د. أحمد زايد

ثالثا: القرضاوي والطريق إلى التجديد

الكلام عن التجديد عند العلامة «القرضاوي» لا بد أن يبدأ بتناول المؤهلات التي وصلت بالشيخ إلى صفة «المجدد»، وهذا يفسر لنا حقيقة التجديد عند الشيخ وأنه ليس انتحالا ولا ادعاء وإنما هو حقيقة ماثلة لمن تأمل وعرف طريق القرضاوي إلى التجديد.

 مؤهلات التجديد لدى القرضاوي:

 في هذه المسالة نتناول الأسباب والعوامل والدوافع والأجواء التي وصلت بالشيخ إلى درجة «التجديد» وهي كما يلي:

 الانطلاق من الفهم الصحيح للقرآن وفهم السنة المطهرة في ضوئه 

القرآن الكريم والسنة المطهرة هما أصل الإسلام ومصدره الأساس، من فهم القرآن الكريم وفهم طبيعة الخطاب القرآني ورد النصوص النبوية إليه وحاكم إليه الظنيات، ورد إليه كلام الفقهاء وتفريعاتهم سعد بحسن الفهم وصحة النظر الشرعي.

ونحسب الشيخ القرضاوي من هؤلاء النفر الذين منحهم الله تعالى حسن الفهم للقرآن وفهم السنة وقضايا الشريعة والحياة في ضوئه فمنحهم الله تعالى ما منح كلامه من أنه لا تنقضي عجائبه وهذا هو روح التجديد.

وقد قال في مقدمة كتابه «فتاوى معاصرة»:

»وقد تبين لي بطول الدراسة والممارسة، أن الرجوع المباشر إلى الكتاب والسنة يقترن دائما بالتخفيف والتيسير، والبعد عن الحرج والتعسير. على خلاف الرجوع إلى الفقه المذهبي الذي حمل على طول العصور كثيرا من التشددات، نتيجة الاتجاه إلى الأخذ بالأحوط غالبا، وإذا صار الدين مجموع «أحوطيات» فقد روح اليسر، وحمل طابع الحرج والمشقة، مع أن الله تعالى نفي الحرج عنه نفيا باتا حين قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}».

وللشيخ رحلة طويلة مع القرآن سجلها في مذكراته حيث ابتدأ حفظه صبيا صغيرا في التاسعة من عمره كما كتب عن نفسه، فتشربت روحه روح القرآن، يظهر ذلك جليا لمن تتبع فكر الشيخ وفتاواه واجتهاداته، حتى إنه -رحمه الله- في كتابه القيم «كيف نتعامل مع القرآن العظيم» قعد قاعدة نصها: »الاهتمام بالأشياء على قدر اهتمام القرآن بها» وهي قاعدة جليلة تحقق التوازن في فهم قضايا الشرع والواقع، قال الشيخ عنها إنها «معيار لا يضل ولا يخطئ» وفصل الشيخ في هذه القاعدة تفصيلا علميا أصل به قاعدته.

وفي كتابه «كيف نتعامل مع السنة النبوية» وفي الباب الثالث منه وعنوانه «معالم وضوابط لحسن فهم السنة النبوية«؛ ذكر -رحمه الله- أيضا قاعدة مكملة للقاعدة السابقة جعلها المعلم الأول من معالم حسن فهم السنة وهي: «فهم السنة في ضوء القرآن الكريم«.

وقال في هذه القاعدة:

»فالقرآن هو روح الوجود الإسلامي، وأساس بنيانه، وهو بمثابة الدستور الأصلي الذي ترجع إليه كل القوانين في الإسلام فهو أبوها وموئلها»، ثم حاكم الشيخ بعض الروايات إلى القرآن وبين حقيقتها وموقعها من الشرع الحنيف.

ولقد عاب الشيخ -رحمه الله- على قوم يهملون تلك الأصول والمرجعية الكبرى في الإسلام، ويتيهون في خضم كلام البشر غير المعصوم ولا يصلون إلى شيء ذي بال بعد إهمال الأصول وقد قالوا قديما «من ضيع الأصول حرم الوصول«.

إن المطالع لتراث الشيخ يلمس بوضوح كيف يستشهد بالقرآن وكيف يحل به معضلات فكرية وفقهية اضطربت فيها الأقوال بسبب عدم إحكام النظر في نصوص الوحيين، وهنا أذكر أمثلة تبين أن الفيصل فيها هو فهم القرآن وحسن تنزيل آياته، أسوقها هنا كنماذج يمكن لمن أراد التوسع فيها الرجوع إلى مظانها من كتب الشيخ:

قضية حكم السلام على أهل الكتاب

قَضية تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم

قضية سر تكرار قصة سيدنا موسى وبني إسرائيل في القرآن الكريم

وكثيرة تلك القضايا التي استطاع الشيخ -رحمه الله- تبيان وجه الحق فيها بصورة تقطع الجدل حولها، وهذا أفق في الفهم والتجديد لا يوفق إليه الكثيرون.

تخرجه في مدرسة فكرية وفقهية تجديدية:

 يتأثر الإنسان بطبيعة المدرسة فيها، ومن حسن القدر الإلهي أن ينتمي الشيخ مبكرا إلى مدرسة فقهية اشتهرت بمدرسة «الرأي«، وهي مدرسة الحنفية فكان لها أثر كبير في عقلية الشيخ الناقدة التي تنظر إلى الأسرار وما وراء النص، وقد ظهر هذا مبكرا في منهجية الشيخ الفقهية بدءا من كتابه القيم «الحلال والحرام« وانتهاء بفتاويه المعاصرة التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا.

ثم تأثر الشيخ بمدارس ومنهجيات المجددين الأقدمين الذي ينمي منهجهم العلمي والعملي في تلامذتهم الملكة أكثر من التحصيل، من هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ثم بدا تأثر الشيخ بالشاطبي والعز بن عبد السلام واضحا جليا، والعز والشاطبي كلاهما مدرسة لا تزال بكرا إلى اليوم، وقد رأيت تأثر الشيخ واضحا بمنهجية الشاطبي، لاحظت ذلك وأنا أبحث رسالتي في الدكتوراه «فقه الدعوة عند الإمام الشاطبي«.

فقد وسع الشيخ أفكاره وأحيا مفاهيم كثيرة طرحها الشاطبي، ويكفي أن نعلم أن كتاب الشيخ القرضاوي «عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية» قام بنيانه على موضع للشاطبي في الموافقات، إلا أن القرضاوي وسع البنيان، وضرب الأمثلة وربط بين النظرية الشاطبية والتطبيق المعاصر بصورة ببديعة.

وفي كتابه »فقه الأولويات» ترى عصارة فكر العز بن عبد السلام بادية، والعز صاحب إبداع غير مسبوق في نظريته في «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» التي صاغ القرضاوي أيضا نظرية «الأولويات» في كتابه القيم الماتع «فقه الأولويات» الذي تتلمذ عليه الكثير في المشارق والمغارب، تلك «المدرسة التراثية» التي تأثر بها الشيخ فغرست في نفسه روح التجديد والعملية.

أما المدرسة الحديثة في التجديد فقد كان الشيخ أحد تلامذتها، ثم أصبح أحد بل أبرز أعلامها من هذه المدارس:

مدرسة الإحياء الفكري:

وهي مدرسة الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا.

ومدرسة التجديد الشامل للإسلام:

وبخاصة في جانب الدعوة وهي مدرسة «الإخوان المسلمون» ورائدها وإمامها المجدد «حسن البنا» - رحمه الله-  وللشيخ تأثر واضح بأعلامها وروادها وبخاصة الإمام البنا والشيخ الغزالي والفقيه سيد سابق.

وقد أوفى الشيخ لتراث هذه المدرسة خدمة وتوسيعا وتجديدا، فشرح مسائل هامة من فكر الإمام البنا كالأصول العشرين شرحا غير مسبوق، وتناول كثيرا من أفكار شيخه الغزالي الفكرية والفكرية بالشرح والتوسيع والتأصيل.

وقد سجل -رحمه الله- أثر تلك المدرسة في نظراته التجديدية قائلا: وكان من نعمة الله علي أن تحررت منذ وقت مبكر أيضا من ربقة التمذهب والتقليد والتعصب لقول عالم بعينه، وإن كانت دراستي الرسمية للفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.

ويرجع الفضل في ذلك لعدة عوامل، منها:  

بيئة الحركة الإسلامية التي كنت أعيش في رحابها، ودعوة مؤسسها الشهيد حسن البنا -رحمه الله- في رسالته المركزة المسماة «رسالة التعاليم» إلى التحرر من العصبية، ووزن أقوال المتقدمين بميزان الكتاب والسنة، فما وافقهما من أقوال السلف قبلناه، وإلا فكتاب ربنا، وسنة نبينا، أولى بالاتباع.

.....

* د. أحمد زايد: أستاذ مشارك في كلِّيتي الشريعة بقطر، وأصول الدين بالأزهر.

- المصدر: جريدة الأمة

* معالم التجديد في فكر الإمام القرضاوي (1)