محمد خير موسى

في الاجتماع الأخير للجمعيّة العامة للاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين -وكنت حاضرًا فيه- ألقى الإمام القرضاوي كلمةً كان باديًا فيها أنّها كلمة الوداع والوصايا الأخيرة لأعضاء الاتحاد.

وكانت مساحةٌ كبيرةٌ من تلك الكلمة عن المرأة والتّأكيد على ضرورة نيل حقوقها والتّشنيع على ظلمها باسم الدّين، وهذه الكلمة الوداعيّة ليست حالةً منبتّةً عن فقه الإمام القرضاوي العام المتعلّق بالمرأة؛ بل هي امتدادٌ لمسيرةٍ طويلةٍ جاهد فيها الإمام لتنال المرأة حقوقها، إذ كانت قضيّة تحرير المرأة مركزيّة في خطابه وفقهه؛ لكنه تحريرٌ واضح المعالم متوازن المنهجيّة لا فوضويّ الدروب.

المعلَمُ الأوّل: إعادة الاعتبار لمكانة المرأة ومركزيّة وجودها ومهمّتها

لم يترك الإمام القرضاوي مناسبةً إلّا وكرّر فيها التّذكير دومًا بحقيقة مكانة المرأة في الإسلام بعيدًا عمّا ألصق بها من تصوّرات ذهنيّة دخيلة ومرفوضة.

يقول القرضاوي: "وإذا جئنا إلى الإسلام وجدناه يرتفع بقيمة المرأة وكرامة المرأة باعتبارها ابنةً وزوجةً وأمًّا، وعضوًا في المجتمع، وقبل ذلك كله باعتبارها إنسانًا. فالمرأة مكلّفة كالرجل، مخاطبة بأمر الله ونهيه مثله، مثابةٌ ومعاقبة كما يثاب هو ويعاقب.

وليس في القرآن -كما في التوراة- ما يجعل المرأة مسؤولة عن خطيئة آدم بل المسؤولية الأولى مسؤولية آدم، والمرأة إنما هي تبع له {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}.

إن المرأة في نظر الإسلام ليست خصما للرجل، ولا منازعا له، بل هي مكملة له، وهو مكمل لها، هي جزء منه وهو جزء منها، وفي هذا يقول القرآن: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} ويقول الرّسول صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال".

المَعلَم الثّاني: محاربةُ الظّلم الذّكوريّ للمرأة باسم الدّين

يرى الإمام القرضاوي أنّ قضيّة المرأة في المجتمعات الإسلاميّة مثالٌ بارزٌ وتجسيدٌ عمليّ لسلوكين متناقضين يتراوحان بين الغلوّ والتّقصير، وبين الإفراط والتّفريط، وبين الجمود والتّمييع.

يقول القرضاوي: "فهناك المقصرون في حق المرأة الذين ينظرون إليها نظرة استهانة واستعلاء فهي عندهم أحبولة الشيطان، وشبكة إبليس في الإغواء والإضلال".

ويقول أيضًا: "وبعض هؤلاء رجع إلى عهد الجاهلية قبل الإسلام، فلا يجعل لبناته في الميراث حقًّا، ويكتب تركته بيعًا وشراءً لأبنائه الذكور، أمّا الإناث فما لهنّ من نصيب.

لقد حبسوها في البيت، فلا تخرج لعلمٍ ولا عمل، ولا تساهم في أي نشاطٍ نافعٍ يخدم مجتمعها، مهما يكن نوعه".

ويقول كذلك: "ويكادُ هؤلاء المتشدّدون يجعلون حياة المرأة سجنًا لا ينفذ إليه بصيصٌ من نور، فخروجها من البيت لا يجوز، وذهابها إلى المسجد لا يُشرَع، وكلامها مع الرّجال -ولو بالأدب والمعروف- لا يسوغ".

ويعلّل القرضاوي هذا الموقف المتشدّد بأمرين اثنين: الجهل بالنّصوص الشرعيّة التي تدعو إلى التيسير وتقاوم التّعسير، وسوء فهم النّصوص الشرعيّة، بوضعها في غير موضعها، أو قسرها على استنباط أحكام منها، لا تدل عليها إلا باعتساف، أو عزلها عن باقي أحكام الإسلام، ومقاصده الكلية.

المعلَم الثّالث: محاربةُ دعوات تغريب المرأة والانفلات من الضّوابط باسم تحرير المرأة

يرى الإمام القرضاوي أنّ هناك فريقًا تجاوز الحدّ في دعوته إلى تحرير المرأة؛ فهو يريد الانفلات من كل ضوابط الدّين وأحكامه تحت شعار "تحرير المرأة" وهذا لا يقلّ خطرًا في ظلمه للمرأة من الفريق الأوّل.

يقول الإمام القرضاوي: "وفي مقابل هؤلاء الذين فرّطوا وقصروا في حق المرأة وجاروا عليها، نجد الآخرين الذين أفرطوا في شأنها، وتجاوزوا حدود الله، وحدود الفطرة وحدود الفضيلة في أمرها. فإذا كان الأولون أسرى تقاليد شرقية موروثة، فهؤلاء أسرى تقاليد غربيّة وافدة.

ولقد رأيت من هذا الصّنف الثاني من يريد أن يلغي الفوارق بين الرجل والمرأة، فهي إنسان كما أن الرجل إنسان، وهما مولودان لذكر وأنثى فلماذا يتفاوتان؟!

ونسي هؤلاء أن فطرة الله فرّقت بينهما، حتى في التّكوين الجسدي، لحكمةٍ بالغة، وهي أنّ لكلٍّ منهما رسالةً في الحياة تليق به وبطبيعته ومؤهلاته؛ فالأمومة بكلّ خصائصها وفضائلها ومتاعبها هي صميم رسالة المرأة، وهذا هو الذي جعل قرارها في البيت أكثر من الرجل".

ويقول أيضًا: "ورأينا من هؤلاء من يريد أن يحرم ما أحلّ الله للرجل، من الزواج بأكثر من واحدة، لمن يحتاج إليه ويقدر عليه، ويثق من نفسه بالعدل، مخالفين ما ثبت بنصّ القرآن الكريم، وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه وخلفائه من بعده، وعمل السّلف في خير قرون هذه الأمة وعمل خلف الأمة من بعدهم في شتى الأقطار، ومختلف الأعصار، وفي ظل جميع مذاهب الأمة إلى يومنا هذا.

بل رأينا من هؤلاء من يدعو إلى توريث البنت مثل ما يرث شقيقها رافضا أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، مخالفا جهرةً كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة فقهًا وعملًا طوال أربعة عشر قرنًا، وما علم بالضرورة من دين الإسلام، مما لا يجهله خاص ولا عام.

وأعجب من ذلك أن نجد هذا التيار يدفع بعض المنتسبين إلى العلم الديني، والذين جعلت منهم الأوضاع العوج متحدّثين باسم الإسلام في الصّحافة وأجهزة الإعلام، فيقولون على الله ما لا يعلمون".

المعلَم الرّابع: التّيسير المستند إلى العلم الوثيق لا الهوى الفوضوي

من أهمّ معالم التّوازن في دعوة الإمام القرضاوي إلى تحرير المرأة اعتماده منهج التيسير، وهو منهجه العام في الفروع والأحكام الشرعيّة.

يقول الإمام القرضاوي في مقدّمة كتابه "فتاوى المرأة المسلمة": "وها نحن قد أجبنا عنها بهذه الفتاوى المبنيّة على أدلة القرآن والسنة، ومراعاة مقاصد الشرع في تحقيق مصالح الخلق، فاقرأها يا أخي المسلم قراءةَ من يعرف الرّجال بالحق، ولا يعرف الحقّ بالرّجال.

ولا تظن أنا ننشد التيسير في فتاوينا اتّباعًا لهوى أحد من الناس، بل لأن الشريعة قائمة على اليسر لا على العسر، والحرج منفي عن أحكامها قطعًا".

لقد اتسمت دعوة الإمام القرضاوي إلى تحرير المرأة بمنهجيّة متوازنة ما أحوجنا إليها ونحن ما زلنا نعاني من نوعين من الخطاب المتعلّق بالمرأة يلبس لبوس الدّين ظلمًا وزورًا؛ خطاب ذكوريّ يريد خنق المرأة باسم الإسلام، وخطاب نسويّ يريد تمييع كلّ ما يتعلّق بالمرأة أيضًا باسم الإسلام؛ والتّوزان هو المعافاة من كليهما واتباع منهجيّة التّوازن التي تبنّاها ودعا إليها الإمام القرضاوي المنبثقة من علمٍ راسخ وفهم عميق وتجديد منضبط وتشديد في الأصول وتيسير في الفروع لتكون المرأة جنبًا إلى جنب في أداء مهمّتها في إعمار هذا الكون وتحقيق الاستخلاف فيه.

.....

- المصدر: الجزيرة مباشر، 3-10-2022