ابتسام آل سعد

كان لابد لقلمي من أن يأخذ نصيبه المشروع في الخوض في غمار سيرة الداعية والعالم الإسلامي الكبير فضيلة الشيخ يوسف عبدالله القرضاوي رحمه الله، الذي غادر دنيانا بعد رحلة طويلة مع المرض وحياة مديدة ساهم فيها في إرساء معالم اليسر في الدين والوسطية فيه..

فكان مفكراً إسلامياً أسس الاتحاد العالمي للمسلمين، وأسهم بمؤلفاته العظيمة ومراجعه الدينية المتعمقة من توضيح مفاهيم هذا الدين حتى للذين أوغلوا فيه فاتخذوا مناحي أخرى اتسمت بالتطرف والتشدد، فابتعدوا عن جوهر العقيدة والتي قدَّم الله تعالى فيها التيسير لا التعسير والوسطية لا التشدد، فكان والدنا الشيخ القرضاوي مثالاً حياً لكل معاني هذا الدين فأحبه العالم والمسلمون.

وكان يحيا حياة الشيخ العابد الزاهد حلو اللسان وطيب المعشر، لا يرد أحداً ولا يدعو على أحد إلا الظالمين، ولم يتملق يوماً لسلطان ولم يؤثر علمه لنفسه، فكان يجيب من سأل ويعطي من طلب.

وكان صاحب صوت مجلجل بالحق لطالما اهتزت منابر الخطب من تحت وقع كلماته، فكان يجهر بالحق ولو على نفسه فيصيب الظالم وينصف المظلوم بكلماته التي كان يستدل عليها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فلم يبتدع يوماً ما يخالف قيم الإسلام، وإنما سن سنناً أسهمت في التمسك بتلابيب هذا الدين للمعسرين والمتثاقلين على حمله كاملاً بالصورة التي أوردها الكثير من العلماء الذين كانوا لا يعرفون من الدين سوى العسر فيه، ومن التعاليم سوى الشدة فيها، فلم يعطوا مساحة للتائب من أن يعود بتوبة نصوحة ميسرة، وإنما رفعوا له مشانق العصاة الضالين، وهذا ما لم يكن عليه الداعية الشيخ القرضاوي الذي كان يمثل شيخ الدين المعتدل الذي لا غلو فيه دون تفريط أو إفراط.

ولذا فأنا ما زلت أذكر برنامجه المسائي الجميل "من هدي الإسلام"، والذي كان يُبَث كل مساء يوم جمعة على ما أعتقد؛ يقدم فيه فتاواه الشرعية، ويجيب على أسئلة المسلمين حول طلب فتاوى ورأي الدين فيما يشق عليهم معرفته والهدي به، فكان أسلوبه سلساً يتعاطى مع الأسئلة التي ترده بما يتناسب مع أسلوب العصر وما يمكن أن يكون الدين ميسراً له لا مغلظا فيه، فاكتسب شعبية جارفة بين عموم المسلمين في العالم العربي والأمة الإسلامية؛ لذا تأثر الجميع بعد نقل خبر وفاته وارتجاله عن صهوة الرسالة التي حملها أميناً عليها حتى آخر لحظة في حياته كما نظن ونرجو.

بالنسبة لي شخصياً فقد حادثت والدي الشيخ يوسف القرضاوي مرات عدة في حياتي لكني لم أتشرف يوماً بلقائه وجهاً لوجه رغم دعوته لي رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى للحضور له في مكتبه ولكن حالت الظروف دائماً من ذلك..

ولكني أذكر أنه حدثني لأول مرة عقب كتابة مقال لي وكنت حينها طالبة في الجامعة، دافعت فيه عن فضيلته ضد بعض الحملات الشرسة التي كان يتعرض لها دائما، وكان يقف أمامها صلباً واثقاً كعادته رحمه الله حتى بعد وفاته لم يسلم من تلك الهجمات الموجهة؛ فأثنى على قلمي وأسلوبي فأمطرني حينها بأحسن الدعاء لله بأن يسدد قلمي دوماً للحق، وأن ينعم الله عليّ بأفضل النعم في حياتي فكان صوته حاضراً دائما في أذني وكنت كلما حادثته بادرني بكلمة "ابنتي" ومن حسن الدعاء وألطفه وأجمله..

فرحم الله تلك النفس الطيبة وذاك الأثر الغالي وتلك الهامة المنصوبة والقامة المرفوعة والكرامة المحفوظة والذكر الطيب والصوت القوي والكلمات النافذة بالحق والرأي المسدد والنظرة المتعمقة والوسطية المعتدلة.. الشيخ الذي أفنى جل عمره لنصرة قضايا العرب والمسلمين، فاللهم تقبله عندك قبول المحسنين العابدين بجانب النبيين والصديقين والشهداء في فردوسك الأعلى يا الله.. اللهم آمين.

.....

- المصدر: الشرق القطرية، 28-9-2022