دعوة من الجمعية الإسلامية في أستراليا:

في أثناء السنة الدراسية لسنة 1987م: جاءتني دعوة من الجمعية الإسلامية في أستراليا، من الأخ المهندس النشيط أحمد توفيق وإخوانه في مدينة «ملبورن» لحضور مؤتمر إسلامي يعقد في هذه المدينة في شهر يوليو - على ما أذكر - ويشارك فيه عددٌ من العلماء والدعاة المرموقين، ويتناول قضايا معاصرة تهم المسلمين في أستراليا، وألح الإخوة علي ألا أتأخر عن المشاركة، وأن من حق المسلمين في هذه القارة أن يكون لهم حظ منك، كما كان لسائر القارات... إلى آخر ما قالوا، واتصلوا بي وكرروا الاتصال، حتى استجبت لدعوتهم.

والحقيقة أني كنت حريصًا على زيارة أستراليا، فهذه فرصة لي، ومن الواجب عليّ ألا أفوّتها. وإن كان عيب توقيتها: أنها تصطدم مع موعد ملتقى الفكر الإسلامي السنوي في الجزائر، الذي أصبحت ملتزمًا أدبيًا بحضوره كل عام.

الترجيح عند تزاحم الواجبات:

ولكن عندما تتزاحم الواجبات، لا بدّ من الترجيح وفق معايير كل إنسان، وأولوياته. وقد رجّحت زيارة أستراليا على ملتقى الجزائر، لأن ملتقى الجزائر يعوّض بغيره، وهذه قد لا تعوض، ولأن هذه هي المرة الأولى وربما تكون الأولى والأخيرة لبُعد المسافة بيني وبين أستراليا.

عدم الرفيق وطول الطريق:

وكانت أسفاري في جُل تلك السنين أقوم بها وحدي بلا رفيق معي، على الرغم من أن العرب قالوا في أمثالهم من قديم: الرفيق قبل الطريق. كما أن كثيرًا من إخواني ومشايخي قالوا: لا ينبغي أن تسافر، وليس معك مرافق. ولكن الرفيق يحتاج إلى تذكرة، وهي باهظة الثمن، فمن يدفعها؟ لهذا كان مما يقلقني في مثل هذه الرحلة: طول الطريق، وعدم الرفيق! وأضف إليه أمرًا ثالثًا، وهو: فقدان الدليل!

ولقد قدر الله لي أن أذهب إلى أستراليا من مدينة «لندن» فقد كان عندي هناك اجتماع مجلس أمناء «مركز أوكسفورد» للدراسات الإسلامية، وبعد الاجتماع، عزمت على الرحيل إلى «هونج كونج» لأبيت هناك ليلة، وفي اليوم التالي، أمتطي طيارة «الكاتي باسفيك» إلى مدينة ملبورن بأستراليا.

رحلة 14 ساعة مليئة بالمتاعب:

وأحسب أنني أخذت من لندن الطائرة «السنغافورية» إلى «هونج كونج»، ولكنها من مطار «جات ويك»، وكانت درجة واحدة، وكانت شديدة الزحام، وبرغم أني استعنت بأدعية السفر المأثورة، واستعذت بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد، وسألت الله أن يصحبني في سفري، ويخلفني في أهلي، كانت هذه الطائرة جلستها متعبة، ورحلتها مرهقة، ونام الناس من حولي، ولم أستطع أن أنام إلا خطفات، لا تريح المتعب، ولا تطمئن القلق. وأنا ممن لا يحسنون النوم في الطائرات مثل كثير من الأصدقاء، فكيف بمثل هذه الطائرة المزحومة المكظومة؟ المهم أنه بعد (14) أربع عشرة ساعة مليئة بالمتاعب، وصلت إلى «هونج كونج». وهنا وقعت في مطب لم يكن على البال.

مفاجأة في مطار هونج كونج:

فقد رتَّب لي الإخوة من أستراليا من ينتظرني في مطار «هونج كونج» عند وصولي، وهو أخ يعرف العربية ويعرفني، وقد نسيت اسمه. وكان من المفترض أن أجده منتظرًا قدومي بمجرَّد وصولي.

ولكني نزلت من الطائرة، وتسلمت الحقيبة، وخرجت، لأتلفت يَمنة ويَسرة، فلم أجد أحدًا، فوقفت مدة حتى تعبت، ثم رأيت أن هناك أكثر من طابق للانتظار، فسحبت عربتي التي تحمل حقيبتي، ونزلت إلى تحت وانتظرت قليلًا، ثم صعدت إلى فوق، وانتظرت قليلًا، حتى تعبت أو كدت. وقلت: قدر الله وما شاء فعل، لعل شيئًا ألّم بالأخ المكلّف بالانتظار، فأخّره من حيث لا يحتسب. وقد قال الشاعر:  تأنّ ولا تعجل بلومك صاحبا     لعلّ له عذرًا وأنت تلوم!

وكان الذي يؤلمني ويحزّ في نفسي: أنني أشبه بالغريق، الذي لا يحسن العوم، ولا يجد السبّاح الذي ينقذه.

مشكلة اللغة:

ومشكلتي هي اللغة! وما أضعف الإنسان الذي لا يعرف لغة يتفاهم بها مع الناس كالإنجليزية، وما أعجزه!! ما كان أغباني حين لم أستمر في تعلم الإنجليزية، وقد كنت متفوقًا فيها! ها أنذا اليوم أقف حائرًا تائهًا لا أستطيع أن أفعل شيئًا. وما عندي من بضاعة قليلة في الإنجليزية لا يسعفني لأتحادث مع الناس. وأخيرًا قررت أن أستخدم ما عندي من كلمات إنجليزية محدودة، لأسأل عند أقرب فندق لأنام فيه هذه الليلة، ثم أعطيهم التذكرة الموصلة إلى «ملبورن» ليهيئوا لي السفر بعد ذلك.

ظهور الأخ المكلف باستقبالي فجأة:

وبينما أنا في هذا التفكير، إذا بالأخ المكلف باستقبالي يظهر فجأة، ويتأسف غاية التأسف على تأخيره، معتذرًا إليّ بكل أساليب الاعتذار، وبعد أن لمته وشدّدت عليه في أول الأمر، لم يسعني إلا أن أقبل منه. وأنا رجل هيِّن ليِّن، أعفو وأسامح وأقبل العذر، وقد وصف الله رسوله عليه الصلاة والسلام بقول: {فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ} [آل عمران: 159]. وقد قال بعض السلف: المؤمن يلتمس المعاذير، والمنافق يطلب العثرات.

وأخذني الأخ إلى الفندق المقرّر النزول فيه، وظلَّ معي إلى أن ذهبنا في المساء إلى المسجد، لألتقي بالإخوة في «هونج كونج»، وألقي فيهم درسًا، ثم أعود إلى الفندق لأنام. وفي صباح اليوم التالي، تجوَّلت جولة في المدينة، حتى يأتي موعد قيام ا لطائرة، الذاهبة إلى أستراليا. وقد حرصت على زيارة محل عرفته قبل ذلك، يبيع لوحات المناظر الطبيعية التي أهواها، واشتريتُ بعضها بالفعل، وهي صور زيتية رائعة ليس فيها صورٌ للإنسان ولا للحيوان.

طائرة الكاتي باسفيك إلى ملبورن:

وفي الموعد المقرَّر ركبت الطائرة «الكاتي باسفيك» إلى ملبورن، ومدة الطيران (9) تسع ساعات، مضافة، إلى (14) السابقة، لتكون مدة هذه الرحلة (23) ثلاثًا وعشرين ساعة، وهي أطول رحلة شبه متصلة قمتُ بها في حياتي.

ولكن الطائرة في هذه المرة، كانت غاية في المتعة والروعة، وتوفير الراحة، ولا سيما الركاب الدرجة الأولى، الذين كانوا يدللونهم تدليلًا. فكانت الدرجة الأولى من طابقين، كنت في أعلاهما، وكانت كراسيها  غاية في السعة من كل جانب، والإعانة على النوم لمن أراد، وعلى الكتابة لمن شاء، أما الطعام والشراب، فهما أنواع وألوان، فيها مجال للاختيار والانتقاء، ليطلب كل امرئ ما يشتهي.

فكانت هذه الرحلة المرتبة إلى أستراليا، تعويضًا عن تلك الرحلة القاسية من لندن. وكثيرًا ما تشجَّعني هذه الرحلات الطويلة على إخراج ورقي وقلمي من حقيبتي، لأبدأ الكتابة. إذ كيف أقضي تسع ساعات، إن لم أستعن فيها بالقلم؟ سأحاول ما استطعت أن أنام بعض الليل، ولكن عندي وقت يمكنني أن أستفيد منه للكتابة. وخصوصًا أني لست من الذين يشاهدون الأفلام التي تعرض في الطائرات. فما لي رغبة فيها، ولا صبر عليها.

الوصول إلى ملبورن وانعقاد المؤتمر:

وفي صباح اليوم التالي، وصلت إلى مدينة «ملبورن» في قارة أستراليا، التي أزورها لأول مرة. وكان الأخ أحمد توفيق ورفاقه في انتظاري، وقد حضر معظم المدعوين إلى المؤتمر، والباقون في طريق الوصول. وقد وجدت الجو في أستراليا على عكس الجو في بلادنا وفي أوربا، فقد كنا نحن في عزّ الصيف أو قل: في أواخره، وكانوا هم في عز الشتاء، أو قل في أواخره أيضًا، والجو بارد، والأمطار تهطل بغزارة. فنحن في الجانب الآخر من الأرض، صيفنا شتاؤهم، وشتاؤنا صيفهم. وفي هذا تبادل المصالح بين العباد. فكم تأتينا في قلب الشتاء فواكههم الصيفية، وكم تأتينا في وقت الصيف منتجاتهم الشتوية، ولله في خلقه شئون.

وقد أقيم المؤتمر في ملبورن، ولم أعد أذكر موضوع المؤتمر، ولا الحضور فيه، وقد شارك فيه من مصر ومن أمريكا، ومن غيرهما. ولا أذكر إلا الأخ العالم القرآني اللغوي الداعية المعروف الدكتور عبد الصبور شاهين من مصر، والأخ العالم القرآني اللغوي الداعية الدكتور جمال بدوي من أمريكا. وكم سُررت بوجوده، لأني وجدته خير من يترجم عني إلى الإنجليزية، لقدرته الفائقة فيها، ولثقافته الإسلامية القوية، وتمرسه بالدعوة إلى الإسلام بين الأمريكان والكنديين. ولقد استمرّ المؤتمر ثلاثة أيام ثم انفض.


د. عبد الصبور شاهين

مساجد قديمة مهجورة:

وبعد مؤتمر ملبورن، واللقاءات الخاصة بالعاملين للدعوة الإسلامية فيها، زرت بعض المدن الأخى التي نسيت اسمها، وبعضها متميز بأغلبية تركية ... ومن الغرائب: أني وجدت في بعض المدن «مساجد قديمة» ليس حولها عمران، ولا يصِّلي فيها أحد. ولما سألت عنها، قالوا لي: هذه مساجد بناها الجيل الأول من المسلمين، الذين حضروا إلى هذه البلاد، وكانوا من «الأفغان» الذين حرصوا على إنشاء مساجد يقيمون فيها شعائر دينهم، ويجتمعون فيها لصلوات جماعتهم وجمعهم. بقيت المساجد أبنية وجدرانًا، وليس فيها مصلون. فقد جاء هذا الجيل من الأفغانيين المسلمين المتمسكين بدينهم، ولم يكن معهم من مقوِّمات البقاء على هذا الدين شيء، لا معهم عائلاتهم وزوجاتهم، ولا معهم علماؤهم وموجِّهوهم. فبقى الدين ما بقي هذا الجيل، ثم ذهب وذهب الدين معه.

كانوا في غالبهم شبانًا وعزَّابًا، فاضطروا إلى أن يتزوجوا من الأستراليات، وأنجبوا منهم بنين وبنات، ولم يكن لديهم من العلم والثقافة ما يلقنونه لذريتهم ويثقفونهم به، وهم مشغولون بأعمالهم وكسب رزقهم، فنشأ الأولاد على ما تلقنه لهم أمهاتهم، فما أسرع ما ذابوا في هذا المجتمع المسيحي، بحكم ديانة الدولة المكتشفة لأستراليا والفاتحة لها، وهي بريطانيا، حامية المسيحية البروتستانتية. ومثل هذا الجيل الأول، الذي ذهب إلى أمريكا اللاتينية «الأرجنيتين» وغيرها، فإن هذا الجيل ذاب في ذلك المجتمع، كما يذوب الملح في الماء، ولم يعد له وجود إسلامي، حتى جاءت أجيال أخرى.

إلى سيدني:

وبعد تطواف في عدّة مدن، كان لا بد لنا من أن نذهب إلى «سيدْني» المدينة الأم، والعاصمة الكبرى، وفيها أكبر مجموعة إسلامية، وفيها المساجد والمدارس والمؤسسات الإسلامية. وفيها خطبت الجمعة في جامعها الكبير، الذي يخطب فيه أشهر الدعاة هناك، الشيخ تاج الدين الهلالي، وألقيت عدّة محاضرات ودروس في أماكن مختلفة. كما حضرت عدّة لقاءات عامة وخاصة.

الخلاف بين الأقليات الإسلامية:

وقد وجدت المسلمين - كالعادة - مختلفين شيعًا وأحزابًا، على أن كل ما حولهم يوجب عليهم أن يجتمعوا ولا يتفرقوا، وأن يتوحّدوا ولا يختلفوا، وألّا يتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم. ولقد رأيت بعيني ولمست بيدي: أنّ كل الأقليات في الدنيا تتقارب وتتضام وتتلاحم فيما بينها، لتحافظ على كيانها وحقوقها في مواجهة الأكثرية، إلا الأقليات الإسلامية للأسف الشديد، فهي دائمًا على خلاف، وأبدًا في تطاحن، مع أن كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأحكام شريعتهم، ناهيك بضرورة وجودهم ومصيرهم المشترك كلها تناديهم أن يعملوا على توحيد الكلمة، كما يؤمنون بكلمة التوحيد.

إنَّ الاتحاد يقوِّي القلة، والاختلاف يضعف الكثرة. وقد قال تعالى: {وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103]، {وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ} [آل عمران: 105]. وقال رسولهم: «لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا»(1). وقال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا». وشبك بين أصابعه(2). حدثتهم في هذه المعاني، وركزت عليها، وخصوصًا مع العلماء الذين يقومون بالتوجيه والإرشاد للجماعة المسلمة هناك، ومنهم الشيخ تاج الدين الهلالي، وهو عالم أزهري مصري أمسى له شأن بينهم، ثم أمسى بعد ذلك مفتيًا لهم.

إلى مدينة «بيرث»:

وبعد أيام في سيدني، ذهبت إلى مدينة «بيرث»، وهي في الطرف الآخر من أستراليا، وقد استغرقت الرحلة - على ما أذكر - نحو خمس ساعات، وهي قريبة من حدود إندونيسيا. وفيها الأخ المسلم النشيط عبد الله مجر، وهو مصري يعيش هناك من زمن، وقد أنشأ مؤسسات ومدارس تعمل لحفظ أجيال المسلمين. وقد بقيت فيها عدة أيّام، ألقيت فيها عددًا من المحاضرات والدروس، وعقدت فيها بعض الاجتماعات وزرت فيها بعض المؤسسات.

الانشغال بهموم المسلمين ومشكلاتهم:

والمهم أني في خلال هذه الرحلة التي امتدت ما يقرب من أسبوعين، لم يتح لي فيها أن أزور حديقة من الحدائق، أو متحفًا من المتاحف، أو أشاهد مَعْلَمًا من المعالم التي يذهب الناس إليها الزائرين، فقد كان وقتي مشغولًا بهموم المسلمين، ومشكلاتهم المتراكبة التي تحتاج إلى حلول، وأسئلتهم المجتمعة التي تحتاج إلى أجوبة، وحسب وقتي أن يتَّسع ليسهم ببعض هذه الأجوبة والحلول. وربما أجد في ذلك ما يعوضني عن كل نزهة أو فسحة يتطلع إليها الناس هنا وهناك.

إلى إندونيسيا:

كانت خطتي أن أعود من غير الطريق الذي ذهبت منه؛ لأمر على إندونيسيا، وخصوصًا أني قريب من حدودها. وإندونيسيا لها حقٌّ علينا، باعتبارها أكبر بلد إسلامي، بعد انقسام باكستان إلى دولتين «إحداهما بنجلاديش»: وهي بلد مهدّد بالتنصير، من الإرساليات الغربية التي خططت لغزوه دينيًا والسيطرة عليه في ظرف خمسين سنة كما زعموا.

ركبت الطائرة من مدينة «بيرث» وذهبنا إلى «جاكرتا» مرورًا بجزيرة سياحية أظنها «بالي» التي وقعت فيها التفجيرات منذ سنوات. وقد توقفت فيها الطائرة، ولم ننزل إلى البلدة، ومنها استقللنا طائرتنا إلى العاصمة الإندونيسية جاكرتا. وكان الإخوة من أعوان الدكتور محمد ناصر وإخوانه في المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية في انتظاري، وكان الدكتور ناصر مريضًا، وقد بلغ من الكبر عتيًّا، وثقل حمله من آثار الشيخوخة، ومن آثار المرض، ومن هموم الدعوة، وهموم الأمة، فلزم الفراش منذ مدة. وكان من الموكلين بمرافقتي شاب أزهري اسمه «م» المازني، فقلت له: المازني ... نسبة إلى قبيلة «مازن» المشهورة التي قال فيها الشاعر:   لو كنت من مازن لم تستبح إبلي     بنو اللقيطة من ذُهل بن شيبان

قال الحقيقة أن اسمي الأصلي «المُزني» ولكن بعض الإخوة العرب ممن زارونا، اقترح علي أن أغير اسمي من المزني إلى المازني!  قلت له: عد إلى اسمك الأصلي، فإن والدك حين سماك بهذا الاسم، كان يقصد «المُزني» صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنهب. والناس هنا حريصون على إحياء أسماء أئمة الشافعية، فهناك: الغزالي والرافعي والنووي وغيرهم. وأصبحت لا أناديه إلا بهذا الاسم «المُزني».

السؤال عن صديقي الجزائري محمد أكسوري:

وكان من أول ما حرصت عليه بعد وصولي إلى جاكرتا: أن أسأل عن صديقي القديم، ورفيقي في السكن في كلية أصول الدين، الجزائري العالم الأديب المناضل: محمد أكسوري «أو الأقصري كما كنا نناديه» والذي علمت أنه سفير الجزائر في إندونيسيا، ولكني - للأسف الشديد - لم أجده في إندونيسيا. فقد كان في إجازة في ذلك الوقت. أي أنه ذهب إلى الجزائر في الوقت الذي كان ينبغي أن أكون فيه في الجزائر لحضور ملتقى الفكر الإسلامي. فلم يشأ الله تعالى أن ألتقي صديقي الأخ الجزائري في الجزائر من قبل، ولا في إندونيسيا من بعد، وإن كنت لقيته مرة بعد ذلك بنحو سنتين.

برنامج حافل:

وقد رتَّب لي الإخوة برنامجًا حافلًا، زرت فيه عددًا من الجامعات في جاكرتا ومدارسها الإسلامية العريقة: الشافعية والظاهرية وغيرها، وفي بعض المدن القريبة في جزيرة «جاوة». وكان من أهم ما رتَّبوه لي: التقاء الدعاة من الشباب، لأتحدّث إليهم وأنورهم بما يجب عليهم في هذه المرحلة، من إعداد أنفسهم للحفاظ على المسلمين، ولمواجهة المنصِّرين، وهو إعداد متكامل، يجب أن يكون إعدادًا ثقافيًا، وإيمانيًا، وأخلاقيًا، وذكرتهم بما كتبته من قبل في كتابي «ثقافة الداعية». ومما أذكره أني التقيت بعض الشباب من الدعاة القادمين من المملكة السعودية، وكان من بينهم الشاب الشيخ سلمان فهد العودة حفظه الله، وقد أمسى اليوم من مشاهير الدعاة.

زيارة جزيرة «سومطرة»:

وكان من المهم جدًّا في هذا البرنامج هو: زيارة جزيرة «سومطرة» لأول مرة، وهي الجزيرة الكبرى الثانية، بعد جاوة. وقد ذهبت إليها بالطائرة، ثم تنقلنا بالسيارة بين مدنها، حتى وصلنا إلى أعلى الجزيرة، وقد حاضرت في جامعاتها ومعاهدها، ولقيت أهل العلم والدعوة والفكر فيها، وكانت رحلة خصبة مباركة.

تبخر أحلام الإرساليات التنصيرية:

ولقد اطمأننت من خلال هذه الزيارة إلى أن أحلام الإرساليات الأوربية والأمريكية في تحويل إندونيسيا من الإسلام إلى النصرانية خلال خمسين عامًا ... هذه الأحلام قد تبخرت. فقد نسي المخططون الحالمون: أن الإسلام أرسخ قدمًا، وأعمق جذورًا، مما يظن الظانون: {يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ 32 هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ} [التوبة: 32، 33].

شركة الراجحي المصرفية والاستثمار

مسيرة البنوك الإسلامية:

كانت شركة الراجحي من الشركات الكبرى في المملكة السعودية، وكانت تعمل في المجالات الاقتصادية والتجارية المختلفة، ومع البنوك التقليدية التي تقوم على الفوائد الربوية. ولم يكن في المملكة بنك إسلامي يتعامل بغير الفوائد، ووفق أحكام الشريعة الإسلامية، برغم أن الذين قادوا مسيرة البنوك الإسلامية سعوديون، على رأسهم الأمير محمد الفيصل آل سعود، الذي أسَّس بنوك فيصل الإسلامية في مصر والسودان والبحرين، وأسَّس دار المال الإسلامي في جزر البهاما وإدارتها في جنيف في سويسرا. ولكنه لم ينشئ بنك فيصل الإسلامي السعودي. كما كان من الذين قادوا المسيرة أيضًا: الشيخ صالح كامل وما أسّس من بنوك البركة في أقطار شتّى.

ولقد قدّم الشيخ سليمان الراجحي وإخوانه طلبهم للسلطات المالية السعودية، للحصول على تصريح بإنشاء بنك إسلامي، وبعد سنين طويلة، وجهد جهيد، أذن له أن يحول شركته إلى شركة تتعامل بغير الفوائد، دون أن تسمّى «بنكًا إسلاميًا». لأن هذا يحرج المملكة، فإذا كان هذا بنكًا إسلاميًا، فماذا تسمّى البنوك الأخرى، والمفروض أن المملكة ملتزمة بتطبيق الشريعة الإسلامية في كل مجالات الحياة، كما هو صريح أمر القرآن: {وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَ} [المائدة: 49].

الهيئة الشرعية المشرفة على شركة الراجحي:

المهم أن الشركة أذن لها في العمل المصرفي بغير فائدة، وغدا اسمها: شركة الراجحي للصيرفة والاستثمار، وقد عيّنت الشركة لها هيئة شرعية للإشراف عليها والتوجيه لها، وضمان سيرها على أحكام الشريعة. وكان رئيس الهيئة سماحة العالم الجليل الشيخ عبد الله بن عقيل، والد أخينا وصديقنا الإسلامي المتحرك عبد الرحمن بن عبد الله بن عقيل، وعين نائبًا له معالي الشيخ صالح الحصين، الرجل الذي جمع بين الفقه والقانون، كما جمع بين النظر والتطبيق، واختاروا لعضوية الهيئة العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، وسماحة الشيخ عبد الله البسام، والفقير إليه تعالى، ولأمانتها الشيخ عبد الرحمن بن عقيل.

اقتراحات الشيخ صالح الحصين على الهيئة الشرعية:

وقد اقترح الشيخ الحصين على الهيئة جملة اقتراحات جوهرية ومتميّزة، وهي:

أولًا: أن تعمل الهيئة احتسابًا، دون أن تتقاضى أي مكافأة: وقد وافق الجميع على ذلك. وذلك حتى تكون حرة تمامًا في الرقابة والتوجيه.

ثانيًا: أن تكون مهمة الهيئة التوجيه الشرعي للشركة، والفتوى فيما يعرض عليها من عقود وتصرفات. أما الرقابة فستكون من سلطة المحاسب القانوني، الذي يجب عليه التدقيق في عمل الشركة وَفْق أحكام الشريعة، وعليه أن يكون ضمن جهازه شرعيون، يمكنهم القيام بهذا التدقيق.

ثالثًا: أن تضع الشركة خطة للتخلص من التعامل من المرابحة خلال ثلاث سنوات.

غرق البنوك الإسلامية في عملية المرابحة:

وكانت هذه الخطوة الأخيرة خطوة ثورية تقدمية. فقد غرقت البنوك الإسلامية في عملية المرابحة، وأعرضت عن كل المعاملات الأخرى من التجارات والمشاركات والمضاربات، التي هي البديل الحقيقي لمعاملات البنوك الربوية.

وقال الشيخ الحصين: إن المرابحة شديدة القرب من التعامل بالفائدة الذي تقوم به البنوك الرأسمالية التقليدية: فإذا انحصر عمل البنوك والشركات الإسلامية المصرفية في هذه المعاملة، فيا ضيعة الجهود المبذولة في إقامة البنوك الإسلامية، وما أجدرنا أن نتمثل بقول الشاعر حينئذ:

إن كان منزلتي في الحب عندكم          ما قد لقيت، فقد ضيَّعت أيامي!

وقد اجتهدت الشركة أن تقلِّص من دور المرابحة، وأن تدخل في المقاولات والمعاملات المختلفة، وما أكثرها في المملكة، ولكنها لم تستطع أن تتخلص منها نهائيًا، كما كان يريد أخونا الكبير الشيخ صالح حفظه الله.

لقد دخلت البنوك الإسلامية في «قمقم» المرابحة، ولم تستطع أن تخرج منه. وهو ما حذت منه هذه البنوك في كتابي الذي ألفته دفاعًا عن المرابحة، وسميته: بيع المرابحة للآمر بالشراء، كما تجربه المصارف الإسلامية. ومع هذا حذرت في نهايته أن تسجن المصارف الإسلامية نفسها في المرابحة، وتنصرف عن المعاملات الأخرى، وهو ما وقع بالفعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

استعفائي من عضوية هيئة الشركة:

وبعد عدّة سنوات، تكاثرت عليّ الأعباء، فاستعفيت من عضوية هيئة الشركة، وقبلوا مني ذلك، وخصوصًا بعد أن فرَّغت الشركة العلامة الفقيه الكبير الشيخ مصطفى الزرقا، لبحوث الهيئة، وتحرير معاملاتها، وتأصيل فتاواها، رحمه الله  وجزاه خيرًا.

..................

(1) رواه البخاري في الخصومات (2410) عن ابن مسعود.

(2) متفق عليه: رواه البخاري في المظالم (2446)، ومسلم في البر والصلة (2585) عن أبي موسى.