راشد الغنوشي

منذ ما لا يقل عن نصف قرن حجز شيخنا الحبيب مقعده في الصف الأول من قادة الفكر والسياسة والدعوة الإسلامية، وما تلبث طويلًا حتى انفرد بمقعد الرئاسة شاقًا وسط الفوضى الفكرية والدعوية الإسلامية نهجًا متميزًا لا يزال به يمحضه ويدققه ويطوره ويوسع تطبيقاته، إنه: «نهج الوسطية» كما دعاه، الوسطية في الاعتقاد والوسطية في السياسة وفي كل مجال هناك وسط ذهبي بين تطرفين.

- نشأ شيخنا الحبيب أزهريًا لامعًا متفاعلًا مع عصره وتعرض كأمثاله لأنواع من البلاء، إلا أن السياسة لم تصرفه وهي مناط التكليف، عن التبّحر في علوم الشريعة من حيث تفاعلها مع الواقع المتطور في كل أبعاده الثقافية والفكرية والعلمية والاقتصادية والدولية، فإنما جاء الإسلام ليقود الحياة وليس ليعتزلها، هامشًا من هوامشها، جاء ليطورها في اتجاه تحقيق مقاصده العليا في العدل والحرية والكرامة.

- لقد خاض الشيخ خلال ثلاثة أرباع قرن من حياته معارك باردة وحارة على جبهات كثيرة جمعتها موسوعة عظيمة زاخرة بفيض من العلوم والمعارف، ضمت 170 كتابًا: موسوعة القرضاوي لعل أهمها كتابه الحلال والحرام وأطروحته للدكتوراه «فقه الزكاة»، وكتابه الضخم حول «فقه الجهاد»، لعله أعظم ما ألّفه عالم مسلم حول الجهاد، والذي بقدر نبل أغراضه في الإسلام إذا فُهم على حقيقته؛ بقدر ما تم استعماله للضرر به وتشويهه، من خلال فهوم معوجة منحرفة حول الجهاد كما حصل في أزمنة مختلفة، وبخاصة خلال النصف قرن الأخير حيث فشا الظلم فكانت الفرص للانفلات والفوضى والاجرام باسم الجهاد؛ ولأن الله حافظ دينه فقد قيض علامتين: الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي، الأستاذ والتلميذ، ليذبا عن دين الله هجمة المغالين وانتحال المنتحلين وتطرف المتطرفين وتوحش المتوحشين المستبيحين للدماء وللخراب موفرين للإعداء المتربصين فرصًا كثيرة لرمي الإسلام بالإرهاب وتشويهه.

- لقد تصدى الشيخ وتلميذه لظاهرة الإرهاب في موطن انطلاقها في مصر؛ رد فعل غبي أهوج على ظلم الحكام وتوحشهم.

ولم تكن الحملات الأمنية على اتساعها وتجاوزاتها مؤهلة للوقوف في وجه فكر العنف والتطرف، ولولا الله الحافظ لدينه الذي سخر القرضاوي ومدرسة الوسطية للرد على هذه المفهوم المتطرفة لتم اختطاف الإسلام من طرف الإرهاب والشبكات المتحالفة معه.

ومن نكد الزمان وقلب حقائق الأمور رأسًا على عقب أن تبلغ الاستطالة على أهم رمز للإسلام الوسطي المعاصر تم اختياره من طرف إكبر منظمة علمائية معاصرة «اتحاد علماء المسلمين» ضمت في عضويتها عشرات الآلاف من العلماء، فيُرمى رئيسها بالإرهاب، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا}.

سيبقى القرضاوي شيخنا الحبيب رافعًا لواء إسلام الوسطية والاعتدال؛ ما بقي مؤذن يوقظ الغافلين «حي على الصلاة حي على الفلاح».

وأنا أشرف بأني من تلاميذ القرضاوي، تبادلت معه المحبة والإعجاب والرأي، شاهدًا أنه  كان رحمه الله من القلة الذين قرأت عنهم قبل أن ألقاهم، فلما لقيته لم تهتز الصورة وإنما زادت رفعةً واشراقًا، وكذا كان الأمر مع أستاذي الآخر الجزائري مالك بن نبي رحمهما الله رحمة واسعة واخلف فيهما أمة الإسلام والأهل خيرا و «إنا لله وانا اليه راجعون».