بعد هذه الأيام المليئة والحافلة في ماليزيا الشقيقة (حوالي أسبوعين): ودعت الأستاذ أنور والإخوة في ماليزيا، لأبدأ رحلة العودة إلى قطر.

وكان الترتيب: أن أمر بباكستان، بمدينة لاهور خاصة، لألتقي بالجماعة الإسلامية لأسلم لهم شيكا بمبلغ محترم حمّله لي بعض الإخوة الغيورين في قطر، لأعطيه من أطمئن إليه من جماعات الجهاد.

وكنت أريد بقدومي إلى لاهور: أن أتفاهم مع الجماعة كيف نقسم هذا المبلغ بين المجاهدين بالعدل. والعدل لا يعني المساواة دائمًا. فالتسوية بين المختلفين ظلم، كما أن التفريق بين المتماثلين ظلم، ولكن العدل: أن تعطي كل فئة بقدر بلائها في الجهاد، وبقدر جاجتها أيضًا.

لم أجد وسيلة للوصول إلى باكستان غير «الطائرة الروسية» التي تقوم من كوالا لامبور إلى كراتشي، وهي طائرة ليس فيها درجة أولى، بل كلها درجة واحدة سياحية.

وقد ركبت هذه الطائرة التي كانت كراسيها صغيرة ومتضامّة، ولا يكاد الراكب يقدر على مد رجله كما يشاء، كما كانت مليئة بالركاب، فهي ذاهبة إلى موسكو مرورًا بكراتشي، وهي أول مرة وربَّما آخر مرة، أركب فيها طائرة روسية.

قضيتُ في هذه الطائرة المتعبة نحو سبع ساعات، مرت بطيئة ثقيلة، فلم يكن فيها شيء، تستريح له النفس، لا مقاعدها، ولا طعمها، ولا شرابها، ولم يكن حوالي أحد أستطيع أن أتحدث معه، فيخفف عني بعض ما أعانيه، فلم يبق إلا الصبر والدعاء إلى الله تعالى أن يوصلنا إلى محطتنا بكراتشي في سلام، مردَّدًا، الدعاء المأثور: «اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا، واطو عنا بُعده».

الوصول إلى كراتشي والإصابة بوجع الظهر:

وحوالي الساعة الحادية عشرة مساء: وصلنا إلى مطار كراتشي، بحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواء، ووجدت الإخوة من أعضاء الجماعة الإسلامية في انتظاري، وقد أخذوني إلى فندق المطار، مشيًا على الأقدام، فهو قريب.

وأنا ليس لي حاجة للإقامة في كراتشي، فإن غايتي هي لاهور، ولكن الطائرة التي تذهب إلى لاهور هي في السادسة صباحًا على ما أذكر.

وصّلني الإخوة أكرمهم الله إلى الفندق، وودعوني، وقالوا: نأتيك في الصباح؟ قلت لهم: لا ضرورة لذلك، جزاكم الله خيرًا، فالمطار على بعد خطوات، وأستطيع أن أدبر أمر نفسي. ولكن الإخوة أكرمهم الله أصروا على أن يأتوني في الصباح، وكان في إصرارهم الخير.

وبعد أن تركني الإخوة بحوالي نصف ساعة، شعرت بوجع شديد ومفاجئ في ظهري، بدون مقدمات: أمسى ظهري متخشبًا، وأحس فيه بألم شديد، ولا أستطيع أن أتحرَّك! لا يريحني الوقوف، ولا القعود، ولا النوم، لا أملك إلا أن أقول: يا رب، يا رحمن يا رحيم. يا أرحم الراحمين. يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.

ما أصعب وما أقسى أن تصاب بمثل هذا المرض المؤلم، وأنت في السفر، في المنطقة المعلقة بين من ودعتهم ومن تريد الوصول إليهم!

رباه ماذا أفعل؟ وقد ذهب الإخوة الذين استقبلوني للتو، وليس معي تليفون لهم، ولا أعرف من اللغة الأوردية أو الإنجليزية ما أتفاهم به مع من حولي. ما كان أغباني حين لم أستمر في تعلم الإنجليزية!

ليس أمامي إلا التضرُّع إلى الله: أن ينزل عليَّ الصبر والسكينة، ويخفِّف عني ما أشكوه. كنت أدعو بما دعا به أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ} [الأنبياء: 83].

لم يسأل الله شيئًا إلا أنه ذكر ما مسه من ضر، ولم يبالغ في قوله، فيضخم ما أصابه، بل عبر عنه بهذه الكلمة اللطيفة {مَسَّنِيَ ٱلضُّرّ} واكتفى بأن يثني على ربه بقوله {وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ}. عرض الحالة، وتركها لله. فما أسرع ما استجاب لله: {فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَكَشَفۡنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرّٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰبِدِينَ} [الأنبياء: 84] .

كما كنت أردد قول سيدنا يعقوب عليه السلام بعد أن فقد ابنيه الحبيبين: يوسف وأخاه: {إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ} [يوسف: 86]. شكا إلى الطبيب الذي يعلم داءه، ويعلم دواءه، وهو أبر به من نفسه، وأرحم به من الوالدة بولدها.

كنت أردِّد دعوة المكروب، وهي دعوة ذي النون في بطن الحوت: {لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ} [الأنبياء:87] لينجيني الله من الغم كما نجاه.

وكنت أرقي نفسي بالمعوذات، وبآية الكرسي، وبالفاتحة، وبالرقي المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما علمنا أن نقول بعد وضع اليد على مكان الألم: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر»(1) سبع مرات. كما أقول: «اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف انت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاه لا يغادر سقما»(2).

حكم رفض الشكوى إلى أحد:

ولست مع بعض المتصوفة الذي يرفضون الشكوى إلى أحد، ولو كانت إلى الله! ويقول بعضهم: علمه بحالي يغني عن سؤالي!

ويقول شاعرهم:

كيف أشكو إلى طبيبي ما بي      والذي قد أصابني من طبيبي؟

وقيل لبعضهم: ألا نأتي لك بطبيب؟ قال: الطبيب هو الذي أمرضني!

ورأيي: أن تلك حالات خاصة يغلب على أصحابها وجدان معيَّن يقع تحت تأثيره، ويفقد بذلك السيطرة على نفسه، فهو أشبه بالمكره في هذه الحالة، ومثله لا يقتدي به، ولا يؤخذ من تصرفه حكم شرعي. إنما العمدة هنا: القرآن والسنة.

وقد رأينا يعقوب وأيوب يشكوان إلى الله تعالى، وهما من هما في أنبياء الله، قال تعالى عن يعقوب: {وَٱذۡكُرۡ عِبَٰدَنَآ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ أُوْلِي ٱلۡأَيۡدِي وَٱلۡأَبۡصَٰرِ * إِنَّآ أَخۡلَصۡنَٰهُم بِخَالِصَةٖ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ * وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَيۡنَ ٱلۡأَخۡيَارِ} [ص: 45 - 47]. وقال عن أيوب: {إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} [ص: 44].

على كل حال، قضيت ليلتي أو ما بقي منها، وقد تركت سريري وجلست على الأرض، راكنًا ظهري إلى الحائط، ثم راقدًا على الأرض بعد أن وضعت عليها فراشًا، كل ذلك وأنا أعاني ما أعاني، وأستعين بدعاء ربي: {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. ولم يكن عندي ما أستعينه سواه: {حَسۡبِيَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ} [التوبة: 129].

وعندما انكشف نقاب الليل عن وجه الفجر: تحاملت على نفسي لأدخل المرحاض، وأعتقد أني تيمَّمت لأؤدي صلاة الفجر، فلم يكن الوضوء ممكنًا بالنسبة لي. كما أذكر أني صليتُ بالإيماء، فهو ما أقدر عليه، وقد قال تعالى: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ} [التغابن: 16]. وقال رسوله الكريم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»(3).

وجاء الإخوة من أعضاء الجماعة الإسلامية الذين ودَّعوني بالأمس، ليوصلوني إلى المطار، فوجدوني على حال غير الحال، التي تركوني عليها، وكان قد ظهر عليَّ الإعياء والتعب، من المرض والمعاناة، ومن عدم النوم طول الليل تقريبًا. وسألوني عما جرى، وشرحت لهم ما وقع فعرضوا عليّ أن أؤخر سفري، فأبيت، وقلت: نتوكل على الله، ونسافر إلى إخواننا في لاهور، وهم يتولون أمر علاجي.

وحملوا حقيبتي، وقاموا بالإجراءات اللازمة، ثم تركوني لأدخل إلى مكان الانتظار في الداخل، ومنه أصعد إلى الطائرة على الخطوط الباكستانية الداخلية، فلم يكن بإمكانهم توصيلي إلى باب الطائرة.

وعندما جاء الموعد، تحاملت على نفسي مرة أخرى، وطلبت المدد من الله، وارتقيت سلَّم الطائرة، وكان يخيِّل إليَّ أني أصعد جبلًا شاهقًا، وصعود كل درجة فيه يحتاج إلى مشقة بالغة، ولا سيما أني أحمل نفسي، وأحمد في يدي حقيبة السفر.

وصولي إلى لاهور:

ووصلت بحمد الله إلى لاهور، وكان عليَّ أن أجتاز مشقة أخرى في النزول من الطائرة، وأنا أحمل حقيبة في يدي، ويسَّر الله الأمر ونزلت، ووجدت عددًا من كبار الإخوة في الجماعة الإسلامية في انتظاري، لا أذكر منهم إلا الأخ الحبيب الشيخ خليل الحامدي رحمه الله .

لاحظ الإخوة علي مظاهر الإعياء، فقلت لهم: إني أعاني ألمًا شديدًا في ظهري، وإن أول ما أطلبه منكم الآن: أن تأتوني بطبيب مختص في العظام من إخوانكم أو من غيرهم، أو تنقلوني إلى مستشفى فورًا، فالأمر لا يحتمل التأخير.

في دار الجماعة:

وبمجرَّد وصولي إلى دار الجماعة الجديدة في «المنصورة» - وهو اسم الحي الذي أقامت الجماعة فيه منشآتها الحديثة: الإدارية والتعليمية والدينية والطبية وغيرها - أحضروا لي طبيبًا في الحال، وقال لهم: أحضروا ألواحًا من الخشب وافرشوها ببعض البطاطين، لينام الشيخ عليها، ولا ينام على الأسِرَّة والفرش الوثيرة، فهي تزيد عليه التعب، وأعطاني إبرة مسكنة، ووصف لي بعض الحبوب لأتناولها. وأوصاني بالراحة التامة.

لم أمارس أي نشاط، برغم البرنامج الذي كان الإخوة قد أعدوه، فالعبدُ يدبِّر، والله يقدِّر. وليس على المريض حرج، ولذا استسلموا لقدر الله، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.

ومع هذا لم أحرم من بعض الإخوة يأتون ليعودوني، ويسألوا عني، ثم يسألوني بعض الأسئلة في موضوعات ربما أشكلت عليهم، فأجيبهم، وأنا نائم على ظهري، وقد قال تعالى في وصف أولي الألباب: {ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ} [آل عمران: 191].

وبعد نحو ثلاثة أيام: تحسَّن حالي قليلًا، وهنا انتهزها الإخوة فرصة، لألقي درسًا أو محاضرة بمعهد الإمام المودودي بجوارنا على بعد خطوات ... ولم أملك الاعتذار، وأنا إنسان يغلبني الحياء، فقبلت على مضض، ولكن هذا زاد عليّ التعب، وارتد عليّ الألم.

الزنداني والدعوة إلى بشاور للإصلاح بين المجاهدين:

وفي هذه الأثناء، قدم أخونا الداعية المعروف الشيخ عبد المجيد الزنداني من بشاور، فوجدني، فانفرجت أساريره وقال: الحمد لله، إذ وجدتك ههنا!

قلت: خير، ما الخبر؟

قال: إن الله ساقك في هذا الوقت لتنجز أمرًا لا ينجزه غيرك.

قلت: خير يا شيخ عبد المجيد.

قال: إن إخوانك المجاهدين في أفغانستان على خلاف فيما بينهم في بعض الأمور والجزئيات، وخصوصًا مجاهدي الجماعات الأربع الذين ينتمون إلى الحركة الإسلامية: جماعة رباني، وجماعة حكمتيار، وجماعة سياف، وجماعة يونس خالص.

وهناك الآن مؤامرة: تحاك لهم، ولا ينقذهم منها إلا تضامنهم فيما بينهم، وهذه تحتاج إلى شخصية تقدر على أن تجمعهم، وتفرض عليهم أن يتفاهموا ويتعاونوا. وأنت الآن هذه الشخصية، التي بعثها القدر الإلهي في هذه الآونة لحل هذه المشكلة.

قلت له: يا شيخ عبد المجيد، ولكني الآن لا أصلح لهذه المهمة، فأنا - كما ترى - لا أستطيع أن أتحرك، فمن الذي ينقلني الآن إلى بشاور؟

قال: ألا تنوي العودة إلى قطر، وإن كان بك ما بك؟

قلت: لا بد من ذلك، على ما فيه من مشقة.

قال: فليكن هذا جزءًا من رحلة عودتك.

قلت: أنا في وضعي الصحي الحالي في حاجة إلى اختصار الرحلة لا إلى زيادتها.

قال: ولكن إذا كانت زيادة الرحلة في سبيل الإسلام فمثلك يتحمَّلها، والله يعينه، والمسافة بيننا وبين مدينة بشاور التي نقصدها: ساعة واحدة.

والشيخ الزنداني سوَّاق حُطَم، لا تستطيع أن تفلت منه، وهو صاحب عزيمة وهمَّة، وقد عزم على أن يقوم بدور في تجميع كلمة الإخوة في أفغانستان، ورأى في وجودي فرصة لتحقيق هذا الحلم، ولم أملك أمام إصراره، وأمام سمو الهدف الذي يسعى إليه إلا أن أجيبه، برغم ما أعانيه، مستمدًا من الله العون والقوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

الشيخ عبد المجيد الزنداني
الشيخ عبد المجيد الزنداني

السفر إلى بشاور:

وحزمت أمتعتي، وأعددت حقيبتي للسفر، أو قل: أعدها الإخوة في لاهور، جزاهم الله خيرًا، وحجزوا لي أنا والشيخ الزنداني مقعدين في الطائرة التي تغادر ليلًا إلى بشاور، وودعونا في المطار، وركبنا الطائرة المتجهة إلى بشاور... وبعد طيران الطائرة ما يقرب من ساعة، وقد اقتربنا من المطار، فإذا بنا نفاجأ بإبلاغنا: الأحوال الجوية في مطار بشاور سيئة جدًّا، ولا تسمح بنزول الطائرة! واضطرت الطائرة إلى أن تذهب إلى مطار إسلام آباد، لنبيت هناك، وتزداد رحلتي رحلة أخرى!

قال الشيخ الزنداني مواسيًا: يريد الله أن يضاعف أجرك.

قلت: قدَّر الله، وما شاء فعل. الخير ما يختاره الله لنا: {وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡ‍ٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ} [البقرة: 216].

وإيمان المسلم بالقدر، ورضاه بما يقدر الله له، وأنه أبرّ به من نفسه: يريح ضميره، ويطمئن به قلبه، ويمنحه لونًا من السكينة لا يتذوّقه الماديون والملحدون والشّاكّون، إذ في المأثور: «إن الله عز وجل بقسطه: جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك»(4).

بتنا ليلتنا في إسلام آباد، وفي الصباح نقلتنا طائرتنا - التي باتت معنا - إلى بشاور. وبمجرد وصولنا بدأنا الاتصال بالإخوة، لنلتقي بهم، ونتفاهم على النقاط التي يجب أن نتفق عليها.

لقائي مع قادة الجهاد الأفغاني:

وقد حضر الإخوة الكبار: برهان الدين رباني رئيس الجمعية الإسلامية، وقلب الدين حكمتيار رئيس الحزب الإسلامي، وعبد رب الرسول سياف رئيس اتحاد المجاهدين، وكان الشيخ يونس خالص - رئيس الحزب الإسلامي الذي انفصل عن حزب حكمتيار - غائبًا عن بشاور، فلم يحضر، ولا أذكر: هل مثَّله بعض رجاله أو لا؟

كان لا بد من تمهيد لتصفية النفوس، وترطيب القلوب، وتذكير الجميع بأخوة الإيمان، ووحدة الإسلام، وضرورة التضامن في مواجهة العدو، ولا سيما في الوقت الذي تحاك فيه المؤامرات ضد الجهاد الإسلامي، وضربه من الداخل، فالتساند والتعاضد والتضامن بين المجاهدين: فريضة وضرورة، ولو لم يوجبه الدين، ويشدد فيه كل التشديد، لأوجبه الواقع وألزمنا به إلزامًا.

إن القرآن حذّرنا من التفرق إذ الأعداء يجتمعون، والتخاذل إذ هم يتناصرون، والتباعد إذ هم يتقاربون، فقد قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٍۚ إِلَّا تَفۡعَلُوهُ تَكُن فِتۡنَةٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَفَسَادٞ كَبِيرٞ} [الأنفال: 73].

أنصت الإخوة إلى حديثي، وتفهَّموه، وتجاوبوا معه، وقلت لهم: إن الناس يمكن أن يختلفوا في أحوال الرخاء والعافية والسلم. أما في حالة البلاء والحرب والخوف، فلا مجال للخلاف. وقد قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ} [الصف: 4]. والمفروض في المختلفين في هذه الحالة أن يتحدوا، فإن المصائب يجمعن المصابين. فكيف يختلف المتّحدون الذين يؤمنون بفكرة واحدة، وبأهداف واحدة، وبمنهج واحد؟ هذا لا معنى له إطلاقًا.

وكان المقصود أن نُحدِّد الأولويات، ونبدأ بها، ونبحث عن نقاط الاتفاق الأساسية، وعن الخطوات العملية التي يجب أن تُتَّخذ لمواجهة المرحلة القادمة، والتي يدبر فيها الأخرون تدبيرات ماكرة، لتفريق الصف، وإبراز قوي لا تستحق الإبراز.

وانتهينا إلى أن ما نتفق عليه: يجب أن نكتبه ونسجله في وثيقة بينة، يوقِّع عليها الإخوة، ويعاهدون الله تعالى على العمل بها.

كنت أحدث الإخوة وأخاطبهم، وأتعامل معهم، وأنا راقد على ظهري، وكان الإخوة مشفقين عليّ، وقلت لهم: إنني سأشعر بالعافية إذا اتفقتم، وإذا نفذتم ما اتفقتم عليه.

كتابة وثيقة الاتفاق:

وتولَّيت أنا كتابة وثيقة الاتفاق بيدي، وكان المفروض أن أبقى معهم يومًا كاملًا، وأبيت معهم، ونصف اليوم الثاني، ثم أغادر بشاور إلى كراتشي، لأستقل الطائرة الخليجية الذاهبة إلى الدوحة.

وقد كتبت معظم بنود الوثيقة بيدي، وبقي منها سطور، لم أستطع أن أكملها، وإلا فاتتني الطائرة، فقلت للشيخ الزنداني: عليك أن تكمل بقيت الاتفاقية، وتؤكدها بتوقيع الإخوة، والله يوفقكم، وأستخلف الله عليكم، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

وودعت الإخوة لأذهب إلى المطار، وأدرك الطائرة في الدقائق الأخيرة، متحملًا من التعب والمعاناة ما يعلمه الله! ووصلت إلى كراتشي، ليستقبلني الإخوة من أعضاء الجماعة الإسلامية هناك، ويبقوا معي، حتى ركبت الطائرة المتجهة إلى الدوحة.

وقد وصلت إلى الدوحة، وفوجئ أهلي وأولادي وإخواني جميعًا بحالتي. وقد ودعوني عند السفر إلى ماليزيا وأنا بحالة جيدة، فما الذي جرى؟ وقد أثر هذا السفر فيما أصابني فاشتد علي ألم الظهر، ولكن الدوحة فيها من إمكانات العلاج والرعاية ما لا يوجد في غيرها، وهو ما نتحدث عنه في الصفحات التالية إن شاء الله.

ماذا صنع إخواننا الأفغان باتفاقنا؟

وقد يسأل القارئ هنا سؤالًا طبيعيًا، وهو: ماذا صنع الإخوة الأفغان بالوثيقة التي كتبتها بيدك، وتركتها أمانة عندهم ليعملوا بموجبها؟ هل وفوا بالعهد أو غلبت عليهم طبيعتهم في التنازع الذي حذّر الله منه: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡ} [الأنفال: 46].

وأقول للإخوة السائلين بصراحة: لقد خيبوا ظني وظنكم.

فقد قابلت أخانا الشيخ الزندان بعد ذلك - وقد بقى مدة بعد الاتفاقية التي كتبناها - وسألته: هل نفذ الإخوة ما اتفقنا عليه؟ فابتسم وقال: سامحهم الله. إنهم لم يكادوا يشرعون في التنفيذ حتى انتكسوا، وغلبت عليهم سجيتهم في الاختلاف والتفرق.

قلت له: وضاع الجهد الذي بذلناه؟

قال: بكل أسف نعم، وقد كان على حساب صحتك، ولكنه لن يضيع عند الله.

قلت: وهذا عزاؤنا: أن الله لا يضيع عنده عمل عامل، قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا} [النساء: 40].

وكانت هذه المشكلة الكبرى لدى إخواننا المجاهدين الأفغان، الذين قاوموا الروس بقلوب الأسود، ولم تَحْنِ رءوسهم ولم تُلِن قناتهم: دباباتُهم على الأرض، ولا طائراتهم في السماء. مشكلتهم هي الاختلاف. وليست هذه هي المرة الوحيدة التي ذهبت فيها إلى أفغانستان لإصلاح ذات بين الإخوة، فقد ذهبت بعد ذلك عدة مرات، شاركت فيها عددًا من الإخوة منهم: الأستاذ مصطفى مشهور نائب المرشد العام للإخوان في ذلك الوقت، والأستاذ محمد قطب، والشيخ محمد محمود الصواف، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة وغيرهم. وكلها لم تثمر ثمرتها المنشودة من توحيد كلمة المجاهدين، وجمع صفهم أمام عدوهم، ليكونوا كما قال الله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ} [الصف: 4].

محاولة المجاهد الصابر كمال الدين السنانيري:

وقبل هذه المحاولة: كان هناك أخونا المجاهد الصابر الشهيد كمال الدين السنانيري، الذي كان من أوائل من ذهب إلى بشاور، ممثلًا لمكتب الإرشاد في الإخوان، وكان هو شخصيًا مشغوُّلا بالقضية، مهمومًا بها، وبإمدادها بكل ما يشد أزرها، ويجمع أمرها، ويجنِّبها الزلل والفتن، وخصوصًا فتنة التفرق والتشرذم والاختلاف، فإن شرَّ ما يصيب الجماعات: أن يكون بأسها بينها ... كان رحمه الله  آية في الصبر والمصابرة وحسن الخلق والأناة والحكمة. مع هذا لم تفلح جهوده المستمرة في التجميع والتقريب، كما كان يحب ويأمل في إخوانه. غفر الله لنا ولهم.

....................

(1) رواه مسلم في السلام (2202) عن عثمان بن أبي العاص.

( 2) متفق عليه: رواه البخاري في الطب (5743)، ومسلم في السلام (2191) عن عائشة.

( 3) متفق عليه: رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم، في الحج (1337) عن أبي هريرة.

(4 ) رواه الطبراني في «الكبير» (10/215)، ولم يذكر «الشك»، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد»: رواه الطبراني في «الكبير» وفيه خالد بين يزيد العمري واتهم بالوضع (4/124). ونحن أوردناه على أنه مجرد قول مأثور لا حديث.