام للإخوان -وخصوصا إِبَّان احتدام القضية الوطنية- اثنان من زعماء الأقباط المرموقين وهما وهيب دوس ولويس فانوس، وأن البنا عندما كان يحضر المؤتمرات الوطنية الكبرى التي كانت تعقد في عواصم المديريات (المحافظات) في مصر لشرح المطالب الوطنية التي تحدَّدت في جلاء الإنجليز ووحدة وادي النيل، كان حريصا على أن يصطحب أحد إخواننا الأقباط المتخصصين في قضية قناة السويس.

خاتمة البحث

وفي خاتمة البحث يرى القرضاوي من الإنصاف وحتى يكون تقويمه للإمام البنا عادلا: ينبغي أن نضع هذه الآراء في إطار زمنها وبيئتها وظروفها، فقد يتشدَّد الأستاذ في أمور نحن نتساهل فيها اليوم بمقتضى التطور العالمي واقتراب الناس بعضهم من بعض وحاجة العالم بعضه إلى بعض، وتغيُّر صفة بعض الدول من دول استعمارية ظالمة للمسلمين إلى دول حليفة أو شريكة للمسلمين.

ويقول المؤلف: كما أن الأستاذ البنا في بعض ما كتبه كان في عنفوان الشباب بما فيه من حماس للحق وثورة على الباطل واندفاع في المواجهة.

ــــــــــــــ

- نقلاً عن الجزيرة نت