السؤال: لماذا تكرر بعض القصص في القرآن الكريم كقصص عاد وثمود وبني إسرائيل؟ ألم يكن هناك منذ بدء الخليقة غير هؤلاء؟ ولماذا التكرار؟

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:

اهتم القرآن بذكر السابقين الذين عند العرب طرف من قصصهم، كما قال القرآن: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت:38]. هم كانوا يعرفون أن عادًا كانوا في الأحقاف في الربع الخالي، ويعرفون أن ثمود كانوا في مدائن صالح, ويعرفون مساكن قوم لوط، وما حدث لهم، يقول الله تعالى عن قوم لوط ومساكنهم: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138].  كان عندهم علم عنهم، وكانوا يسمون عادًا وثمود العرب البائدة، أي: الذين بادوا وانتهوا، ولم يبق لهم أثر، وقد صدق القرآن ذلك فقال: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 6-8], وقال: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:50-51].

فذكرهم الله تعالى بهم، ليأخذوا العبرة والعظة، أن يصيبهم ما أصابهم، فهم يرون ديارهم ومساكنهم، كما قال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}  [العنكبوت:38]. وكما قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6-14].

واهتم القرآن ببني إسرائيل أكثر من غيرهم، لماذا؟ لأنهم كانوا أمة موحِّدة، اختارهم الله ونصرهم على عدوهم، لتمسكهم بالتوحيد، بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض، فلمَّا بدلوا وغيروا، وأفسدوا في الأرض، سلط الله عليهم من يؤدبهم، فهو تحذير للأمة أن تقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل، فمن أجل ذلك كان اهتمام القرآن ببني إسرائيل أكثر من غيرهم، اهتم بموسى وبني إسرائيل، حتى قال بعض المفسرين: كاد القرآن يكون لموسى وقومه.

وأما لماذا التكرار في القصص؟ فأقول: التكرار في القصص هو للتأكيد، كلما كررتَ الشيء كلما أكدته، فالشيء إذا تكرر تقرَّر.

ثم هو ليس تكرارًا محضًا، بل كلما ذكر القرآن القصة كلما أتى فيها بشيء جديد، فمثلًا في سورة طه جاء بأشياء في قصة موسى ليست في غيرها من السور، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}  [طه:17-21] ، هذه المحاورة بين موسى وربه لم تأت في غير سورة طه.

وفي سورة القصص جاءت تتحدث عن طفولة موسى, وعن شبابه، وعما جرى للرجل الذي وكزه موسى فقضى عليه، وعن ذهاب موسى إلى مدين, وعن زواجه هناك بإحدى ابنتي الشيخ الكبير، ولم يذكر ذلك في غيره من السور، ففي كل مرة يكرِّر القصة يأتي بأشياء لم ترد من قبل، ولم تذكر في القصة، كما تأخذ للشخص الواحد عدة صور، صورة له وهو جالس، وصورة وهو واقف، وصورة وهو يبتسم, فهذا ليس تكرارا، إنما في الواقع الشخص واحد، ولكن الصور متغيرة، كل صورة تبرز جانبًا لم تبرزه صورة أخرى، فهذا هو شأن التكرار في القرآن الكريم.

والحق أن ما نظنه أو نسميه تكرارا في القرآن ليس تكرارا، بل هو تنوع في الأسلوب، يقول الإمام ابن تيمية عن قصة موسى وتكرارها في القرآن: «وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعًا غير النوع الآخر، كما يسمي الله رسوله وكتابه بأسماء متعددة كل اسم منها يدل على معنى لم يدل عليه الاسم الآخر، وليس في هذا تكرار بل فيه تنويع الآيات، مثل: أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل: محمد وأحمد؛ والحاشر والعاقب؛ والمقفى؛ ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة في كل اسم دلالة على معنى ليس في الاسم الآخر، وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة، وليس في القرآن تكرار أصلًا»(1).

ويقول صاحب الظلال: «ويحسب أناس أن هنالك تكرارًا في القصص القرآني، لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى. ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أنه ما من قصة، أو حلقة من قصة قد تكررت في صورة واحدة، من ناحية القدر الذي يساق، وطريقة الأداء في السياق. وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه، ينفي حقيقة التكرار»(2).

..........................

1- مجموع الفتاوي لابن تيمية (19/167-168).

2- في ظلال القرآن (1/55).