الجامعة الإسلامية بكوالا لامبور:

زرت ماليزيا عدة مرات، وفي كل مرة كنت أُدعى إلى جامعاتها المختلفة لإلقاء بعض المحاضرات على طلابها، وغالبًا ما يحضر معهم الأساتذة، ومن هذه الجامعات: الجامعة الإسلامية العالمية بكوالا لامبور، والتي كان رئيسها الأعلى صديقنا أنور إبراهيم نائب رئيس الوزراء، وكان مديرها لعدد من السنين صديقنا الدكتور عبد الحميد أبو سليمان.

ومما اعتدته في زيارة الجامعات: أن أحرص بعد لقائي بالطلاب، على لقاء أعضاء هيئة التدريس، فأسمع منهم، ويسمعون مني، وأنصح لهم بما أراه، ولا سيما في حقل الدراسات الإسلامية.

ومما أذكره ولا أنساه في أحد هذه اللقاءات: سؤال مهم وجَّهه إليَّ بعض الإخوة الناشطين من أساتذة الجامعة.

1 - كيف تؤلف؟ وما سر غزارة الإنتاج مع انشغال الوقت؟

قال الأستاذ «وقد نسيت اسمه»: إنَّ لدينا أسئلة تحُيِّرنا أنا وعدد من إخواني، ولا نعرف لها جوابًا، وخلاصة السؤال الأول: أننا نراك رجلًا متعدد النشاط، كثير الأسفار، ولا نكاد نرى مؤتمرًا إسلاميًّا أو عالميًّا يتصل بالإسلام وثقافته ودعوته وأمته، إلا ونراك حاضرًا ومؤثرًا فيه، ولا تكاد تعقد ندوة فكرية ولا حلقة علمية إلا شاركت فيها، عدا الأنشطة الخيرية والإنسانية والاجتماعية التي تتحمّل مسئوليتها، ومع هذا نرى لك هذا الإنتاج العلمي الغزير، الذي يتميَّز بالأصالة والشمول والتنوع والمعاصرة والعلمية، في شتى جوانب الثقافة الإسلامية: في الفقه وأصوله، في العقيدة والدعوة وفي القرآن والسنة، في الاقتصاد الإسلامي، في ترشيد الصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية، في الإسلاميات العامة وقضايا الفكر المعاصر، في الرد على خصوم الإسلام من كل لون ... ونحن أكاديميون مثلك، وليس لنا مثل مشغولياتك ومسئوليتك، وإذا ألف الواحد منا أربعة كتب أو خمسة، يعتبر نفسه قد أنجز شيئًا مهمًّا، وأنت أصدرت العشرات من الكتب، بعضها موسوعات!!

وسؤالنا: من أين لك الوقت الذي يتَّسع لكل هذا الإنتاج؟ كلنا يحتاج إلى معرفة الجواب.

توفيق الله وعونه:

قلت للسائل وإخوانه: أول ما يجيب به المسلم في مثل هذا المقام هو رد الفضل إلى صاحب الفضل الأول، وهو الله عز وجل، فهو الذي يمد الإنسان بتوفيقه، ويؤيده بروح منه، ويشرح له صدره، وييسر له أمره، ولهذا قال سيدنا شعيب: {إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، ولهذا أيضًا دعا سيدنا موسى ربه حينما وجهه إلى فرعون: {قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي 25 وَيَسِّرۡ لِيٓ أَمۡرِي 26 وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةٗ مِّن لِّسَانِي 27 يَفۡقَهُواْ قَوۡلِي} [طه: 25 - 28] ، فطلب من ربه هذه الأمور التي تعينه على أداء مهمته الصعبة.

وشاعرنا العربي يقول:

إذا لم يكن عَوْن من الله للفتى       فأوَّلُ ما يَجْني عليه اجتهاده

فهذا هو سبب الأسباب، وهو توفيق الله تعالى.

البركة في الوقت والاستخدام الأمثل للنعم والمواهب والقدرات:

وهناك أسباب أخرى متفرعة من هذا السبب، وهو ما سميته «البركة»؛ فإن الله تعالى قد يبارك في القليل، فيصبح كثيرًا، ويبارك في الضعيف فيصبح قويًّا ... قد يعيش بعضهم مائة عام، ولكن لا بركة فيها، ولا أثر له في هذا العمر ينفع الناس، وقد يعيش بعضهم عمرًا أقصر، فيبارك الله فيه، وينتفع الناس منه بما لا ينتفعون من المعمَّرين. انظر إلى عمر بن عبد العزيز، وقد ولي الخلافة ثلاثين شهرًا، فبارك الله فيها، ونفع المسلمين بها، وما مات حتى قالوا: أغنى عمر بن عبد العزيز الناس.

وانظر إلى الإمام النووي، وقدعاش نحو خمسة وأربعين عامًا ترك فيها من الآثار في الفقه والحديث والتاريخ ما نفع الناس من بعده قرونا إلى اليوم، من «الأربعين النووية» إلى «المنهاج»، على «المجموع».

والبركة إذا عبرنا عنها بمفاهيم عصرنا، قلنا: إنها الاستخدام الأمثل للنعم والمواهب والقدرات، بحيث تعطي أفضل إنتاج في أقصر زمن ممكن.

المثابرة والاستمرار في العمل:

ثم هناك سبب آخر، وهو المثابرة والاستمرار في العمل، فأنا في الحقيقة لا آخذ إجازة، أنا أعمل صيفًا وشتاء، وأعمل صباحًا ومساء، أعمل أيام الجمع والإجازات الأسبوعية، وكذلك الإجازات السنوية، وأحيانًا تؤرّقني الفكرة وتسيطر عليّ، فتطير النوم من أجفاني، فأجدني مضطر للقيام من سريري، لأذهب إلى مكتبي.

الكتابة في الأسفار:

وفي أسفاري، أكتب في المطارات حين انتقل من طائرة إلى أخرى، ويكون هناك فرق زمني قد يكون عدة ساعات، فأنتهز الفرصة وأكتب، وأكتب في الطائرة، وخصوصًا في المسافات الطويلة، كالسفر إلى أوربا وأمريكا والشرق الأقصى، وإفريقيا، وغيرها.

وأذكر مرة أني كنت مسافرًا من القاهرة إلى لندن، وكان معي على الطائرة في الدرجة الأولى صديقي العالم الباحث الداعية المربّي المعروف: الدكتور عز الدين إبراهيم. وكان كلما مرّ بي ذاهبًا إلى الحمام: وجدني أكتب، وأخيرًا سألني: ماذا تكتب يا شيخ يوسف؟ قلت له: أكتب علمًا، أؤلف يا دكتور!

قال: تكتب علمًا وتؤلف بلا مراجع؟!

قلت: نعم، من المخزون، ومن التأمّلات. ثم بعد الرجوع، أوثِّق ما يحتاج إلى توثيق.

قال: وتفعل ذلك في كل أسفارك؟

قلت: نعم، أفعل ذلك في كل أسفاري، وخصوصًا في الذهاب، فكثيرًا ما أكون في حالة الإياب منهكًا مهدودًا.

قال: الآن أدركت سر هذا العطاء الثر: إنك لا تضيع وقتًا، وأنك في عمل متصل.

قال الإخوة الماليزيون: ونحن أيضًا أدركنا سر هذا الإنتاج المبارك. وندعو لك بدوام التوفيق والبركة، والمثابرة.

2 - لماذا تؤلف؟ أو ما دوافعك إلى التأليف؟

والسؤال الثاني: لماذا تؤلف؟ أو ما الذي يدفعك إلى التأليف؟

يدفعني إلى التأليف عدّة أمور:

أولها: أن يطلب مني ذلك، وأجد في نفسي الرغبة في تلبية الطلب، والقدرة على الوفاء به، كما في كتب كثيرة من كتبي، أولها: «الحلال والحرام في الإسلام»، فقد طلبته مني مشيخة الأزهر، بواسطة الإدارة العامة للثقافة الإسلامية بالأزهر، ليترجم إلى الأقليات الإسلامية في الغرب. وفي الحقيقة لولا هذا الطلب، ما فكرت في الكتابة في هذا الموضوع في ذلك الوقت.

ومثل كتاب: «شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان»، فقد طلب مني لأشارك به في ندوة التشريع الإسلامي في ليبيا.

ومثل كتابي: «ثقافة الداعية»، فقد طُلب مني، لأشارك به في المؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة، الذي عقد بالمدينة المنورة.

ومثل كتابي: «تاريخنا المفترى عليه»، فقد كان الذي حرّكني للكتابة فيه سؤال من بعض المثقفين في نقابة الأطباء في مصر.

وعدد غيرها من الكتب، التي يكون أصلها بحوثًا شاركت بها في المؤتمرات.

وثانيها: أن يكون ردًّا على موقف من خصوم الإسلام، أو حتى من أبنائه الذين يسيئون فهمه، مثل كتابي «الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه»، و «التطرف العلماني في مواجهة الإسلام»، و «البابا والإسلام»، و «فوائد البنوك هي الربا الحرام».

وثالثها: أن يكون عندي شيء أقوله في تجلية جانب من جوانب، الثقافة الإسلامية أو الرسالة الإسلامية، يصحِّح مفاهيمها، أو ينفض الغبار عنها، أو يجلو غوامضها، أو يحل إشكالات فيها، أو يجيب عن أسئلة لم تجد لها إجابة صحيحة، أو يعمق أفكارها بما يتناسب مع أهميتها، أو كتابتها بلغة العصر، وبروح العصر... إلى آخر تلك المعاني والاعتبارات التي أجدها في نفسي، ولا أستطيع أن أكتمها عن الناس، بل لا بد لي من أن أسعى إلى إخراجها من صدري. بل إنها لتلح عليَّ إلحاحًا، حتى تولد وتبرز إلى الحياة، بل إنها لتطير النوم من عيني حتى أكتبها.

وإذا لم يكن عندي جديد أقوله، فلا ينشرح صدري للكتابة، ولا يتماسك القلم في يدي ... هكذا في «الإيمان والحياة»، و «مشكلة الفقر، و «الخصائص العامة للإسلام»، و « ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده»، و «الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف»، و «الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم» ...

هكذا أكتب وأؤلف، لا لمجرّد تسويد الأوراق، ولا أحب يومًا أن أكرِّر غيري، أو حتى أكرِّر نفسي، إلا أن يكون وراء ذلك هدف، كما أقترح علي بعض الإخوان: أن آخذ بعض البحوث في بعض الكتب الكبيرة نسبيًا لأصدرها في رسائل صغيرة، ونحو ذلك.

3 - ما سر هذا التنوع أو الموسوعية الثقافية؟

والسؤال الثالث: المفروض أنك عالم أزهري، وأن ثقافتك منحصرة في الثقافة الشرعية واللغوية، ولكن من يقرأ مؤلفاتك، أو يسمع محاضراتك، تتجلى له موسوعية قلما تتوافر إلا للنوادر من الشخصيات، ولهذا، وجدنا في كتبك الدين واللغة والأدب والتاريخ والاقتصاد والفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتربية وغيرها، فمن أين لك هذه الموسوعية؟

جـ: بعض هذه الثقافة، حصلتها في دراستي الرسمية في الأزهر، فقد كنت طالبًا مجتهدًا أو متفوقًا في دراستي، وحصلت علوم الأزهر وتمكّنت منها، وخصوصًا علوم العربية من النحو والصرف والبلاغة، وكنت أتوسع في قراءة الأدب قديمه وحديثه خارج الدراسة الرسمية.

وحين التحقت بكلية أصول الدين: أعطتني ثقافة متنوعة: درست التاريخ الإسلامي لمدة أربع سنوات، ودرست الفلسفة على اختلاف مراحلها لمدة أربع سنوات، إلى جوار المنطق والتصوف وعلم الكلام، كما درست علوم التفسير والحديث وأصول الفقه ودرست أيضًا علم النفس.

ثم أكملت ثقافة الكلية بثقافة أخرى في تخصص التدريس، لمدة سنتين، وفيه درست علوم النفس والتربية. فدرست علم نفس الدوافع (الغرائز)، وعلم نفس النمو، وعلم نفس التعلم، أو علم النفس التربوي، والصحة النفسية، ثم درست أصول التربية، والتربية المقارنة، وتاريخ التربية، وطرق التدريس العامة والخاصة، والتربية العملية.

ثم قرأت في علم الاجتماع وعلم الاقتصاد، ثم توسّعت في دراسة الاقتصاد بمناسبة كتابي في «فقه الزكاة».

ثم إني توسَّعت في دراسة الفقه وأصوله، وخصوصًا الفقه العام أو الفقه المقارن، أو فقه الحديث، وقلما اشتغل بهذا خريجو كلية أصول الدين.

وبهذا تجمَّعت لي هذه الحصيلة من المعارف، وذلك بتوفيق الله وفضله، وإن كان ينقصني شيء مهم: لم أزل أشعر بالحاجة إليه، وهو اللغة الأجنبية.

4 - كتب تتمنى أن تنجزها:

والسؤال الرابع: هل هناك كتب كنت تتمنى أن تنجزها، ولم تستطع حتى الآن؟

جـ: نعم، هناك كتب أتمنى أن أنجزها، وأسأل الله أن يعينني عليها، مثل: أن أتم كتابة تيسير الفقه على منهجي الخاص في العرض والأسلوب والتدليل، وكذلك تيسير فقه السلوك «الطريق إلى الله»، وغيرها من السلاسل، وأتمنى أن أكتب كتابًا في السيرة النبوية، وكتابًا في أصول الفقه، وكتابًا في أصول الحديث، وتفسيرًا مختصرًا للقرآن الكريم. فإذا رزقنا ربنا الأجل والصحة والبركة والتوفيق، أتمناها بحمد الله، أو أتممنا بعضها وبقى بعض آخر. كما هو شأن البشر، لا يمكن أن يتمم الإنسان في حياته كل ما يريد. وفي هذه الحالة أرجو أن يكتبها بعض تلاميذي على نهجي. وأتمنى أن يكون خيرًا مني. وما ذلك على الله بعزيز. كل ما أطلبه منه أن يدعو لي بالمغفرة والرحمة والقبول عند الله.