الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.

(أما بعد)

فمن فضل الله على هذه الأمة: أنها أمة خالدة، لأن الله ختم بها الأمم،كما ختم بنبيها النبيين، وبقرآنها كتب السماء.

ومن رحمة الله بها أنه يبعث لها في كل حين من يجدد لها دينها، فيجمعها من شتات، ويحييها من موات.

قد يكون هذا المجدد فردا موهوبا يمنحه الله من نفحاته، ويفيض عليه من بركاته، ما يعينه على أداء مهمته الكبرى في الإيقاظ والإصلاح والتجديد، فيضيء العقول، ويحرك القلوب، ويشد العزائم، ويدفع بالأمة إلى الأمام.

وقد يكون المجدد مدرسة فكرية أو دعوية أو حركية، تمثل (الطائفة المنصورة) التي صحت بها الحديث أنها لا تزال في هذه الأمة قائمة بأمر الله، حتى تقوم الساعة.

ولا يماري دارس منصف أن حسن البنا كان من المجددين لهذا الدين، سواء نظرنا إليه فردا أم نظرنا إلى دعوته باعتبارها مدرسة متميزة بأهدافها ووسائلها ومناهجها ورجالها، وآثارها في حياة الأمة.

ومن درس سيرة حسن البنا، علم أن الرجل لم يشتغل بتأليف الكتب الكبيرة، كما يفعل العلماء المصنفون، فقد شغله تأليف الكتائب عن تأليف الكتب، ورأى أن إنشاء الرجال الذين يقومون بنصرة هذا الدين هو واجبه الأول، وإذا وجد هؤلاء الرجال قاموا بالتأليف والتصنيف وملأوا الدنيا علما.

ومع هذا كتب حسن البنا مقالات كثيرة جدا ـ في مختلف مجالات الثقافة الإسلامية ـ في مجلات شتى، ولا سيما في السنوات الأولى للدعوة، حتى حدثني الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور محمد فتحي عثمان: أنه وجد الأستاذ البنا يكتب في بعض الأحيان مقالتين في الأسبوع الواحد.

وكان الدكتور فتحي قد أخذ على عاتقه أن يجمع ما استطاع من الوثائق للبدء في كتابة تاريخ الإخوان، ليقوم بهذا الفرض الذي لم تقم به الجماعة وهو أحق بذلك وأهل، فهو عالم وباحث ومؤرخ وداعية، وقد جمع من ذلك كمًّا كبيرا، وذلك في فترة ما بعد الخروج من السجن الحربي سنة 1956م، ثم جاءت محنة 1965م فجاء رجال المباحث وأخذوا كل هذا التراث الهائل، ووضعوه في جوالات، ولا يدري أحد ماذا فعلوا به.

وكم تمنيت من قديم أن يجمع تراث الإمام البنا، وينشر في صورة (مجموعة أعمال كاملة) كما نشر تراث رفاعة الطهطاوي، والسيد جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده وغيرهم.

وأذكر أني منذ أكثر من ربع قرن في أوائل السبعينيات في القرن العشرين، لقيت الأخ الكريم الأستاذ سيف الإسلام حسن البنا، في مدينة لندن، وقلت له: يا أستاذ سيف، إن عليك مسؤولية جسيمة، نحو تراث والدك، وعليك أن تسعى إلى تجميعه من مظانه المختلفة، وستجد الإخوان جميعا أعوانا لك في ذلك، وهذا عمل ليس بضائع، بل هو مربح في الدنيا، مربح في الآخرة. وعيب على جماعة كبيرة مثل الإخوان أن تهمل تراث مؤسسها ولا تنشره حتى اليوم، وقد مضى على استشهاده نحو ربع قرن.

وقد طمأنني الأخ سيف الإسلام أنه شرع في هذا الأمر، ومعه من يعاونه في ذلك، وبشرني أنه عن قريب سترى ثمرات هذا العمل.

ومرت السنوات وراء السنوات، وكلما قابلت سيف الإسلام أذكره بما وعد به، فيعدني خيرا. ولكن لا أرى ثمرا.

ومنذ ثلاثة أعوام قال لي: أبشرك أن تراث الإمام الشهيد أصبح كله مجموعا على (الكومبيوتر). قلت له: بشرك الله بالخير، فابدأوا إذن بنشره لينتفع به الناس. وحتى الآن لم أر نتيجة عملية لهذا الجهد.

ولهذا سرني أن يقوم ابننا النابه الناشط الشيخ عصام تلِّيمة بجمع ما تيسر له من تراث الإمام الشهيد، الذي عني به منذ سنوات، ونشر من قبل ذلك بعضه مثل: أحاديث الجمعة، ونظرات في التربية والسلوك.

واليوم يقوم بنشر تراث البنا حول القرآن وعلومه وتفسيره، وقد جمعها من مصادر شتى من كتابات الأستاذ عليه رحمة الله ورضوانه.

ولا ريب أن حسن البنا كان من أقوى الناس صلة بالقرآن الكريم، حفظا واستظهارا له، وتلاوة لآياته، وفهما وتدبرا لمعانيه، كأنما المصحف مائدة ممدودة بين يديه، يأخذ منها ما يشاء بيسر وسهولة، أو كأنه شجرة قطوفها دانية له، يقطف منها ما يريد. فهو رجل القرآن حقا. وقد سماه صحفي أمريكي في مقالة عنه: (الرجل القرآني) فأصاب كبد الحقيقة.

ولقد خدم الأخ عصام هذا التراث القرآني والتفسيري للإمام البنا، بما قدمه من دراسات نافعة، وما علق به من تعليقات مفيدة، مثل ترقيم الآيات، وتخريج الأحاديث، ونحو ذلك مما يحتاج إليه القارئ المعاصر، خصوصا إذا كان من طلاب العلم.

وربما خالفت إمامنا البنا في بعض آرائه حول القرآن، مثل تشدده في منع ترجمة القرآن الكريم، مع مسيس الحاجة إليها في عصرنا، إذا قام بها من يحسنها مع شروطها وضوابطها. وإذا تركناها نحن فلن يتركها الآخرون. وقد وجدنا المبشرين والمستشرقين من قديم معنيين بترجمة القرآن، وهم لا يملكون أدواتها. وقد قام أحد تلاميذ حسن البنا، وهو الأخ البحاثة الدكتور حسن المعايرجي، بتجميع مكتبة كبيرة من هذه الترجمات من عدة لغات، ورجا المسلمين عامة، وعلماءهم خاصة، أن يعتنوا بترجمة (تفسير القرآن) وليس ترجمة ألفاظ القرآن. كما طلب إلى المسلمين أن ينشئوا (هيئة عالمية للقرآن) تقوم على خدمته وتفسيره وترجمته.

كما أخالف شيخنا وإمامنا في مسألة العلاج بالقرآن، وإخراج الجن من الإنسان، فإن الله لم يسلط الجن على الإنسان إلى حد ركوب الإنسان والدخول في جسده والتصرف فيه، فالإنسان أكرم عند الله من ذلك، وقد قال القرآن على لسان الشيطان: {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ}[إبراهيم:2٢].

وقد بالغ بعض المعاصرين، حتى فتحوا (عيادات) للعلاج بالقرآن، وهو ما لم يفعله الصحابة ولا التابعون ولا المسلمون في خير القرون. بل اتجهوا إلى الطب القائم على السنن والأسباب، حتى جاء من يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدله على الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي المشهور.

ولا غرو أن ارتفع صرح علم الطب في حضارة الإسلام، وتفنن فيه المسلمون علما وعملا، وصنفوا فيه كتبا كانت مراجع للعالم كله عدة قرون.

وقد علمنا الإمام البنا رضي الله عنه في أصوله العشرين: أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

ولا يسعني إلا أن أقول لتلميذي وسكرتيري الخاص الشيخ عصام: شكر الله لك جهدك وعملك المتميز في خدمة هذا التراث المبارك، وتقديمه للمسلمين في صورة مشرقة، وجزاك خيرا عما قدمته للأمة وللإمام، وللعلم والإسلام. ونفع الله به كل من قرأه ونشره وعمم النفع به، ونفعنا معهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الفقير إلى عفو ربه

يوسف القرضاوي

الدوحة في: شوال 1422هـ -  يناير 2002م