د. خالد فهمي

يوشك أن يكون النظر المقاصدي هو الميزان الفصل والحاكم على منزلة فقيه من غيره في العصر الحديث؛ ذلك أن الوفاء للمتون الفقهية القديمة، وحفظ المسائل والقدرة على التعاطي مع النصوص ربما يخرج فقيها، لكنه سيظل فقيها أعرج الخطى متعثر القدرة ما لم يقترن ذلك كله بقدرة فقهية ترعى النظر المقاصدي.

ولا شك أن العلامة الشيخ يوسف القرضاوي استأهل هذه المنزلة بحيازته أسبابًا عديدة في مقدمتها تحكيمه للنظر المقاصدي فيما صدر، ويصدر عنه من فتاوى ودراسات. وهو الأمر الذي لمسه، وتوقف أمامه الباحث د. وصفي أبو زيد، ودعاه إلى أن يخصه بدراسة تفحص هذا الجانب من النظر في اجتهاد القرضاوي، وهى التي عنوانها (رعاية المقاصد في منهج القرضاوي: رؤية استقرائية تحليلية تطبيقية). وقد جاءت الدراسة في تمهيد وثلاثة فصول كما يلي:

تمهيد حول فكرة التعليل عند القرضاوي:

الفصل الأول

ماهية المقاصد عند القرضاوي: معناها، طرق الكشف عنها، ترتيبها، وأولوياتها، وفيه المباحث التالية: (معنى المقاصد/ طرق الكشف عن المقاصد / ترتيب المقاصد وأولوياتها عند القرضاوي).

الفصل الثاني

ملامح التجديد المقاصدي عند القرضاوي، وفيه المباحث التالية:(مراجعات في الكليات خاصة /مراجعات في المقاصد عامة).

الفصل الثالث

مجالات التجديد تفعيل المقاصد عند القرضاوي، وفيه المباحث التالية (المقاصد والقرآن الكريم / المقاصد والسنة النبوية / المقاصد ودارسي الشريعة / المقاصد والاجتهاد / المقاصد والفقه / المقاصد والفتوى/ بين  المقاصد الكلية والنصوص الجزئية/المقاصد والأولويات /المقاصد والعقيدة الإسلامية).

وهذا الكتاب ثمرة صحبة ظاهرة من المؤلف لمؤلفات العلامة الدكتور القرضاوي من جانب، وثمر صحبة ظاهرة أيضا للشيخ نفسه؛ التقاه، واقترب منه، ففجرت هذه الصحبة بنوعيها في نفسه شعورًا صحيحًا وحقيقيًّا بقيمة الدكتور القرضاوي، ومنزلته العلمية التي يكاد ينفرد بها من دون كل الأعلام الفقهاء المعاصرين.

ولعل أهم صوت ينبغي أن يبرز هنا في تقييم منجز القرضاوي في النظر المقاصدي، وفى غيره – هو انتماء العلامة إلى الحركة الإسلامية، وانخراطه في صفوفها منذ وقت قديم مبكر، أسهم إسهامًا فعالا في تكوينه العلمي، وغذته بقدر وافر من  العناية بقضاياها، وهمومها، ومشكلاتها، تعانقت مع عوامل أخرى جعلت منه فقيه الدنيا في هذا العصر الحديث بلا منازع.

التعليل والمقاصد: أمارة منهج:

افتتح أبو زيد كتابه بعبارة واضحة نفذت إلى عمق القضية التي يعالجها قرر فيها: أن تعليل الأحكام هو الأساس الذي تنبني عليه المقاصد الشرعية، يتأسس على إثباتها إثبات القول بالمقاصد الشرعية. وقد تنبه إلى أن عناية القرضاوي بالتعليل المصاحب للأحكام هو المدخل المفتوح لقراءة وعى الشيخ بالمقاصد الشرعية، وهو بهذا سائر مع التيار الممتد الجارف الشائع الذي يقول بتعليل الأحكام. وهو الأمر الذي يستفيض استفاضة ظاهرة في كتابات القرضاوي، وهى كتابات تعكس وعى الشيخ بتراث الأمة في خدمة المقاصد، وهو ما يلتقطه أبو زيد من خلال الإشارة إلى اقتباسات القرضاوي لنصوص من مؤلفات الغزالي والشاطبي وابن القيم في غير عدد من مؤلفات العلامة القرضاوي من مثل: مدخل لدراسة الشريعة، ودراسة في فقه مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، والسنة مصدرا للمعرفة والحضارة.

وقد كان طريق تعميق النظر المقاصدي عند الشيخ ناتج عناية أربعة أسباب مجموعة، يمكن إجمالها فيما يلي:

1- تدبر القرآن الكريم والسنة المشرفة وما فيهما من تعليلات شتى.

2- استقراء أحاكم الشريعة بما تنطوي عليه من قيم ومثل ومصالح.

3- فحص مؤلفات الأئمة العلماء الذين اعتنوا بالمقاصد قديما وحديثا من أمثال: ابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، وولى الله الدهلوي، وابن الوزير، ورشيد رضا وغيرهم.

4- معايشة رموز العلماء المعاصرين الذين نزلت منهم الفكرة المقاصدية منزلة ظاهرة من أمثال: محمد الغزالي، ومحمود شلتوت، ومحمد عبد الله دراز، ومحمد يوسف موسى، ومحمد المدني، ومحمد أبي زهرة، وعلى الخفيف، ومحمد مصطفى شلبي، وعبد الوهاب خلاف، وعلى حسب الله، ومصطفى الزرقا، ومصطفى السباعي، والبهي الخولي، والسيد سابق وغيرهم!

وقد كانت هذه المعايشة لهؤلاء الأعلام مقرونة بالعناية بقضايا الأمة وهمومها  والنوازل التي أحاطت بها في هذا العصر الرهيب.

المقاصد من الماهية للأولوية:

ينتقل المؤلف لمعالجة مفهوم المقاصد مبينا طرق الكشف عنها، وترتيب أولوياتها. ويخلص إلى أن تعريف الشيخ الذي يقرر فيه أن المقاصد هي: الغايات التي تهدف إليها النصوص، من الأوامر، والنواهي، والإباحات، وتسعى الأحكام الجزئية إلى تحقيقها في حياة المكلفين أفرادا وأسرا وجماعات”، على ما جاء في كتابه: دراسة في فقه مقاصد الشريعة – يتميز بميزة مهمة جدا تجاوز فيها الاهتمام بالفرد، وهو المشغلة القديمة للمقاصديين، إلى العناية بالمقاصد الجماعية والاجتماعية، من الأسرة والمجتمع والدولة والأمة، وهو بعض حصاد التزكية الحركية التي تجذرت منذ زمن بعيد في تكوين الشيخ الوجداني والعقلي معا.

ثم يكشف أبو زيد عن سُهْمة القرضاوي في الكشف عن طرق بيان المقاصد، والتي أجملها في طريقين هما:

1- طريق تتبع النصوص المعللة في الكتاب والسنة، سواء اقترن ذلك التعليل بطريقة ظاهرة لغوية، أو بطريق غير رسمية.

2- طريق استقراء الأحكام الجزئية وتتبعها وتأملها. ولا يكتفي وصفى بهذا، وإنما يضيف إليهما – على طريق الانتقاد الموضوعي الهادئ – طريقا أخرى ضمت: المقام والقرائن والملابسات ربما هي طريق فاعلة في تحديد المقاصد الشرعية لعدد من الأحكام الشرعية المختلفة، ولا سيما فيما هو مشتبك مع الواقع السياسي والاجتماعي للأمة.

ويقف وصفى عاشور أبو زيد أمام تقسيمات القرضاوي للمقاصد الشرعية وتوزيعها على: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، وهو التقسيم الذي أظهره الغزالي، واستمر متابعا عليه إلى اليوم، ليقرر معه ضرورة الاحتفاظ به وفق هذا الترتيب؛ بحيث يكون أمر الضروريات متعلقا بما يرد من أحكام  مشددة، وعقوبات مغلظة، ثم تنزل الحاجيات لتستوعب أحكام الوجوب والتحريم غير المغلظة، ثم تتراجع التحسينات لتتعلق بأحكام الندب والكراهة.

وهذه التراتبية المقاصدية، أو ما يسميها وصفى عاشور أبو زيد بـ “السلم المقاصدي”، حاسمة في تقديم عدد من الأحكام، وتأخير غيرها، كما أنها حاسمة في ترجيح  بعض الأحكام على بعض.

القرضاوي مجددًا في الفكر المقاصدي:

وفى فصل تالٍ تناول المؤلف أمرين يعكسان الروح التجديدية التي تلبست الشيخ القرضاوي في رحلة درسه المقاصدي، هما:

1- المراجعات والتجديد في إطار الكليات.

2- المراجعات التجديدية في المقاصد عموما.

ويسبق وصفى عاشور أبو زيد ليقرر في مفتتح هذا الفصل ما تميزت به نظرات الشيخ التجديدية لمقاصد الشريعة، وسعة أفقه، واستيعابه لكليات الشريعة، ومفاهيمها العامة.

وقد رصد المؤلف أربعة خصائص ظاهرة لتعاطيه مع قضايا المقاصد وهى:

1- التأصيل.

2- التبسيط، (وكنت أحب أن يصفها بالوضوح؛ فرارا من التوهم المبدئي الذي قد يرين عليها من قياس خاطئ ويلحق الكلمة المستعملة بكلمة أخرى مبتذلة في هذا المقام هي: التسطيح)!

3- التطبيق.

4- الإسهام في تسويق المصادر.

وقد نتج من فحص منجز القرضاوي رصْد عدد من الملامح التجديدية الناتجة عن مراجعات طالت الكليات والمقاصد العامة عموما، ونحب أن نجملها في نقاط؛ ليسهل القود إليها:

1- توسيع دائرة ما به يتم حفظ العقل؛ كفريضة طلب العلم، وفريضة الرحلة له، وفريضة المداومة على طلبه… إلخ. وتوسيع دائرة تحريم ما به يغتال العقل؛ من مثل: المخدرات العقلية من السحر والكهانة، والعرافة… إلخ.

2- توسيع ما به يتم حفظ المال؛ ليطال مناطق العمل والكسب والحث عليهما، وتقدير العمال، ورفع أقدارهم… إلخ.

3- إضافة (العرض) ليكون كلية سادسة تنضاف إلى المشهور من أمر الكليات الخمس، صحيح أنه تابع لعدد من الأصوليين القدماء؛ إلا أنه يدعو إلى توسيعها لتشمل مفاهيم: السمعة والكرامة، وهو ما نطقت به نصوص الشريعة في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وعرضه، وماله”، وهو حديث صحيح، يظهر فيه اقتران العرض بالدم، وتقدمه على المال.

ويخلص المؤلف بعد مناقشات وتعقيبات حديثية ولغوية إلى اعتبار رأى الشيخ في جعل العرض بالمفهوم الفردي والاجتماعي ضرورة كلية.

وقد أطال وصفي نفسه في الانتصار لرأى الشيخ، وهو محق في انتصاره؛ لما أورده من نصوص، وتفسيرات، ولاسيما أن الثابت أن النفس والمال يزهقان في سيبل الحفاظ على العرض، وإن كنت آخذ عليه حدته في الاستفهام الذي تشم منه رائحة السخرية من خلف الإنكار في رد كلام الإمام ابن عاشور عندما قال وصفى عاشور.

وإذا لم نعتمد الحدود ونعول عليها في اعتبار أمر ما ضروريًّا أم غير ضروري، فعلى أي نعتمد، وإلي أي شيء نرجع؟!! (وقد كانت تكفى علامة عجب واحدة!) وابن عاشور إنما يتحدث عن ملازمة الربط بين ورود الحد واعتبار ذلك الورود علة التصنيف بالضرورة، وهو أمر دقيق في نظرية التعليل كان ينبغي أن يتنبه إليه، وهو من رجالات التعليل!

وفيما يتعلق بمراجعات القرضاوي وتجديداته في المقاصد عمومًا، فيمكن تلخيصها في نقاط ثلاثة كما يلي:

أولا- اعتبار المقاصد من ركائز الفقه الحضاري.

ثانيا- اعتبار المقاصد الجماعية جنبًا إلى جنب مع المقاصد الفردية.

ثالثا- إجمال المقاصد الأساسية للإسلام في ستة مقاصد تدور حول: بناء الإنسان الصالح والأسرة الصالحة /والمجتمع الصالح / والأمة الصالحة / والدولة الصالحة / وتحقيق خير الإنسانية.

ومن المهم هنا أن نرصد الأثر الظاهر لمدرسة الإخوان، كما ذكره المؤلف، ممثلة في تنظير مؤسسها حسن البنا في الفكر المقاصدي للقرضاوي ولاسيما في هذه القضية؛ قضية دوائر الإصلاح، مما يستدعى ضرورة التفرغ لفحص الدرس المقاصدي عند حسن البنا.

وفى تحليل ظاهر لقيمة ظاهرة الإنسان في التصور الإنساني وقف وصفى عاشور أبو زيد أمام ما سماه بمقاصد خلق الإنسان في نظر القرضاوي ليجملها في ثلاثة هي (العبادة، والعمارة، والخلافة).

مجالات تفعيل المقاصد عند القرضاوي:

والحق قاضٍ بأن نقرر مع المؤلف أن مجالات تفعيل المقاصد جاءت متنوعة ومختلفة عند الشيخ، وصل بها المؤلف إلى أحد عشر مجالا ليستنبط منها أن المقاصد بمجالات تفعيلها المتنوعة تجرى من عقل الشيخ مجرى الدماء في العروق، وفى الإمكان رصدها إجمالا كما يلي:

1- المقاصد والقرآن الكريم الذي يلح على عدد من المقاصد الكبرى هي (بيان أركان الدين /رفع جهالة ما يحيط  بالرسالة / إكمال النفس /الإصلاح/تقرير مزايا الإسلام /السياسة الدولية/ توفية الحقوق /تحرير الإنسان).

2- المقاصد والسنة المشرفة، وقد توقف أمام أن السنة تسعى لتحقيق مقاصد نصوصها الجزئية في ضوء العلل والظروف، وهى ما يتناغم مع كون السنة حاشية موسعة مع الذكر الحكيم تكشف عن مراده، وتقوم بوظيفة البيان له.

3- المقاصد ودارس الشريعة.

4- المقاصد والفقه.

5- المقاصد والفتوى.

6- بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية.

7- المقاصد والأولويات.

8- المقاصد والصحوة الإسلامية.

9- المقاصد والعقيدة الإسلامية.

10- المقاصد والتصوف.

وهى المجالات التفصيلية للمقاصد في درس القرضاوي ومنجزه تُدخله بامتياز في قائمة المقاصديين العظام في العصر الحديث.

ملاحظات:

لم تمنع القراءة المتعاطفة لملامح الدرس المقاصدي عند القرضاوي من قبل وصفى عاشور أبى زيد، وما بدا عليها من تقدير ظاهر لمنجز الشيخ أن يتدخل بالتعليق والإضافة في مواطن عديدة، يهدف من ورائها إلى بيان حجم عطاء القرضاوي الحقيقي من دون مبالغة في تقدير دوره وسهمته. وقد عنَّ لنا بعض الملاحظات على عمله في هذا الكتاب المهم، يمكن أن نشير إلى بعضها فيما يلي:

أولا: ظهور بعض الحدة في رفض بعض الآراء، من مثل ما ظهر في رفضه لكلام ابن عاشور حول ارتباط التعليل بالحد والضروريات، وهو ما لا يجعله ابن عاشور لازمًا؛ خلافًا لوصفي الذي علق تعليقًا تبدو عليه مخايل الحدة.

ثانيا: التعبير عن بعض المعاني بما يجعلها غامضة أو موحية بتعدد ما تحت التعبير، من مثل عنوانه: المقصد الأصلي من التصوف، وهو ما كنت أحب أن يعبر عنه قائلا: تزكية الأنفس هي المقصد الأصلي من التصوف! لأن الإفراد والتعريف في مقام العنوان قد يوحى بالتعدد، وهو ليس مرادها.

ثالثا: لا أظن أن تحرير الإنسان يمكن أن يكون من المقاصد التبعية للعقيدة، والأليق أن تكون من لوازم التوحيد، وما به يتحقق هذا التوحيد الخالص لله تعالى.

على أية حال يأتي كتاب وصفى عاشور أبى زيد ليتجاوز حدود التحية والتقدير للعالم العلم في الفقه المعاصر الدكتور يوسف القرضاوي إلى آفاق باعثة على الأمل في الأمة، قادرةٍ على أن تلد من الباحثين القادرين على استمرار المسيرة في إتقان ورصانة لا تخفى على من يقرأ هذا الكتاب.

.....

- المصدر: جريدة الأمة، 15-8-2022