كتب فضيلة الشيخ القرضاوي هذا المقال في 18 يونيو 1998 عقب وفاة فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي..

لقد فقدت الأمة الإسلامية بموت الشيخ محمد متولي الشعراوي عَلمًا من أعلامها وكوكبًا من كواكب الهداية في سمائها، فقدت رجلًا عاش عمره في خدمة العلم وخدمة القرآن وخدمة الإسلام، وموت العلماء لا شك مصيبة على الأمة، خصوصًا إذا تكرر فقدهم واحدًا بعد الآخر. وقد فقدنا في هذه الفترة عددًا من هؤلاء النجوم، فقدنا الشيخ الغزالي، والشيخ خالد محمد خالد، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة.

وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهّالًا فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".

لقد قال الشاعر قديمًا بعد أن مات أحد الرجال الأتقياء: ولكن الرزية فقد حر  **  يموت بموته خلق كثير

فكيف إذا كان هذا المفقود أحد العلماء الربانيين الذين تركوا وراءهم الكثير من العلم الزاخر وتراثًا من التفسير الباهر للقرآن الكريم!

لقد رحل عنا رجل القرآن وهو الشيخ الشعراوي، فلا شك أنه كان أحد مفسري القرآن الكبار، وليس كل من قرأ القرآن فهمه، ولا كل من فهم القرآن غاص في بحاره وعثر على لآلئه وجواهره، ولا كل من وجد هذه الجواهر استطاع أن يعبر عنها بعبارة بليغة، ولكن الشيخ الشعراوي كان من الذين أوتوا فهم القرآن ورزقهم الله تعالى من المعرفة بأسراره وأعماقه ما لم يرزق غيره، فله فيه لطائف ولمحات وإشارات ووقفات ونظرات استطاع أن يؤثر بها في المجتمع من حوله، وقد رزق الله الشيخ الشعراوي القبول في نفوس الناس؛ فاستطاع بأسلوبه المتميز أن يؤثر في الخاصة والعامة، في المثقفين والأميين، في العقول وفي القلوب، وهذه ميزة قلما يوفق إليها إلا القليلون الذين منحهم الله تعالى من فضله.

ترك الشيخ الشعراوي القرآن مفسرًا في أشرطة في التليفزيونات العربية وقد فسر أكثر القرآن. عندما لقيته في شهر رمضان الفائت، قال إنه بقي عليه نحو ثلاثة أجزاء وأقل. وسألت الله تبارك وتعالى أن يمد في عمره حتى ينتهي من هذا التفسير، ويبدو أن القدر لم يمهله حتى ينهيه، وقد كتب هذا التفسير أيضًا. فمن تلاميذ الشيخ من يقومون بإعداد هذا التفسير مكتوبًا لينشر جزءًا بعد آخر. كما ترك الشيخ الشعراوي كتبًا أخرى في موضوعات إسلامية وفتاوى في موضوعات شتى.

اتفق الناس مع الشيخ الشعراوي واختلفوا معه، وهذه طبيعة العلم والعلماء، لا يمكن أن يوجد عالم يتفق عليه الناس، كل الناس، ومن في الناس يرضي كل نفس ـ وبين هوى النفوس مدى بعيد كما قال الشاعر. وقديما قالوا "رضا الناس غاية لا تدرك"، والله تعالى يقول {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود:118-119) قال كثير من المفسرين "ولذلك" أي للاختلاف خلقهم؛ لأنه حين خلقهم منح كلا منهم حرية العقل وحرية الإرادة، وما دام لكل منهم عقله الحر وإرادته الحرة؛ فلا بد أن يختلفوا، ولقد اختلف الناس من قبل على الرسل والأنبياء، واختلفوا على المصلحين والعظماء، وقال علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه: هلك فيّ اثنان، محب غال، ومبغض غال، وهذه طبيعة الحياة والناس.

كان للشيخ نزعته الروحية الصوفية الظاهرة، وهناك من يعادون التصوف. وكان للشيخ آراء معينة في الفقه وفي غيره لا يوافقه عليها الآخرون، مثل رأيه في زراعة الأعضاء، فكان لا يوافق على ذلك. وكان الشيخ مسالمًا لا يرضى بمواجهة الحكام، ويأخذ الأمور بالأناة والتدرج، وهناك أناس يريدون أن يأخذوا كل شيء بالقوة وبالمواجهة؛ فلابد أن يخالفوا الشيخ رحمه الله.

ولكن مهما اختلف الناس مع الشيخ الشعراوي؛ فلا يمكن أن يختلفوا في قيمته وفي قدره وفي دوره في الدعوة إلى الله وإلى الإسلام، وإلى مخاطبة الناس بلغة عصرهم وباللغة التي يفهمونها. وصدق الله العظيم إذ يقول {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم:4)، ومما أغضب الناس على الشيخ الشعراوي تلك الفترة التي ولي فيها وزارة الأوقاف، وكما قال الشاعر قديمًا "إن نصف الناس أعداء من ولي الأحكام" هذا إن عدل، والناس حساسون في هذه القضايا، خصوصًا في عصرنا الذي استبد فيه المستبدون، فمن عمل مع هؤلاء حمل معهم أوزارهم. ولكن لا نستطيع أن نقول إلا أن الشيخ الشعراوي كان أحد الدعاة والهداة لهذه الأمة.

الشعراوي أستاذي

ولقد عرفت الشيخ الشعراوي وأنا طالب في المرحلة الثانوية، فقد درسنا حينما جاءنا مدرسًا للبلاغة في معهد طنطا، وتسامعنا نحن الطلاب أن جاء الشيخ الشعراوي، وهو مدرس عظيم وشاعر عظيم، أما تدريسه فقد كان فعلًا مدرسًا جذابًا، كان يستطيع أن يوصل المعلومة إلى طلابه، بطريقته بالإشارة والحركة وضرب الأمثلة وغير ذلك، وأما شعره فكان شعرًا مطبوعًا وكان شاعرًا مبدعًا، وأذكر له قصيدة لا أذكر مطلعها، وانما أذكر آخرها وكانت قصيدة رائعة: كل دنيا تبنى على غير دينٍ  **  فبناءٍ على شفيرٍ هار

وقد ذكَّرته بهذا البيت عندما لقيته في شهر رمضان الماضي في دبي، وقد حضرت الاحتفال بتكريمه في دبي، حينما دعتني لجنة الجائزة الدولية لجائزة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي للقرآن الكريم ولتكريم الشخصيات الإسلامية، وكان الشيخ الشعراوي هو الشخصية الإسلامية لعام 1417هـ، ولما قيل لي ذلك؛ قلت لهم إن من حق الشيخ الشعراوي عليّ أن احضر الاحتفال بتكريمه.

وقد قلت كلمة في تكريمه وسُر الشيخ حينما رآني أبلغ السرور وفرح وارتاح لمجيئي، ودعا لي كثيرًا حين عرف أني جئت لأشارك في تكريمه، وهو أهل أن يُكرّم، والمفروض فينا نحن المسلمين أن نكرم علماءنا الأفذاذ من أمثال الشعراوي والغزالي وغيرهما.

ضرورة احترام العلماء

وأنا أعيب على الإسلاميين أنهم لا يكرمون علماءهم ومفكريهم وأدباءهم كما يفعل ذلك العلمانيون والماركسيون، الذين يضعون هالات ضخمة على رجالهم، ولكننا لا نفعل ذلك مع رجالنا حتى نفقدهم.

ولا أستطيع ونحن نودع الشيخ الشعراوي إلا أن أنشد قول الشاعر:

ذهب الرجال المقتدى بفعالهــم  **  والمنكرون لكل فعل منكر      

وبقيت في خلق يزين بعضهم  **  بعضًا ليدفع معورٍ عن معــور

إن من حق علمائنا أن نكرمهم ونقدرهم ونقتبس من ضيائهم ونأخذ العلم عنهم، وننتهز هذه الفرصة لنتربى على أيديهم. ولكن أجيالنا الجديدة للأسف لا تفعل ذلك، ولا تعرف قيمة العالم إلا حينما تفقده، وليس أمثال الشيخ الشعراوي بالكثيرين، بل هم القليل والأقل من القليل (بل إني افتح عيني حين افتحها على كثير ولكن لا أرى أحدًا) لا أرى في الساحة من يعوّض الشيخ الشعراوي أو الشيخ الغزالي..

وعلينا نحن المسلمين أن نهيئ من شبابنا من يسد الثغرة ويلبي حاجة الأمة، وإلا فإن الأمة كلها آثمة إذا خلت ساحتها من أمثال هؤلاء الرجال الذين يعلمون الناس الخير، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير"، لقد كان الشيخ الشعراوي من معلمي الخير للناس وأعظم الخيرات هو القرآن.. وفي الحديث الصحيح "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".

إننا ونحن نقف مودعين لهذا الرجل العالم الرباني والذواقة الإيماني، وأحد المربين الذين نوروا القلوب بعلم الإسلام، وبهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربط الناس بالله وحشدهم في ساحة هذا الدين، إننا حينما نقف هذه الوقفة؛ لا يسعنا إلا أن ندعو الله تبارك وتعالى أن يغفر للشيخ الشعراوي، ويتقبله في الصالحين، ويجزيه عن الأزهر وعن العلم وعن القرآن وعن الإسلام وأمته خير ما يجزي به العلماء العاملين والدعاة الصادقين والأئمة المجاهدين، ونسأله أن يعوضنا عنه خيرًا، وأن يجعل في هذا الجيل من يخلفه في علمه وعمله ويقوم بواجبات الدعوة إلى الله.

لقد رحل الشيخ الشعراوي في وقت كانت الأمة أحوج ما تكون إليه من أجل إنقاذ الأزهر مما يراد به من إضعاف التعليم الديني والجور عليه، وكان يقف على رأس جبهة معارضة قوية للحيلولة دون ذلك. وقد وعده المسؤولون في مصر أن يحققوا له طلبه في تطوير القسم العلمي ما شاؤوا أن يطوروه، والعناية بالقسم الأدبي الذي يخرج علماء أصول الدين، وهم خلاصة الأزهر الذي يعد لتخريج الأجيال المرجوة للأمة، والتي تتفقه بالدين وتنذر قومها إذا رجعوا إليها.

وإننا لنرجو أن يفي المسؤولون للشيخ بعد وفاته بما وعدوه في حياته.