د. كمال القصير

أشبه شخصية بالشيخ يوسف القرضاوي في التاريخ الإسلامي، في حركته وديناميته وانخراطه في تحديات واقع المسلمين، موسوعية وفقها وسياسة وتربية وفي جدلية مواقفه، هو شيخ الإسلام ابن تيمية.

كان القرضاوي قد أدان هجمات 11 أيلول/سبتمبر وتفجيرات بالي، وانتقد تحطيم حركة طالبان تماثيل بوذا في أفغانستان. وندد بالغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وأفتى بوجوب مقاومة الجنود الأمريكيين.

ووصف التفجيرات التي يقوم بها مدنيون فلسطينيون داخل إسرائيل بأنها استشهادية. واتخذ مواقف بالغة الصرامة ضد عدد من الزعماء العرب، عقب اندلاع الثورات العربية عام2011. وواجه مسار التطبيع بكل قوة.

إن الكثيرين يهتمون أثناء تقييم مسيرة العلماء بما خلفوا من تراث علمي. غير أن عملية التقييم لا تكتمل حتى يكون بمقدورنا مشاهدة آثار العلماء داخل مجتمعاتهم، ودرجة توجيههم لحركة الناس. وإلى أي حد كانوا سببا في نشوء موجات فكرية بسبب أفكارهم واجتهاداتهم. وهذا الأمر هو ما يميز بين مستويات العلماء والمفكرين.

تحويل الفقه إلى وعي اجتماعي

اعتنق الشيخ القرضاوي الفقه بمفهومه الواسع والأعمق، وهو تحويل الفقه والفتوى إلى وعي اجتماعي وسياسي، وحاضنة تربوية لأجيال من المسلمين. وأثبت أن عالما واحدا بإمكانه أن يقود موجة صحوة جيل بأكمله، وأن باستطاعته أن يكون تنظيما عالميا وحده، وأن المقتنعين بفكره أكبر من أن يضمهم تنظيم أو جماعة. حيث ربطته بالناس في المنطقة صلة روحية وعلمية، لا تنظيمية أو حركية فحسب. لقد كان أنجح شاب إسلامي تمكن من تجاوز قيود التنظيم إلى عالمية الدعوة، دون أن يتنكر لتاريخه وماضيه.

كان الشيخ القرضاوي عالما مؤثرا في المسلمين من الناحية الاجتماعية، وصاحب مرحلة فقهية وفكرية وحركية كاملة. وكان موجها لا مواجها للمجتمعات، وخاطبت أفكاره المجتمعات لا المجموعات.

ومن الناحية الموضوعية كان القرضاوي أكثر تأثيرا من حسن البنا كما سأشرح لاحقا، ومن سيد قطب الذي أثر في المجموعات، دون أن يصل مداه إلى المجتمعات، وهذا فرق شاسع. ذلك أنه لم يدخل علماء كثر من أقران الشيخ القرضاوي البيوت في المنطقة العربية وفي الغرب. لكنه دخلها لا كفقيه مجيب على أسئلة الناس واستفساراتهم فحسب، بل كرمز ديني واجتماعي لمرحلة زمنية كاملة منذ ستينيات القرن الماضي، يعالج المشكلات الاجتماعية والسياسية والدينية.

أثبت القرضاوي أن الفقه دون الفكر نقصان، وأنهما معا الصورة المثالية لشخصية المجتهد في الإسلام. اجتهد الشيخ يوسف في الفقه مثلما اجتهد في الفكر، وتوزعت إنتاجاته كلا المجالين. وأزعم أن شخصيته الفكرية كانت في رأيي أكثر تأثيرا في المنطقة من شخصيته الفقهية. وأن ما صنع موجة الوسطية والصحوة الإسلامية كان في أغلبه وأكثره القرضاوي المفكر. إن مزجه الفكر بالفقه رسالة إلى المشتغلين بالفقه حاليا، المتناسين للفكر وأهميته.

لقد فاق أقرانه فقها كما فاقهم فكرا. ولا يكسب الفقيه عمقا حتى يكسب فكرا، يواجه به تيارات وتحديات عصره. إن بلوغ مقام المرجعية التي نالها القرضاوي، لا تتأتى بامتلاك الفقه وحده، بل بالقدرة على بناء الجسور مع المجتمعات. إن القبول الاجتماعي به لدى الناس تطلب منه وقتا وخبرة تراكمية، في كيفية النفاذ إلى وعي شرائح واسعة في العالم العربي والإسلامي.

القوة الناعمة

إن قمة النجاح هو أن يتمكن الفقيه من جعل نفسه «قوة ناعمة» ورصيدا اجتماعيا ودينيا، توازي مواقفه وآراؤه قوة السياسة الصلبة. وكان الشيخ يوسف وجها من أوجه القوة الناعمة التي لم نرها في الفقيه إلا قليلا في المائة عام الأخيرة. وعندما فرضت الظروف ما سمي حينها حوارا سنيا شيعيا، لم نجد في العالم السني مؤسسة قائمة أو لجنة أو منظمة تحاور الشيعة غير الشيخ القرضاوي.

بالتأكيد لم يكن الاستطلاع الدولي الذي أجرته مجلتا «فورين بولسي»الأمريكية و«بروسبكت» البريطانية عام 2008 صحيحا، بالنسبة للمطلع على منطقة الشرق الأوسط وأوروبا. حيث اختير الشيخ القرضاوي في المرتبة الثالثة، بعد (الأول التركي فتح الله غولن، والثاني الاقتصادي البنغالي الحاصل على جائزة نوبل 2006 محمد يونس) ضمن قائمة عشرين شخصية فكرية هي الأكثر تأثيرا عالميا. نعم من دون شك لم يكن فتح الله غولن أكثر تأثيرا في الشرق الاوسط وشمال افريقيا وأوروبا من القرضاوي.

في المئة عام الأخيرة لم نشهد صورة للتفاهم بين العالم والحاكم في المجال السني، بعيدا عن منطق التوظيف، حتى رأيناها في نموذج الشيخ القرضاوي. لقد مثل نموذجا ناجحا لقدرة العالم على نسج علاقات سياسية مثمرة ومتوازنة مع السلطان، تضمن له مساحة كبيرة من الاستقلالية، وعدم السقوط في التبعية والإلحاق السياسي، والتحول إلى مجرد مردد للسياسات والتوجهات. لقد وجد توليفة مفتقدة في التعامل مع السلطان، تضمن للعالم أن يحترمه رجل السياسة، ويقدر اجتهاداته ويأخذ بها.

إن تجربته في قطر يصعب أن تتكرر، تحت أي ظرف أو سياق عربي آخر. لقد كانت علاقته بالمجال السياسي والثقافي والديني القطري نموذجا استثنائيا في عموم المنطقة، حيث المواجهة بين المثقف والسلطة ونتائجها الكارثية من جهة، أو إضعاف العالم والتقليل من تأثيره، أو إلغاؤه من المجال العام بشكل كامل. لقد احترمه الحاكم في قطر، كما احترم هو السلطان هناك. وقدره الكثير من الحكام المسلمين، ولم ينل فرصة المناقشة مع الملك الحسن الثاني رحمه الله إلا القليل، ممن كان يستضيفهم في شهر رمضان من كل عام. وكان القرضاوي أكثرهم في ذلك، ومناقشته حول معنى التجديد، الذي أبدى له فيه الحسن الثاني رأيه الخاص فيه.

لقد وجد الشيخ المعادلة المناسبة لإحدى أصعب العلاقات الصدامية في التاريخ السياسي والثقافي الإسلامي، بين العالم والسلطان. وكان جزءا أساسيا من المشهدين السياسي والديني في آن واحد. وليس من السهل على من يأتي بعد القرضاوي أن يضع نفسه في موضعه، فنجاحه في العلاقة مع السلطان لم يتم بين عشية وضحاها، بل كان مسارا تراكميا أثبت فيه الشيخ أنه يمتلك ما يحتاجه رجل السياسة، على عكس البضاعة القليلة لدى الكثير من العلماء، الذين لا يمتلكون ما يحتاجه الحاكم لديهم ليقدموه له. إن قدرة الفقيه على إثبات وجوده في عالم السلطان، يحتاج أدوات ومهارات علمية ونفسية، امتلك منها الشيخ يوسف الكثير.

تفوق القرضاوي في فهم الواقع من منطلق فقه السياسة الشرعية التي مارسها عمليا. لكن الفقه السياسي كان هو الأقل ضمن خريطة إنتاجاته الفقهية والفكرية. ولو اهتم رحمه الله بالتنظير للفقه السياسي، لأتى فيه بالكثير لكنه لم يفعل.

إن مبدأ الثقة في عالم السياسة أمر بالغ الحساسية، وقد كان الشيخ القرضاوي موضع ثقة. إن ثقة الحاكم بالعالم لا تنال بسهولة في واقعنا العربي المضطرب والفوضوي، الذي يتميز بسوء العلاقة بين مجالي الفقه والسياسة. إن المفكر والفقيه يرتقي إلى أقصى مراتب الإبداع عندما تتوفر له رعاية السلطان.

التقى الشيخ القرضاوي زعماء سياسيين عدة في العالم العربي، وزار ليبيا أيام العقيد القذافي وتوسط لعدد من السجناء السياسيين طلبا للعفو عنهم، وهو ما لا نصادفه في فقيه إلا نادرا. ونجح في مسعاه بعد محاولات لإقناع العقيد.

إن نجاحه في صلته بالسلطان لم تكن ميزة للشيخ يوسف وحده، بل ميزة للأمير المسلم الذي أوجد مساحة للالتقاء بالفقيه، بل أكثر من ذلك فقد منحه حرية إبداء الرأي المخالف في بعض القضايا، وهي صورة لم نشهد مثلها منذ زمن طويل.

إن آراءه لم تكبلها السياسة كثيرا، وقد كان منطلقا حرا في تعبئة المسلمين حول قضايا فلسطين وغيرها. ولم تمنعه إكراهات السياسة ليتوقف، بل حفظت له مساحة القول والفعل، وتحملت عنه كثيرا من الضغوطات الخارجية. وقد كان الاحتفاظ بهذا المجال الكامل لحركة الشيخ القرضاوي في ظل التحولات الكبيرة في المنطقة، باهظ التكلفة، لكن الأمر كان يستحق العناء.

القضية الفلسطينية

مثل القرضاوي لحظة «إجماع» قلما نجدها في العالم العربي في القرن الأخير. وقد منحنا الشيخ صورة لفقيه ومفكر الأمة الذي يتجاوز حدود وجغرافيا جنسيته ومكان إقامته، ليعالج قضايا المسلمين عامة، من مغرب العالم الإسلامي إلى مشرقه، في وقت لم يتمكن أكثر العلماء من الخروج عن حدود قضاياهم المحلية الخاصة.

وقد كان لكل بلد نصيب من اجتهاداته وآرائه. لم يشعر الناس بمصريته وجنسيته الأصلية، وكأنه ولد عربيا مسلما فقط، من دون انتماء لمساحة جغرافية. إن مصر كانت مثل غيرها ضمن اهتماماته، بل أقل أحيانا مقارنة بقضية فلسطين. وكان ارتفاعه عن الانتماء المحلي، سببا أساسيا في ارتفاع درجة القبول بمرجعيته في المنطقة.

ودون شك فإن القضية الفلسطينية وفصائلها قد فقدت بموت القرضاوي مدافعا شرسا وسندا فقهيا في المنطقة. وبغياب القرضاوي أصبح هناك نوع من عدم التوازن بين اتجاهين مختلفين حول قضايا المنطقة، يحاول أحدهما استثمار غياب القرضاوي لبناء مرجعية دينية منافسة جديدة. خاصة أن الفراغ الذي تركه يصعب ملؤه بسرعة.

إن من يريد منافسة الشيخ يوسف في المرجعية أو التشبه به، سوف يكون في حاجة إلى عقليته وتجرده وديناميته في العالم العربي والإسلامي. لقد كان برنامج الشريعة والحياة نقطة تحول بالنسبة لوعي الكثيرين في المنطقة، واتجاهاتها الفكرية والدينية. فقد فاق ذلك البرنامج ونافس أعتى البرامج التلفزيونية السياسية. حيث يحدث نادرا أن يتفوق برنامج ديني على غيره من البرامج.

كان المرجع السيد القرضاوي قادرا على بث مشاعر الأمة في المنطقة. وهي مساحة ومقعد فارغ سيبقى ينتظر من يملؤه مستقبلا، لأن المرجعية لا تتحقق بسهولة.

إن أقل ما يمكن منحه في المنطقة هو التأسيس لجائزة في ميدان الفكر والفقه باسمه تخليدا لذكراه. ولا شك أن مبادرة كلية الشريعة في جامعة قطر، وعميدها العالم الموقر عبد الله الأنصاري بإعلان مؤتمر دولي حول الشيخ القرضاوي بعد أشهر من الآن، خطوة كبيرة تحتاج أن تصبح أكثر تأسيسا، من خلال التفكير في إحياء فكرة «وقفية الشيخ القرضاوي» في ميدان العلوم.

.....

- المصدر: القدس العربي، 11-2-2023