مجلة الأمة:

كان من البشائر التي صاحبت مطلع فجر القرن الخامس عشر الهجري: مولد مجلة «الأمة» القطرية، التي صدرت عن رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية في دولة قطر. بإشراف ابننا النابه: الشيخ عبد الرحمن المحمود وكيل رئاسة المحاكم والشئون الدينية، ورئاسة تحرير ابننا الإعلامي: الشيخ يوسف المظفر، وإدارة تحرير أخينا وصديقنا الأستاذ عمر عبيد حسنة، وهو العنصر الفعَّال في تحرير المجلة.

ولقد وفق الإخوة المسئولون في تسمية المجلة «الأمة» فهي تسمية موفقة، فنحن في حاجة إلى تجاوز الأوطان الضيقة، والقوميات المحلية، لنوسع دائرة اهتمامنا إلى «الأمة».

ولكن ما المراد بـ «الأمة»؟

إن بعض المغالين في الوطنية كانا يرون «الأمة» ممثلة في شعبهم ووطنهم وحده، كما كان لطفي السيد في مصر، لا يرى مفهومًا لكلمة الأمة إلا الأمة المصرية، ولا يرنو ببصره إلى أمة عربية، ناهيك بأمة إسلامية، بل كان يقاوم فكرة «الجامعة الإسلامية» ودعاتها من مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم.

وبعضهم قصروا مفهوم «الأمة» على الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وقد تبنَّى هذا المفهوم دعاة القومية العربية: ساطع الحصري الداعية الأشهر للقومية العربية، وصاحب المؤلفات المتعددة في ذلك. وقد رد على دعاة الوطنية المصرية الضيقة، الذين كانوا يقولون: مصر أولًا، أي: مصالح مصر المحلية مقدمة على مصالح العرب إذا تعارضت، فرد عليهم بمقالات قوية، ومنطق قوي، جمعت في كتاب، بعنوان «العروبة أولًا».

ونحن وفق هذا المنطق نفسه نقول: الإسلام أولًا. وخصوصًا أننا في عالم يتكلم بلغة التكتل والتلاحم، إذ لم يعد مكان للكيانات الصغيرة، التي لا تستطيع أن تعيش وحدها، إلا في حماية كيان كبير، تعيش في كنفه، ويدافع عنها إذا هُددت، وكثيرًا ما يكون هذا الكيان أجنبيًا، وهذا هو الخطر الحقيقي: أن تظل أمتنا كيانات صغيرة تطلب الحماية - علنًا وسرًا - بالاتجاه إلى قوى من خارج الأمة، لا تتفق معها في الأهداف ولا في القيم ولا في المصالح.

لهذا كان المفهوم من كلمة «الأمة» بلا ريب ولا نزاع: هو الأمة المسلمة التي عناها القرآن بقوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ} [البقرة: 143].

وقوله تعالى: {كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ} [آل عمران: 110].

وقوله سبحانه: {إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، {وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].

وقد بقيت هذه الأمة أمة واحدة في مرجعيتها الواحدة، وهي: الشريعة، وفي دارها الواحدة، وهي: دار الإسلام. وفي قيادتها الواحدة، وهي: الخلافة، التي ظللتها (13) قرنًا، حتى ألغاها كمال أتاتورك في سنة 1924م.

صدرت مجلة «الأمة» من قطر، فَسَدَّت فراغًا فكريًا قائمًا، وشعر الناس بأن المجلة تحوي فكرًا جديدًا غير الفكر التقليدي، الذي عرفت به المجلات الدينية أو الإسلامية، هو «الحركية».

إذ من المهم في مخاطبة العقل المسلم المعاصر: أن يربط العلم بالعمل، ويربط الفكر بالحركة، فليس الفكر شيئًا معلقًا في الهواء، بل هو شيء يتعامل مع الواقع المعيش، ويتعامل معه بصورة إيجابية يتأثر به ويؤثر فيه.

وكان من المقالات المبكرة التي كتبتها فيها: أمة لن تموت. صحوة الشباب الإسلامي: ظاهرة صحية يجب ترشيدها لا مقاومتها - نشرت في عددين. وقد تلقفها شباب الجماعات الإسلامية في مصر، فطبعوا منها عشرات الآلاف.

كما أن المجلة كانت تثير قضايا مهمة، توقظ الحاسة النقدية عند المتدينين عامة، ودعاة الإسلام خاصة. مثل سؤال: «أين الخلل؟» الذي عرضته على عدد من العلماء والمفكرين، ليجيبوا عنه إجابات متنوعة، كل حسب منظوره ورؤيته.

وقد وجَّهت إليَّ هذا السؤال فأجبت عنه في أربع مقالات، نشرت في أربعة أعداد، ثم جمعت في رسالة بعد ذلك تحمل نفس العنوان: «أين الخلل؟».

وقد تجاوب المسلمون معها في المشارق والمغارب، وكان الناس يترقبونها بحرارة ولهفة.

وكانت تحتوي لقاءات وحوارات مهمة، وتحقيقات صحفية حية، إلى جوار المقالات لكبار الكتاب الإسلاميين المعروفين في ساحة الدعوة والفكر.

وظلت المجلة تصدر تباعًا لمدة ست سنوات كاملة، ثم صدر قرار بتوقيفها مع مجلتين أخريين كان لهما في محيطهما نفس التأثير، ونفس الصدى، وهما مجلة «الدوحة» وهي مجلة ثقافية، وقد انتشرت وذاع صيتها في العالم العربي كله، ومجلة «الصقر» وهي مجلة رياضية، كان لها رواجها وقراؤها بين الرياضيين.

كتاب الأمة:

وقد سنَّت المجلة سُنَّة حسنة: أن يصدر عنها كتاب لعالم أو مفكر إسلامي، كل ثلاثة أشهر، يعالج قضية من قضايا الفكر الإسلامي، تتسم بالحيوية والمعاصرة، وتكتب بأسلوب علمي موضوعي، بعيد عن الإثارة والتهييج.

وقد أحسنت «الأمة» حين جعلت كتابها الأول للداعية الأول: الشيخ محمد الغزالي، الذي كان عنوانه «مشكلات في طريق الحياة الإسلامية»، وهو يعالج الخلل الذي أصاب الذهنية الإسلامية، وخصوصًا لدى بعض فصائل الصحوة الإسلامية، الذين حصروا أنفسهم في وجهة واحدة، فلا يؤمنون إلا برأي واحد، يأخذونه عن شيخ واحد، ينتمي إلى مدرسة واحدة، ولا يقبلون أي تعدد في المدارس أو الآراء، فرأيهم صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيرهم خطأ لا يحتمل الصواب.

وقد ظل الشيخ في سنواته الأخيرة معنيًّا بتعقب هؤلاء، والرد على مبالغاتهم، ويراهم خطرًا على الدعوة الإسلامية، والأمة الإسلامية، إذا لم طهر عقولهم من هذه الأفكار. ويبدو أن الزمن قد صدق ما كان الشيخ يخشاه.

وكان الكتاب الثاني من كتب الأمة، هو: كتابي «الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف» وهذا العنوان هو من اقتراح الشيخ الغزالي نفسه، فقد كنت سميت الكتاب «ظاهرة التطرف الديني: نظرات في الأسباب والعلاج». ورأى الشيخ هذا العنوان عنوانًا علميًا هادئًا، لا يلفت النظر إلى قيمة الكتاب، فاقترح عنوانه الذي نشر به، ووافقته، كما وافقه الأخ عمر عبيد حسنة المشرف على كتاب الأمة. فقد ذكر الأمير شكيب أرسلان في كتابه: «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟» كلمات مضيئة قال فيها: إنما ضاع الإسلام بين جاحد وجامد. فالجامد يفتن الناس عن حقائق الإسلام بجموده، والجاحد يضلهم عنها بجحوده. وكلمة «التطرف» هي التي تقوم مقام «الجمود» في كلام الأمير رحمه الله .

وكان الكتاب الثالث للواء الركن محمود شيت خطاب رحمه الله . والرابع لعماد الدين خليل.

وهكذا استمر كتاب الأمة إلى يومنا هذا. حتى بعد توقُّف المجلة.

مجلة الدوحة:

كانت إحدى المجلات التي تصدر من الدوحة في قطر، ويستقبلها أبناء الوطن العربي كله من الخليج إلى المحيط: مجلة «الدوحة». وهي مجلة أدبية ثقافية عامة. تسد ثغرة مهمة في هذا المجال، بعد أن اختفت المجلات الأدبية الكبرى، التي كانت لها سُوقها ونفاقها في بلاد العرب، وربما خارج بلاد العرب، وأشهرها مجلة: «الرسالة» التي كان الأديب الكبير أحمد حسن الزيات يرأس تحريرها، ومجلة «الثقافة» التي كان العالم الأديب الكبير أحمد أمين يرأسها. وهما اللتان تتلمذ عليهما كل الأدباء والمثقفين وأصحاب الأقلام. فقد كان يكتب فيها عمالقة الفكر والأدب والنقد، العقاد والرافعي والمازني وطه حسين والحكيم وزكي مبارك وأبو حديد والمعداوي، وخضر، وغيرهم.

ومجلة «الدوحة» مجلة ثقافية فكرية عامة، لا تلتزم بما تلتزم به مجلة الأمة، بل ربما غلب عليها الطابع العلماني، وهي على كل حال مفتوحة لكل الاتجاهات المعاصرة والحداثية، ومن كتابها علمانيون، وتغريبيون، وقوميون، ولا مانع أن يكون فيهم إسلاميون، إن وجدوا.

وقد كان رئيس تحرير مجلة الدوحة الأديب السوداني الدكتور محمد إبراهيم الشوش الذي دعاني أكثر من مرة إلى الانضمام إلى أسرة كتَّاب المجلة، وكنت في أول الأمر مترددًا، لأن المجلة قد تنشر أشياء لا أرضاها، ولا تتفق مع الخط الإسلامي، ولكني فكرت في الأمر جيدًا، واستخرت الله تعالى، وقررت أن أشارك بالكتابة في هذه المجلة؛ لأني فيها أستطيع أن أخاطب جمهورًا غير جمهور مجلة «الأمة»، وهم الجمهور الأعرض في الأمة، وتبليغ هؤلاء كلمة الإسلام الوسطية المستنيرة: فرض كفاية على علماء الأمة ومفكريها ودعاتها. وهذه المجلة منبر قوي لإبلاغ هؤلاء دعوتنا. ولا ينبغي لنا أن نظل منغلقين على أنفسنا، يخاطب بعضنا بعضًا، ولا تصل إلى الآخرين. هذا ما اقتنعت به، وأقنعت به كثيرًا من إخواني الذين كانوا ولا يزالون يرون أن نقاطع هذه المجلات والمؤسسات المشتبهة. فالمبدأ عندهم: إما كل شيء أو لا شيء.

وقد وجدت صدى ذلك وأثره من أول مقال كتبته في المجلة، وكان عن الاجتهاد أو التجديد، وقد ختمته بهذه الكلمة: إن جمودنا ووقوفنا في مكاننا لا يمنع الفلك من السير، ولا الأرض عن الدوران! وقد جاءتني اتصالات شتى تثني على المقال، وتلح عليَّ أن أستمر في هذا الاتجاه، فوجود هذا اللون من الكتابة الإسلامية التي تراعي الأصول، وتخاطب العقول، ولا تناقض النقول: أمر مطلوب في مثل هذه المجلات المقروءة.

وأعتقد أن هذا هو الاتجاه السليم، والمنطق الحكيم في الموقف من مثل هذه المنابر والأجهزة والمؤسسات المختلفة، محاولة الاستفادة منها، والتأثير فيها، بدل العزلة عنها.

وقد تبيَّن لي بالممارسة: أني كسبت أرضًا جديدة بالكتابة في هذه المجلة، وأني أوصلت أفكاري عن الوسطية الإسلامية التي أتباناها إلى جمهور جديد من القراء، لم يكن بإمكاني الوصول إليه عن طريق مجلة الأمة، وأمثالها من المجلات الإسلامية.

مجلة الصقر الرياضية:

ومن المجلات التي كانت تصدر من قطر: مجلة «الصقر»، وهي مجلة «رياضية» كانت توزع على مستوى العالم العربي، ولها شهرة في عالم الرياضة والرياضيين، في عصر أصبح للرياضة فيه شأن أي شأن، فالصحافة اليومية تفرد لها كل يوم صفحات، والقنوات التلفزيونية تفرد لأخبارها مساحات ومساحات. بل هناك قنوات خاصة للرياضة وأخبارها وكل ما يتعلق بها.

احتجاب المجلات الثلاث:

ظلت مجلة الأمة تصدر من قطر لمدة ست سنوات، ثم فجأة صدر قرار بإيقافها عن الظهور، هي وشقيقتاها القطريتان الأخريان: مجلة الدوحة، ومجلة الصقر.

قيل: إن الأسباب كانت مالية، وإن قطر في ذلك الوقت أرادت مراجعة نفقاتها، وتقليل مصاريفها، والاقتصاد في ميزانيتها.

ولكن ألم يكن هناك بند يمكن التقليل منه والتضييق فيه غير البند الثقافي؟

كم في الميزانيات العامة من أمور يمكن الاستغناء عنها، أو التقتير فيها، ولا يتضرر أحد ولا يشكو من وراء ذلك. أكانت الثقافة هي الجانب الضعيف الذي لا يجد محاميًا عنه إذا جير عليه أو انتقص من أطرافه؟ كما قال أبو العلاء للديك الذي ذبحوه وقدموه له: استضعفوك فذبحوك، هلا ذبحوا شبل الأسد؟!

لقد خسرت قطر باحتجاب هذه المجلة «الأمة»: سفيرًا شعبيًا متجولًا، يشيد بذكرها، وينشر فضلها في أنحاء العالم، ولن تعوضه بعشرات السفراء، التي يكلفونها عشرات ومئات الملايين.

وكم أتمنى أن يراجع المسئولون أمير البلاد في هذه القضية، وهو رجل متفتح في فكره، وينظر في الأمور نظرة متوازنة، ولا سيما في عصر أصبح لها صوت مسموع ممثل في قناة الجزيرة، التي أمست غصَّة في حلوق كثير ممن لا يحبون أن يشاهدوا الحقيقة عارية، ولا أن يروا الرأي والرأي الآخر، بل يريدون الإعلان عما في صالحهم، والسكوت عما يكشف عوارهم، أو إلباسه لباسًا آخر يغير صورته، أو يغير حقيقته، ولعنة الله على الظالمين والمزورين.

إن قطر اليوم التي أصبح لها وزن عالمي - رغم صغر مساحتها وقلة سكانها - والتي أصبحت تستضيف المؤتمرات العالمية على كل المستويات، الفكرية والتربوية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية وغيرها: جديرة بأن تعيد النظر في وضعية مجلة «الأمة» إلى الظهور من جديد، ولا سيما أن رفيقتها «مجلة الدوحة» الثقافية قد عادت إلى الظهور، لتؤدي رسالتها من جديد.