عصام تليمة

الشهيد سيد قطب رجل ملأ الدنيا وشغل الناس حيا وميتا، ولا يزال لشخصه ومؤلفاته أثر بالغ من حيث الحديث أو النقاش أو التداعيات، وفي كل فترة يفتح موضوع: هل كفر سيد قطب المجتمع والناس؟ وقد كان النقاش قبل كلام شيخنا العلامة يوسف القرضاوي كلاما يدور حول كلامه عن الجاهلية فقط، دون العثور على نصوص صريحة واضحة في التكفير، إلى أن جاء القرضاوي فاستخرج نصوصا من كتبه: «في ظلال القرآن»، و«معالم في الطريق»، و«العدالة الاجتماعية في الإسلام».

ومنذ نشر القرضاوي لهذه النصوص، سواء في الصحف، أو في كتابه «ابن القرية والكتاب» في ملاحق الجزء الثالث منه، وهي موضع جدل. فكارهو سيد من غير الإسلاميين أو من الإسلاميين الرافضون لكلامه يستدلون بكلام القرضاوي، ومحبو سيد يرفضون كلام القرضاوي، بل إن كثيرين تساءلوا وقت نشر هذه النصوص: لماذا ينشر القرضاوي هذا الكلام؟ ولماذا أفرغ نفسه ووقته ليبحث عن هذه النصوص؟ ولأني شاهد وحيد على هذه القصة كاملة، وهي: حديث القرضاوي عن تكفير سيد قطب للمجتمع، فقد وجب عليّ أن أذكرها بتفاصيلها، لتضع ما كتب في سياقه العلمي، وفي موضعه اللائق بالرمزين الكبيرين: سيد قطب، ويوسف القرضاوي.

 كيف يكتب القرضاوي مذكراته؟

من عادة القرضاوي في كتابة مذكراته، أن يجلس أولا ليحدد مفردات هذا الجزء الذي سيكتب، وقد كتب وقتها جزأين منها وشرع في كتابة الجزء الثالث، والقرضاوي لا يفعل ذلك في بقية كتبه، فمفرداتها ومضامينها وعناصرها كلها في رأسه، يكتب وتبدأ تتسع شيئا فشيئا. أما المذكرات فإنها تاريخ وربما فاته حدث ولذلك فهو يكتب المحاور أولا، وقد دعا عددا من أصدقائه القدامى ممن عاصروا معه أحداث السجون، فجلسوا وحكوا ما لديهم، تذكيرا له ولهم بهذه الأحداث.

وقد جلس يستمع في هذه المرحلة لكل من الشيوخ مع حفظ الألقاب: عبد المعز عبد الستار، عبد العظيم الديب، عبد التواب هيكل، محمد الراوي، أحمد العسال، وغيرهم، فذكر كل منهم ما تختزنه ذاكرته حول هذا التاريخ.

ماذا كتب عن سيد قطب أولا؟

ثم جاء القرضاوي إلى الجزء الثالث من مذكراته، وبدأ بالحديث عن ذكريات عام 1965م، وقصة تنظيم 65، وهل كان حقيقة أم لا؟ وهو يميل إلى أنه كان وهما، واعتمد على التعذيب الذي وقع المباحث، فيما أسماه بالصراع بين الأجهزة وتنافسها على رضا عبد الناصر. وبين في هذه المرحلة إعدام سيد قطب، ودوره في الجهد الإعلامي قبل إعدامه للتحرك في قضيته، ونشر قصيدته ملحمة الابتلاء، الشهيرة بالملحة النونية.

وكتب القرضاوي صفحات عن سيد قطب، وعن تطور مراحله، بداية بالمرحلة الأدبية، وانتهاءً بمرحلة الإخوان وإعدامه، في عدة صفحات، ثم ختمها كعادته بالاستدراك حول الشخصية، فيما يختلف معه فيه، فبين أنه يختلف معه في قضية غالى فيها سيد قطب ألا وهي تكفير المجتمع.

الردود على رأي القرضاوي

لا تزال عادة القرضاوي أن يكتب كل ما يخرج من كتبه ومقالاته بخط يده، فلا يملي، ولا يكتب له أحد، كما يزعم بعض الكذبة من شيوخ السلطة. وبعد أن كتب بخط يده هذا الكلام قمت بصفه على الكمبيوتر، حيث لم يكن وقتها معه أحد غيري في السكرتارية العلمية، وحتى بعد مجيء عدد من الإخوة الفضلاء للعمل مع الشيخ ظل يكتب بنفسه.

وما أن أرسلت المادة للنشر في جريدة الوطن القطرية أولا، ثم إسلام أون لاين ثانيا، ثم جريدة آفاق عربية المصرية ثالثا، وقرأ الناس ما كتبه القرضاوي، حتى أحدثت كلمته ضجيجا، وردودا كثيرة، منها المؤدب، ومنها المتجاوز، ومنها المتعقل ومنها المتشنج، حتى اتصل بي أحد كبار الإخوان وتكلم بطريقة لا تليق لا بسنه، ولا بمقام الشيخ، فنبهته لذلك، ثم كلمني شيخ أزهري يتعصب لسيد قطبوقال إن الله لن يترك القرضاوي دون عقابه على تجنيه على الشهيد، قلت له: يا مولانا، وهل الرأي العلمي ذنب يستدعي عقوبة من الله؟!

بعد هذه الضجة جراء ما ذكره القرضاوي، تعجب  الشيخ كيف وقع ذلك لمجرد أن ذكر رأيا له عليه أدلة ونقول. إلى هذه اللحظة كنا نظن أن القرضاوي سيأتي بعبارة أو أخرى لسيد من “معالم في الطريق”، وبخاصة أن الدكتور محمد عمارة قبل كتابة القرضاوي كلامه عن سيد، كان قد ألقى بحثا في ندوة اقرأ الإعلامية التابعة لدلة البركة بمكة، ونقل نصا من المعالم، وقد كان القرضاوي حاضرا.

استفزاز دفع القرضاوي للإتيان بنصوص التكفير

كان القرضاوي قد اكتفى بمجرد رأيه، ولم يرد فتح الموضوع، لكن الكتابات والتعليقات والردود، والاستفزازات سواء ما كان منها بدافع علمي، أو ما كان منها بدافع التعصب لقطب، دفعته إلى نشر كثير من نصوص التكفير الواردة في كتب سيد قطب.

وكنت أوصل إليه التعليقات المؤدبة والعلمية فقط، وأخاطبه بما ائتمنني عليه الناس، بأننا قرأنا كتب سيد ولم نجد فيها تكفيرا، فمن أين أتى القرضاوي بهذا التكفير؟

ثم كانت المفاجأة حين وجدت الشيخ يقول لي: أتريدون نصا؟ هل تريد نصا يا عصام؟ عندي عشرات النصوص لسيد كلماته فيها تنضح بالتكفير. كانت جملة الشيخ مفاجأة لي، فأغرتني بأن أدفعه للإتيان بهذه النصوص، حتى لا يظن بعض المتعصبين أن القرضاوي يغار من شعبية سيد، أو من حب الناس له.

قلت له: يا مولانا، وأين هي هذه النصوص؟ فلتأتنا بها. قام الشيخ وجاء بنسخة من ظلال القرآن قديمة، ليست النسخة التي ينقل منها دائما (طبعة الشروق)، فقد جاء بنسخة من القطع المتوسط، وهي طبعة: الحلبي بمصر، مجلدة بجلد لونه عنابي، ثم أخذ يفتح الصفحات ويكتب لي أرقاما وقال لي: اذهب وصور هذه الصفحات، وكنت كلما صورت من مجلد ورجعت، أفاجأ به وقد جاءني بمجلد آخر، ووضع لي ورقة صغيرة برقم الصفحات، ثم جاء بالمعالم، ثم بالعدالة الاجتماعية.

كانت المفاجأة أن القرضاوي لم ينتظر طويلا، ولا مدة زمنية ليعود إليّ بتلك النصوص، بل بدا -كعادته عندما تسأله عن مسألة قد قتلها بحثا يجيبك مسترسلا- وكأن الموضوع قد شغله منذ زمن، وتركه ولم يعد إليه، فلما استثارته الردود قام فجاء بها كأنها مجهزة في مكان، ولولا أني رأيت بنفسي كيف أتى بالنصوص، لظننت أنه أعدها منذ مدة وصورها، واحتفظ بها، كعادة الشيخ في كثير من القضايا يفتح لها ملفات ويضع فيها النقول والأفكار، ثم بعد ذلك تصبح كتابا، في هذه المرة كانت النصوص في رأسه، فقام وجلبها من الكتب.

بعد أن أتى بالنصوص، وطلب أن أقرأ بنفسي، ووجدته يضع خطوطا تحت العبارات، وجدت العبارات فعلا كما قال، فما أوجزه في سطر، جاءت النصوص تفصله وتشرحه وتثبته، فلم أناقشه في النصوص، لأن عباراتها واضحة بلا لبس للأسف.

قرأنا كتب سيد ولم نجد فيها تكفيرا

لكني ناقشت الشيخ فيما يثيره أي باحث في الموضوع، فقلت له: يا مولانا، لقد قرأنا الظلال وكل كتب سيد، ولم نشعر بأي مما ذكرت، فلماذا؟ فأجابني: بالنسبة لك ولأمثالك من الأزهريين، فثقافتك الأزهرية تمنعك من ذلك، وتجعلك تغربل، وتتغاضى لأنك في سياق القراءة لا في سياق النقد والتقويم، فتمضي العبارات دون أثر لديك، ولا تأثير فيك من جهة التكفير.

وأما بالنسبة للإخوان، فإن الحصيلة التي تعطى للإخوان في الموقف من التكفير، والأصول العشرين لحسن البنا، وبخاصة الأصل العشرين منها، وكتاب: دعاة لا قضاة، يجعل لدى الإخواني أيضا سدا يمنع فكره من التكفير، فيجعل كل عبارة يقرؤها لها تأويل، تبتعد به عن تصديق أن هذه العبارة من سيد هي تكفير، بل تجعله في الغالب يظنها شديدة فقط بسبب المحنة والسجن.

مسجون جنائي ينفي عن سيد التكفير

ثم ذكرت للشيخ حادثة كنت قد التقيت صاحبها وجها لوجه، وقد كتبت قصته في مقال لي من قبل، وهو مسجون جنائي من عرب الجيزة، من منطقة تسمى عزبة غيضان، قريبة من بلدتنا (أوسيم) اسمه الحاج خليل علوة رحمه الله، وقد كان قاتلا، بل حسب تعريفه لي: «قتَّال قتلة»، وجدته يصلي، فسألته: من علمك الصلاة؟ فقال: واحد اسمه الشيخ سيد قطب، وقد كان خليل جارا لقطب طوال فترة سجنه عام 1965 حتى استشهاده، وقد ودع خليل مرتين واحتضنه قبل إعدامه، وقال له: نلقاك في الجنة يا خليل، كان يقولها وعينه تدمع، وقال لي خليل: قالها مرة، ثم عاد، ثم قالها ثانية، ولم يعد.

حكى لي خليل علوة أن الإخوان جاؤوا لسيد وسألوه: هل صحيح ما ينقل عنك أنك تكفر المجتمع؟ فقال لهم سيد: لحظة، يا خليل، قال: نعم يا شيخ سيد، قال: تعال، عايز اسألك سؤال، لو واحد مسلم سب لك الدين، تعمل إيه؟ فقال خليل: أسب له دينه ودين أبيه، أسب له ثلاثين دينا. فقال سيد: طيب ولو واحد مسيحي سب لك الدين، تعمل إيه؟ فقال خليل: أقطع رقبته. فقال سيد: توكل على الله أنت يا خليل. وسمع خليل سيد يقول للإخوان: هذا الرجل الأمي القاتل، استطاع أن يفرق بين المسلم العاصي، وبين الكافر الأصلي، أفيعجز سيد قطب، لقد حملت بضاعتي على حمار أعرج.

لم يقل لي خليل الحكاية بهذه العبارات الدقيقة، بل دقق لي المعلومة والعبارات، الأستاذ محمد قطب رحمه الله، التقيته في سنة 1998م في كلية الشريعة بجامعة قطر، كنت قد جمعت تراث سيد قطب كله وأريد إخراجه في أعمال كاملة، فرفض. ثم سألته عن هذه الحادثة، فأكدها لي، وقال: أنا أحد الشهود عليها، وصديقك المسجون الجنائي هذا، وهي صحيحة مئة في المئة.

ذكرت هذه القصة لشيخنا القرضاوي، وقلت له: ما ردك؟ يعلم قاتل الصلاة، ويقول له: نلقاك في الجنة؟ فهو يراه مسلما، فقال لي الشيخ: هذا لا ينفي ما قلته، لقد كتب سيد ما كتب، ولكنه عندما خرج من السجن، وقابل الناس، فوجئ بخطأ فكرته، وربما لو عاش ونوقش لعاد عنها، فسيد ليس جامدا، لكن هذا هو ما ثبت من فكره في كتبه، وكيف أعتمد على قصتك وقصة مسجونك هذا وأدع كتبه وما فيها من نصوص؟!

جل الردود على القرضاوي ضعيفة

أدركت أن رأي الشيخ صحيح علميا، ولا تشوبه شائبة، ولمعارضيه حق الاختلاف معه، لكن موقفه موثق بنصوص لا تخطئها العين، وأنه يجب أن نسرع في نشر هذه النقول، وبقي أن نختار من النصوص التي صورناها، لتكتب، ثم تنشر في رد له على موقع إسلام أون لاين. اقترحت أن يركز الشيخ على الظلال لأن كل من يتكلم في هذه المسألة يأخذ من المعالم، ولكن ما في الظلال هو المفاجأة، وفيه نصوص كثيرة جدا، وقلت له: أرى أن الأفضل أن تأتي بنصوص لا تتعرض للكفار، أو الكافرين، أو الكفر، حتى لا يكون هناك مبرر لمن يتعصب بأن النص يتحدث عن كافرين، فربما التبس عليهم أو على القراء، فلتكن النقول عن آيات تتحدث حديثا بعيدا عن الكفر، واستحسن الاقتراح.

ثم نشرنا رد القرضاوي على من نقدوا موقفه، ولم يسكتوا أيضا، فمنهم من قال: ولماذا أفرغ نفسه للإتيان بالنصوص، ولنقد سيد رحمه الله؟ وقد بينت أنه لم يفرغ نفسه، بل كانت حاضرة بلا أدنى مجهود يذكر، وفوجئت بردود من الإخوان صدرت للأسف من غير مختصين لا بفكر سيد، ولا بالفكر الإسلامي، أو البحث العلمي، فكان ممن ردوا على الشيخ: الدكتور محمود عزت، والدكتور محمد مرسي، والأستاذ أحمد عبد المجيد، رحم الله الجميع، وكلهم أناس فضلاء، لكنهم ليسوا مختصين، ولا ذوي اختصاص بفكر سيد، عدا عزت وعبد المجيد فقد كانا مع سيد في تنظيم 65، وهذا لا علاقة له بالموضوع، فلم يكن الحديث عن أن التنظيم يكفر، بل عن أن فكر سيد فيه تكفير.

كان ما نقله القرضاوي من نقول، عملا علميا جديدا، لم يسبقه إليه أحد، وبخاصة كما ذكرت نقوله من الظلال، فكل من ناقش سيد، سواء بغرض النقد النزيه، أو التجني من خصومه، اعتمد على «معالم في الطريق»، رغم أن المعالم هو أخف النصوص والنقول والمواقف، وقد كان خصوم سيد يقولون الكلام من باب الغرض، ودون بينة، وليس من باب البحث العلمي، أما كلام القرضاوي فكان عن بحث وتبصر، وروية، وإنصاف لسيد، وإنصاف للعلم نفسه.

.....

- المصدر: الجزيرة مباشر، 22-7-2022