الشيخ محمد تقي العثماني*

زرت الحرمين الشريفين عام 1974م وحضرت مع والدي العلامة الشيخ المفتي محمد شفيع -رحمه الله- مؤتمرًا عالميًا لشؤون المساجد عقدته رابطة العالم الإسلامي، وكنا مقيمين بفندق مكة، بجوار المسجد الحرام.

وكنت يومًا من الأيام أنزل من غرفتي إلى الحرم، فلما دخلت المصعد وجدت فيه شخصًا وقورًا تبدو عليه آثار الوجاهة ورزانة العلم، لقيني بوجهه المشرق، وابتدأ بالسلام علي -مع حداثة سني- ولما رددت عليه السلام؛ جعل يسألني عن وطني وعن سبب حضوري.

واستغربت منه هذه الأسئلة لما شاهدت كثيرًا من ذوي الوجاهة من إخواننا العرب، لا يلقون للأعاجم بالًا، فضلًا عن أن يبتدءوا بالسلام عليهم وبالاستخبار عن أحوالهم، ولكن جعلت هذه الشخصية الكريمة تخاطبني بكل بساطة، بالرغم من أنها أسنّ مني وأكبر.

وإن مجرد هذه الظاهرة جعلتني أميل إليها وأستأنس بها، وأستعظم خُلقها وأُقدِّر ما فيها من روح شفافة عالية، دون أن أعرف اسمها أو أطلع على مكانتها العلمية أو إنجازاتها العملية.

ولما ذكرت له أني حضرت هذا المؤتمر مع والدي الشيخ المفتي محمد شفيع؛ ذكر لي أنه يعرف والدي من خلال بعض كتاباته، وذكر من جملتها بحثًا لحضرة الوالد حول «توزيع الثروة في الاقتصاد الإسلامي»، وأنه قرأه في مجلة «البعث الإسلامي» وأعجب به؛ فإنه بحث يتضمن أفكارًا بديعة بأسلوب رائق؛ ومن هنا تبين لي أنه من العلماء المحبين للعلم الذين يتسع أفقهم العلمي لما وراء ثغور البلاد والقارات، فازددت له حبًا، وسألته عن اسمه الكريم، فأجابني: «يوسف القرضاوي»!

كان هذا أول لقاء لي مع فضيلة العلامة الداعية الكبير الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، حفظه الله تعالى في عافية سابغة ورفاهية دائمة، وكنت أعرفه قبل ذلك ببعض كتاباته القيمة، فجعلت أعرفه الآن بشخصيته النيّرة، وخُلقه الإسلامي الطيب وتواضعه الرفيع.

ولم يستغرق هذا اللقاء الأول إلا دقائق معدودة نزلنا فيها إلى الأرض، ومشينا فيها إلى الحرم، ولكن صار هذا اللقاء مقدمة طيبة للقاءات متتابعة تشرفت بها بعد ذلك في مؤتمرات وندوات ومجالس علمية في مختلف أنحاء الوطن الإسلامي، وأثناء زياراته لباكستان وزياراتي لدولة قطر التي أصبحت قاعدة لأعماله العلمية والدعوية؛ حتى أصبحنا بفضل بعض الاجتماعات الدورية لعدة هيئات؛ كأننا أعضاء أسرة واحدة، فتشرفت بالتعرف عليه عن قرب وكثب؛ فما زادتني هذه المعرفة إلا حبًا لشخصيته وإجلالًا لمنجزاته العلمية، وتقديرًا لأعماله الطيبة، وإعجابًا بمجهوداته في سبيل إصلاح شؤون الأمة الإسلامية في شتى المجالات.

إن تأثري بشخصية فضيلة الدكتور القرضاوي أكبر بكثير من تأثري بكتبه ومؤلفاته، والذي نشاهده اليوم -مع الأسف الشديد- أن الذي يأتي بالأفكار العالية في كتاباته، وبالنظريات الرفيعة في أحاديثه وخطبه؛ ربما لا يرتفع في حياته العملية عن مستوى العامة، بل قد ينزل عنهم نزولًا بيّنًا.

أما فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، حفظه الله تعالى؛ فقد أسعدني الله تعالى بصحبته في السفر والحضر، وبمجالسته ومرافقته في لقاءات طويلة ومتكررة؛ فوجدته تتجلى في شخصيته المزايا الإسلامية المثالية، فهو إنسان قبل أن يكون مسلمًا، ومسلم متمسك قبل أن يكون داعية، وداعية قبل أن يكون عالمًا وفقيهًا.   

أمد الله تعالى في حياته الطيبة، وأبقاه ذخرًا ثمينًا للإسلام والمسلمين. والحمد لله أولًا وآخرًا

......

* أحد كبار علماء باكستان

- المصدر: «يوسف القرضاوي.. كلمات في تكريمه وبحوث في فكره وفقهه».