د. يوسف القرضاوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد،،

كنت أحب أن يكون موقف علماء الأزهر الشريف – وبخاصة كبارهم- على موقف واحد من الأحداث الكبيرة، التي تجري في أرض مصر العزيزة، ولا سيما ان رؤيتهم تنبثق من مصدر واحد، هو مصدر المعرفة الإسلامية، المتمثل في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وهو مصدر يجمِّع ولا يفرق، ويبيِّن ولا يلبِّس، ولكني وللأسف الشديد، فوجئت وإخواني في الاتحاد لعالمي لعلماء المسلمين، وهو اتحاد شعبي خالص، لا يخضع لسياسة أي دولة، ولا تحركه إلا أحكام الإسلام، وتوجيهاته الصريحة، التي تبين الرشد من الغي.

فوجئت بموقف شيخ الأزهر، ومن يوافقه من كبار العلماء، وهو موقف أنكره علماء الإسلام، وأنكرته وإخواني معهم.

ومن هنا كانت وقفاتي الفقهية، والفكرية، والدعوية، من مشيخة الأزهر، ومن كل من يعاونها على الباطل لا على الحق، وعلى الظلم لا على العدل، وعلى الفساد لا على الصلاح. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ  } [البقرة:205 ]، { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [المائدة:64].

ولابد لي أن أبين موقفي للناس، قياما بواجب العلماء، وإقامة للحجة، وإبراء للذمة.

موقفي من الثورات العربية الأخيرة:

لقد كان موقفي في غاية الوضوح من ثورة مصر، التي انطلقت في 25 يناير 2011م ، من قبل الثورة، ومن بعد الثورة، كما هو ثابت ومسطور، بالوثائق والأسانيد، في كل ملفات الثورة المصرية.

وكان هذا موقفي من كل الثورات العربية: من قبل ثورة مصر، ومن بعدها. فقد أيدت ثورة تونس من أول أيامها، كما أيدت ثورة ليبيا، وثورة اليمن، حتى نصرها الله جميعا على أنظمتها ورجالها {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ *فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:10-14 ].

كما أيدت ثورة سوريا من أول يوم قامت فيه، وجابهت جبار سوريا ( بشار الأسد) بموقفي، وظن أن مثلي يمكن أن ينقاد لجبروته، ويسير في ركابه. ولكني دائما كنت قائما في وجه الطغاة المستكبرين، الجلادين لشعوبهم، وكنت دائما في صف الشعوب المقهورة، التي تُقاد إلى غير ما تريد، بل يقودها الجبابرة إلى ما يرون، ولو كان فيه حتفها.

ولا عجب أن يكون موقفي من الانقلاب العسكري المصري الأخير على الشرعية، وعلى الدستور، وعلى الحياة الديمقراطية: موقف المنكر المعاند، والمعارض بكل قوة وصراحة لهذا الاتجاه؛ لأن هذا الاتجاه محرم شرعا، لا يجيزه قرآن ولا سنة، ولا فقه، ولا أي مذهب من مذاهب الفقه الإسلامي، يقوم على أساس الكتاب والسنة، ويفتي على أساسه علماء راسخون مخلصون، لا يُشترون بالأموال ولا بالمناصب، ولا يُخَوَّفُون فيخافون، أو يُطَمَّعون فيطمعون، كالذين أخذ الله عليهم الميثاق، وأمرهم ألا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. والدنيا كلها ثمن قليل {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } [النساء:77 ].

موقف صديقنا الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر:

وكنت أحسب أو أود، أن يكون هذا موقف كل شيوخ الأزهر وأساتذته الكبار – أو أكثرهم على الأقل – وعلى رأسهم صديقنا شيخ الأزهر الموقر: الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، إذا عرض عليه مثل هذا الأمر، أن ينتفض انتفاضة العالم الغيور، الذي يخاف على شعبه: أن تهدر حريته التي اكتسبها بعد عشرات السنين، ويخشى قبل ذلك ربه، ويخاف على دينه، ويقول لمن عرضوا عليه هذا الأمر: هذا لا يجوز شرعا. فهذا هو المعلوم لنا من كل ما درسناه: أن من عُقدت له الرئاسة أو الإمارة أو المسؤولية العامة، فهذا عقد شرعي ملزم، بينه وبين الشعب، مؤيد بالقرآن والسنة، ويجب على الجميع رعايته وحفظه، والدفاع عنه من كل ناحية، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [المائدة:1 ]. وهو عهد يجب الوفاء به، ككل عهود الله المصونة المحفوظة، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91 ].

{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } [ النحل:92].

{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77 ]

ولهذا جاء القرآن الكريم آمرًا بطاعة أولي الأمر منا طاعة ملزمة، وإذا اختلفنا في شيء يجب أن يُرد إلى أصول الشرع المستمدة من القرآن والسنة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء:59 ]. ومثل ذلك طاعة الدساتير التي تتفق عليها الأمة، التي لا تنافى منافاة صريحة ما جاء به الأصلان  اللازمان والملزمان للأمة، وهما الكتاب والسنة. وقد قال عليه الصلاة والسلام: " المسلمون عند شروطهم"[1]

وجاءت أحاديث الرسول الصحاح المستفيضة، تأمرنا بطاعة من اختارته الأمة، برضاها وبيعتها، وصحت بذلك الأحاديث عن عدد من الصحابة، وفي مواقف متعددة، ومنازل متنوعة، لا تدع مجالا لمتردد، أو فرصة لمتشكك.

أذكر منها هنا هذه الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم أو أحدهما على الأقل، ورواها غيرهم من الأئمة في سننهم، ومسانيدهم، ومصنفاتهم ومعاجمهم، وأجزائهم، ومن ذلك:

" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فوا ببيعة الأول فالأول"[2]

"اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" عن أنس بن مالك.[3]

"من رأى من أميره شيئا يكرهه، فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا، فيموت، إلا مات ميتة جاهلية" عن ابن عباس.[4]

وفي لفظ: " من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية".[5]

" من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه".[6]

"السمع والطاعة حق على المرء المسلم، فيما أحب وكره، مالم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة" عن ابن عمر.[7]

"إنما الطاعة في المعروف" عن عليّ.[8] ومن أمر بمعصية: يرفض الطاعة في المعصية، ولكنه لا ينقض البيعة العامة.

كنت أود أن يقف شيخ الأزهر أمام العسكر، الذين عرضوا عليه فكرة الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب، أن يردهم عما عزموا عليه، ويذكرهم بالآيات الزاجرة، والأحاديث الناهية والآمرة، وبأقوال أهل العلم التي تحذر كل التحذير من الوقوع في مثل هذه الهاوية. وأن البلاد قد جاهدت بكل أهلها: رجالا ونساء، وشيوخا وشبابا، وفتيات وأطفالا، من كل سن، وفي كل مستوى، حتى وصلت إلى هذه المؤسسات السياسية المحترمة، التي شارك الشعب المصري في انتخابها، بإرادته الحرة، وأصبح كل مصري يفخر بها، بعد أن مرت عليه عهود وعقود، ضاعت فيها حريته وإنسانيته وكرامته، وأكلت فيها حقوقه كلها.

ولا يجوز لأحد أن يختطف منه هذه المكاسب العظيمة، بعد أن أصبحت جزءا من كيانه وحياته. كنت أود أن يقف شيخ الزهر هذا الموقف المعارض لرغبات الحاكم، أو الراغب في الحكم، ليعلم الناسُ أن العلماء قادرون أن يقولوا: لا، لما يعتقدون أنه شر وظلم، وأن رؤوسهم بأيدهم، لا بأيدي الحكام، وإن ظلموا.

وقد قال لي بعض الإخوة: إنك بالغت كثيرا، حين وضعت ثقتك في الدكتور أو الشيخ الطيب، ووقفت بجانبه ولو كان ضدنا،، وأيدته في منصبه، ونسيت أنه كان عضوا في الحزب الوطني المنحل، وأنه كان في لجنة السياسات مع جمال مبارك، وأنه قدم شباب الإخوان ظلما إلى المحاكمة، من أجل مسرحية قدموها في جامعة الأزهر، التي كان مديرا لها حينئذ، واعتبرها من الأعمال الإرهابية!

قلت لهم: نعم، أنا أدري ذلك كله، ولكني حين قارنته بغيره من المرشحين لمشيخة الأزهر، وجدته خيرا منهم، وقد عرفته من قبل حين كان زميلا لي معارا من الأزهر إلى كلية الشريعة في قطر، التي كنت عميدا لها، وكان يعمل فيها أستاذا للعقيدة والفلسفة الإسلامية، وكان على علاقة طيبة بي، وقد ظل في قطر عدة سنوات.

وحين رشحه الشيخ الطنطاوي: شيخ الأزهر السابق، لمنصب (مفتي مصر) وقابلته حين قدمت إلى مصر في بعض المؤتمرات، قال لي: إن أول ما أرجع إليه مجلداتك الثلاثة من كتابك (فتاوى معاصرة) إذ لم يكن قد طبع الجزء الرابع منها.

وكان عندي بعض حسن الظن في مشايخ الأزهر وعلمائه، فكنت أعتقد أن أحدهم – وخصوصا إمامهم الأكبر- إذا عرض عليه أمر يرى فيه خطرا على الأمة، ولا يقره صريح الدين: أن يقول بملء فيه: لا. وسيجد كثيرا من علماء الأزهر يرددونها معه، ويقفون إلى جانبه منتصرين له.

كنت أتمنى أن أرى شيخًا للأزهر يقف موقفا حرا، يقول فيه للنظام الحاكم: لا، بصريح العبارة، ورزقه على الله. ولكني للأسف الشديد فوجئت بما خيب أملي، وضيع رجائي، وكأن مهمة كل شيخ للأزهر أن يقول في كل المواقف: نعم، نعم، نعم! ولا حول ولا قوة إلا بالله!

كنت أرى أن الرجل – وقد أصبح الإمام الأكبر، شيخ الأزهر- سيصلب عوده، ويقوى عضده، ويقف مواقف شيوخ الأزهر، الذين سمع عنهم، وسمعنا عنهم، من أمثال الشيخ المراغي، الذي قال عن الحرب العالمية الثانية الدائرة في العالم: إنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل! هذه الكلمة زعزعت أركان الإنجليز وزلزلتهم، وهم يحتلون البلاد.

وما كان بعد ذلك من تصريحات للشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ الخضر حسين، وأمثالهما.

لكن خاب أملي كله، في ضوء مواقفه، التي أعلنها في هذه الآونة.

(1) متابعة المشهد المصري

ولا ينكر من يتابع المشهد المصري، ما آلت إليه الأمور في هذا البلد العظيم، الذي ذكره القرآن باسمه  خمس مرات، وقد دخله إبراهيم ، وأقام به يوسف، وهاجر إليه أبوه يعقوب وبنوه، ونشأ فيه موسى وهارون، و مرت به مريم ابنة عمران، وابنها رسول الله وكلمته عيسى، عليهم السلام.

مصر بلد الأزهر، وقلعة الدعوة، ودار الثقافة الإسلامية، ومنارة لغة الضاد، وقلب العروبة النابض، وحصن الإسلام الصامد، وذخيرة الأبطال، وموطن الرجال، الذين صدوا موجات الصليبيين في حطين، وقهروا جحافل التتار في عين جالوت، وكانوا خير مدد للإسلام والمسلمين.

لقد سعد كل المصريين، وسعد معهم كل العرب والمسلمين ؛ بل وكل أحرار الدنيا، بثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، ووجدوا فيها خلاصا من نير العبودية، وكسرا لقيد الإذلال، الذي عاناه الشعب المصري عقودا وسنين عددا، بلغت ستين عاما، فقال الجميع: آن للمصريين أن يستردوا كرامتهم ، وحُق لهم أن يحصلوا على حريتهم!

غير أن يد الشر، ومعاول الهدم، وأصحاب الضمائر الخربة، والأنفس المريضة، والقلوب الميتة، الذين يفضلون مصالحهم على مصالح البلاد، ويؤثرون أهواءهم على حقوق العباد، أخذت تضمر شرا، وتزرع شوكا، وتمكر بهذه التجربة الوليدة، وهذا الحلم الباسم، حتى تحقق لهذه الطغمة ما خططوا له، وأجهضوا ذلك الوليد الشرعي، واستبدلوا به آخر، جاء سفاحًا بين آلة بطش دموي، ومعارضة نفد رصيدها، ولم تستطع أن تنجح في استحقاق ديمقراطي واحد. وزعموا أن أكثرية المصريين اجتمعوا في صعيد واحد، هو ميدان التحرير، وضخموا عدد الحاضرين بملايين، حتى قيل: إنهم عشرون مليونا أو أكثر، شكوا إلى الجيش أن يخرجهم مما هم فيه، بالانقلاب على الشرعية التي جاءت بها صناديق انتخاب حر، لا ريب فيه، ولم يمضِ على رئيسه المنتخب أكثر من سنة، لم يعينوه فيها بموقف مؤيد، أو بكلمة طيبة، فقرروا  عزل الرئيس، وإلغاء الدستور، وحل مجلس الشورى.

وحتى تكتمل الحبكة الانقلابية، جاءوا بشيخ الأزهر، وبابا الكنيسة، وممثلٍ لفصيل إسلامي ، لم يخبر السياسة وأغوارها، ولم يعرف دهاليزها وأسرارها، فظن الخير في غير أهله، إن لم يكن طامعًا في مغنم، أو خائفا من مغرم!

مشاهد سبعة محزنة:

ثم خرج إلينا هذا المسلسل المقيت، الذي حوى في بدايته سبعة مشاهد، يندى لها الجبين، وتبكي منها الأعين، علاوة على مشاهد أكثر إيلاما، نشير إليها لاحقا.

المشهد الأول: عزل الرئيس المنتخب: محمد مرسي، الذي انتخبه الشعب بإرادته الحرة، والانتخاب بمثابة بيعة في أعناق كل من شارك في هذا الانتخاب، يجب الوفاء بها، ثم إخفاؤه في مكان غير معلوم حتى الآن.

والمشهد الثاني: تعطيل الدستور الذي رضيه الشعب المصري، واستفتي عليه، ووافق بأغلبية 64%، وهي أغلبية لا نظير لها، والذي بُذل في سبيل إعداده الأوقات الطوال، من لجنة منتخبة، تمثل غالبية أطياف المجتمع المصري، والتي حرص أعضاؤها على التوافق لا المغالبة.

والمشهد الثالث: إلغاء مجلس الشورى المنتخب، وهو أحد المؤسسات الرئيسية في الدولة.

والمشهد الرابع: تعيين رئيس من قبل قائد الانقلاب العسكري، يدين له بالولاء والطاعة، يأتمر بأمره، وينزجر بنهيه، ولا يقدم بين يديه بكبير أو صغير، ولا يحرص على لقائه أو التواصل معه أحد. إنما جاء به ليكون واجهة مدنية مخادعة.

والمشهد الخامس: تعيين وزارة تجمع جبهة الإنقاذ، مع رموز الحزب الوطني المنحل!!

والمشهد السادس: حملة من الاعتقالات تنال رموز العمل السياسي الشرفاء بمختلف توجهاتهم، منهم الدكتور سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب ورئيس حزب الحرية والعدالة، والأستاذ حازم أبو إسماعيل رئيس حزب الراية، والأستاذ خيرت الشاطر نائب مرشد الإخوان المسلمين، والأستاذ مهدي عاكف المرشد السابق، والدكتور رشاد بيومي، ثم المهندس أبو العلا ماضي رئيس حزب الوسط، و نائبه الأستاذ عصام سلطان ، وغيرهم كثير وكثير. كما اعتقل كثير من الضباط الذين يخافون من توجههم الإسلامي؛ خشية أن ينضموا إلى ميدان رابعة أو ميدان النهضة. وأعقب فض الاعتصام اعتقالات واسعة في صفوف جماعة الإخوان المسلمين، وقادة التحالف لدعم الشرعية، ومنهم المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع.

والمشهد السابع:  يضاف إلى ذلك إغلاق القنوات الفضائية الإسلامية، أو الحرة، وهي قنوات كانت تعمل في عهد مبارك نفسه ، وحجب الصحف المعارضة للانقلاب، بل ومنع المقالات الحرة الجريئة للشرفاء والمخلصين من أبناء الوطن، مع التعتيم الإعلامي، والتشويه المتعمد، والتحريض الآثم على كل من لم يركع لقادة الانقلاب ودعاة الحلول الأمنية.

هذه صورة الوضع الحالي في مصر أضعه بين يدي وقفاتي مع شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب.

المشيخة تكليف لا تشريف

أولا: أحب أن أشير إليك يا فضيلة شيخ الأزهر أن هذه المكانة التي بوأك الله إياها: تكليف لا تشريف، وأن لها ضريبة لابد أن يقوم بها من تولى هذا المنصب، وارتقى إلى هذه المنزلة.

لقد كان شيخ الأزهر يمثل أعلى هيئة إسلامية في العالم، كان الاحتلال يخشى فتاويه وقراراته، وكانت الدول العظمى تترقب بياناته وتصريحاته، لما يمثله هذا المنصب من تقدير واحترام واصطفاف من عموم المسلمين، فكانت غضبته غضبة لكل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتوجيهاته محل اعترافهم وتأييدهم ومناصرتهم، فكان واجبك يا شيخ الأزهر أن تكون شيخا لكل المسلمين، فضلا أن تكون شيخا لكل المصريين، وليس لفئة منهم.

ثانيا: إن التدخل في أمور السياسة والحكم ينبغي أن يكون له ضوابطه وأطره، وينبغي أن يكون عن إحاطة وعلم، وأن يرجع فيه إلى شرع الله، لا هوى الأنفس، وأن يرد إلى أقوال الأئمة، لا إلى البطالين والمفسدين .. لا أن يناديك فصيل فتهرع إليه، ويبث لك باطلا، فتتلقفه وتجعله من المسلمات، دون رجوع إلى مصادر، ولا مشاورة مع أهل الاختصاص.

إن لم يكن لك علم بالواقع وبالمكايد السياسية، والدسائس الحزبية، وما يفعله كل فريق ليشيطن الفريق الآخر، وما هي ردود الأفعال في الشارع، وموازين القوى في المجتمع، وما يؤول إليه الأمر بعد اتخاذ قرارات متسرعة، لا تستند إلى حق، ولا تقوم على شرع، ولا تمثل الضمير الجمعي للأمة .. إن لم يكن لك نصيب من إدراك هذه المناكفات السياسية التي تموج موجا، وتلك المؤامرات الحزبية، فحري بك أن تتبين، وألا تنقض بيعة في عنقك يسألك الله تعالى عنها يوم القيامة، وألا تتحمل آثام دماء تسفك، وأرواح تزهق، وحريات تقمع، وأحرار يبطش بهم.

كان ينبغي ألا تلوث عمامة الأزهر، ولحية شيخه، بمساندة هؤلاء، الذين أثبتت الأيام القليلة الماضية فساد طوياتهم، وسوء مكرهم، وظمأهم نحو السلطة،  وسعيهم إلى سدة الحكم عبر دماء الشهداء، وأشلاء الأحرار .

أكتب إليك يا شيخ الأزهر؛ مؤمنا بأن التواصي بين المسلمين: التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والتواصي بالمرحمة، من الفرائض الأساسية التي ألزم بها القرآن، وبأن المسلمين ليس فيهم من هو أصغر من أن يوصِي، ولا أكبر من أن يوصَى، فلا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها.

فالنصيحة واجبة في شرع الإسلام، كما في حديث تميم الداري عند مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

أكتب إليك مذكرا بوصية أمير المؤمنين عمر لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما:"لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك اليوم، وهديت فيه لرشدك: أن تراجع الحق فإن الحق قديم، وإن الحق لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ".

أكتب إليك وأنا أعلم أن رصيد الإيمان في قلبك، وآيات القرآن في صدرك، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في فؤادك، وأقوال أئمة الأمة في ذاكرتك، ستأبى عليك حتى ترجع، وتخاصمك حتى تنزع.

يا شيخ الأزهر أذكرك بإثم من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، لا بموقف واضح مساند للظلم، ولا مؤيد للباطل بخطبة ، جُعلت غطاء لأعمال لا يرضى الله تعالى عنها، ولا رسله المصطفون، ولا ملائكته المقربون، ولا عباده المؤمنون.

أكتب إليك مستنكرا انفرادك بهذا الأمر الجلل، دون مشورة إخوانك من أهل العلم، في هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلامية، وغيرهم من العلماء الصادقين، وما أكثرهم في الأمة لمن أراد أن يستعين بهم، والله تعالى يقول: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } [الشورى:38 ]  وقال سبحانه لنبيه {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } [آل عمران:159].

وفي الأثر: " ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار".[9]

وعن علي رضي الله عنه : من استبد برأيه هلك ، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها.

وما أصدق قول بشار:

إذا بلغَ الرأيُ المشـورةَ فاستعـنْ        برأي نصيحٍ أو نصيحة حازمِ

ولا تجعل الشُّورَى عليكَ غضاضةً        فإن الخوافِـي قـوةٌ للقوادمِ

(يتبع)

ـــــــــ
[1] رواه أبو داود في الأقضية (3594)، والدارقطني (2890) ، والحاكم (2309)، كلاهما في البيوع، عن أبي هريرة، وصححه الألباني في الصحيحة (2915) وغيرها.

[2] متفق عليه: رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3455 ) ومسلم في الإمارة  (1842 ) من حديث أبي هريرة.

[3] رواه البخاري ، في الأذان (693)، وأحمد ( 12126)، في مسند أنس.

[4] متفق عليه: رواه البخاري في الفتن ( 7054)، ومسلم في الإمارة (1849).

[5] متفق عليه: رواه البخاري في الفتن ( 7053)، ومسلم في الإمارة (1849).

[6] رواه مسلم  في الإمارة (1852)، من حديث عرفجة.

[7] متفق عليه: رواه البخاري في الأحكام (7144)، ومسلم في الإمارة (1839).

[8] متفق عليه: رواه البخاري في الاحكام (7145) ، ومسلم في الإمارة (1840).

[9] رواه الطبراني في الأوسط (6627)، عن أنس بن مالك.