د. يوسف القرضاوي

نعني بالديقراطية في هذا المقام: الديمقراطية السياسية. أما الديمقراطية الاقتصادية، فتعني (الرأسمالية) بما لها من أنياب ومخالب، فإننا نتحفظ عليها. وكذلك الديمقراطية الاجتماعية التي تعني (الليبرالية) بما يُحمّلونها من حرية مطلقة، فإننا كذلك نتحفظ عليها.

إن الرأسمالية (القارونية) مرفوضة عندنا، لأنها تقوم على فكرة الرأسمالي الذي يقول عن ماله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78]، أو كما قال قوم شعيب له: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87]، والفكرة الإسلامية أن الإنسان مستخلف في مال الله، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وأن المالك الحقيقي للمال هو الله، والغني أمين على هذا المال، وكيل عن مالكه الحقيقي، فملكيته مقيدة، عليها تكاليف وواجبات، وتقيدها قيود في الاستهلاك والتنمية والتوزيع والتبادل. وتفرض عليها الزكاة التي عدت من أركان الإسلام، كما يُمنع المالك من الربا والاحتكار والغش والغبن والسرف والترف والكنز وغيرها[1].

وبهذه الوصايا والقوانين وأمثالها، نقلّم أظفار أخطار الرأسمالية، حتى نحقق العدالة الاجتماعية، ونرعى الفئات الضعيفة في المجتمع من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ونعمل على حسن توزيع المال {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7]. وبهذا يسعى الاقتصاد الإسلامي إلى الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء، فيقرب الشقة بين الفريقين ما أمكن ذلك.

والليبرالية التي تعني (الحرية المطلقة) مرفوضة أيضا عندنا، فليس في الوجود كله حرية مطلقة، كل حرية في الدنيا لها قيود تحدها، من هذه القيود: حقوق الآخرين، ومنها: حق الفرد نفسه، ومنها: قيود دينية تتعلَّق بحق الله سبحانه، ومنها: قيود أخلاقية.

إن البواخر في المحيطات الواسعة مقيدة في سيرها بخطوط معروفة، تحددها الخارطة و(البوصلة). ومثل ذلك الطائرات في جو السماء، لا تذهب يمنة ويسرة، كما يشاء قائدها، بل له خط سير يجب أن يتبعه ولا يحيد عنه.

الذي يعنينا من الديمقراطية هو الجانب السياسي منها، وجوهره أن تختار الشعوب من يحكمها ويقود مسيرتها، ولا يفرض عليها حاكم يقودها رغم أنفها. وهو ما قرَّره الإسلام عن طريق الأمر بالشورى والبيعة، وذم الفراعنة والجبابرة، واختيار القوي الأمين، الحفيظ العليم، والأمر باتِّباع السواد الأعظم، وأن يد الله مع الجماعة، وقول الرسول لأبي بكر وعمر: "لو اتفقتما على رأي ما خالفتكما"[2]، إذ سيكون صوتان أمام واحد.

ومن حق كل امرئ في الشعب أن ينصح للحاكم، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، مراعيا الأدب الواجب في ذلك. وأن يطيعه في المعروف، ويرفض الطاعة في المعصية المجمع عليها، أي المعصية الصريحة البينة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

والذي يهمنا اقتباسه من الديمقراطية هو ضماناتها وآلياتها التي تمنع أن تزيف وتروج على الناس بالباطل. فكم من بلاد تحسب على الديمقراطية، والاستبداد يغمرها من قرنها إلى قدمها، وكم من رئيس يحصل على (99%) تسعة وتسعين في المائة، وهو مكروه كل الكراهية من شعبه.

إن أسلوب الانتخابات والترجيح بأغلبية الأصوات، الذي انتهت إليه الديمقراطية هو آلية صحيحة في الجملة، وإن لم تَخْل من عيوب، لكنها أسلم وأمثل من غيرها[3]. ويجب الحرص عليها وحراستها من الكذابين والمنافقين والمُدلِّسين.

أما دعوى بعض المتدينين: أن الديمقراطية تعارض حكم الله، لأنها حكم الشعب، فنقول لهم: إن المراد بحكم الشعب هنا: أنه ضد حكم الفرد المطلق، أي حكم الديكتاتور، وليس معناها أنها ضد حكم الله، لأن حديثنا عن الديمقراطية في المجتمع المسلم، وهو الذي يحتكم إلى شريعة الله[4].

...........

[1] انظر: كتابنا (دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي) نشر مكتبة وهبة بالقاهرة، ومؤسسة الرسالة في بيروت.

[2] رواه أحمد في المسند (17994) عن عبد الرحمن بن غَنم، وقال محققوه: إسناده ضعيف لضعف شهر ابن حوشب، وحديث عبد الرحمن بن غَنم عن النبي مرسل، والطبراني في الأوسط (7/212) عن البراء ابن عازب، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك وهو متروك (9/38).

[3] من عيوب الأكثرية البرلمانية: أنها قد لا تكون معبِّرة عن أغلبية حقيقية، فقد تُعرض قضية يُطلب التصويت عليها في المجلس، فإذا كان معها 51% من الحاضرين، فقد رجحت وأقرت. فإذا نظرنا إلى الواقع: وجدنا الحزب صاحب الأغلبية في البرلمان، قد صوت على مشروع القرار في الحزب، وقد اختلف الأعضاء فيه، ولكن نجح القرار في الحزب بأغلبية 51%، ونظام الحزب يلزم أعضاءه جميعا -الموافقين والمخالفين- بالتصويت في المجلس مع أغلبية الحزب. ومعنى هذا في النهاية: أن المصوتين الحقيقيين لا يزيدون عن الربع كثيرا، فإذا أدخلنا اعتبار الغائبين، كانت النسبة أقل وأقل، فإذا تصورنا أن النواب أنفسهم فازوا بنسبة 51% من مجموع الناخبين، وربما كانوا 30% أو أقل: عرفنا قيمة التمثيل الحقيقي للشعب. ومع هذا لا يوجد بديل أدنى إلى القبول من هذا!

[4] انظر: فصل (الإسلام والديمقراطية) من كتابنا (من فقه الدولة في الإسلام) صـ130- 146 طبعة دار الشروق. القاهرة.