د. محمد الصغير

علاقتي بالشيخ أبي إسحاق الحويني قامت على ركيزة الفضل، ودارت عليها في كل مراحلها، حيث كان متفضلا بذلك رحمه الله، وكنت أشعر أن من رزق الله الواسع ما أُودع في قلبه من محبتي، ومازلت لا أرى غير ذلك، فكنت إذا أردت الاطمئنان عليه، لا أتصل عليه مباشرة إجلالا، ولمعرفتي بحرصه على الوقت، حتى سألني يوما لماذا لا تتصل بي؟ فقلت أخشى إزعاجك لذا أكلم أولادك، ولا أنفك عن الاطمئنان عليك، فقال كلمني مباشرة ولا تجعل بيننا أحدا.

ومن أكبر المواقف المحفورة في نفسي، أنني كنت من أوائل الداخلين عليه مع الشيخ مصطفى العدوي -في مصر- بعد عملية بتر قدمه من آثار مرض السكر، ولاحظت اجتهاده في تغطية يده، ولا يمدها للسلام خشية أن يقبلها الزائر، وأصابت الشيخ العدوي رقة وعَبرة وهو يدعو له ويعزيه، فإذا به يرد قائلا ومهونا: ما وجدت برد الرضا عن ربي كما أجده الآن! 

عاش المحنة راضيا

ولم تفارقه حالة الرضا هذه حتى فارق الحياة، مع ما أصابه من لأواء وصنوف البلاء، وعاش المحنة راضيا ولا أقول صابرا، ومستبشرا بالفرج ومبشرا به، ولا يسمح بنزغات اليأس أن تبزغ في مجلسه، ويرد الناس دوما إلى عقيدة الإيمان بالقضاء وحسن التسليم للقدر، وأن اختيار الله خير على كل حال، ومن ذلك أننا شهدنا معه زواج إحدى ربائبه في محافظة كفر الشيخ، واجتمع جمع من العلماء في بيته قبل الذهاب للعقد، وتزامن ذلك مع إغلاق قناة الناس الفضائية، وأغلب الحضور كانت لهم برامج فيها، وأخذنا نظهر الأسف على إغلاق هذه النافذة الدعوية، وربما كان هذا محل إجماع الجميع، إلا الشيخ الحويني حيث قال: الدعوة دعوة الله وهذا قضاؤه، فكيف نحزن على ما قدره لنا، إلا إذا كان حزنكم على الإطلالة والظهور فهذا شأن آخر !

مع الشيخ القرضاوي

ومن أعجب مواطن صبره واستحضار طلب العلم على أي حال، ما حدث في زيارة فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي له في المستشفى عند وصوله إلى قطر للعلاج، وكانت حالة الشيخ الحويني متأخرة جدا وقتئذ، فبادرت بإبلاغ مولانا الشيخ يوسف بالأمر حتى نحجز وقتا في جدوله المتخم، فلما كلمته قال لي بل الآن، وعلى الفور فهذا واجب، ونظرا لطول المسافة داخل طرقات المستشفى، فقد حظيت بشرف تسيير الكرسي المتحرك به، حتى اقتربنا من القسم الذي يرقد فيه الشيخ الحويني، وإذا بالشيخ القرضاوي يستوقفني وينهض من الكرسي، فقلت له إن الممشى مازال بعيدا، فقال دعني أمشي إلى أخي، حتى نحقق سنة المشي إلى عيادة المريض، وبالفعل مشى حتى دخلنا فسلم القرضاوي على الحويني وقبل رأسه، فأخذ الحويني يد القرضاوي وقبلها، وقال له “أنا بعض ولدك” وعلمت أن فارق السن بينهما ثلاثون سنة، وأصر الحويني على الجلوس فسند بالوسائد، وأخذ يسأل القرضاوي عن بعض المسائل، وقال له إني أريد أن آخذ عنك مباشرة بالسند العالي خلاصة تجربتك مع الشيعة، وحقيقة فشل مشروع التقريب بين المذاهب، واستمر هذا النقاش العلمي قرابة نصف ساعة، وكانت المفاجأة بعد خروجنا، حيث طلبت من شيخنا القرضاوي الجلوس على الكرسي المتحرك، فقال لا إن المرضى في هذا القسم لهم علينا حق الزيارة، وشرع يدخل عليهم غرفة غرفة، وكثير منهم كان لا يصدق أن الذي دخل لعيادته، وواقف للدعاء له هو فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي! 

وبعد خروج الشيخ الحويني من المستشفى قال لابد من زيارة الشيخ القرضاوي في بيته، وشكره على كريم مسعاه، وكان لقاء علميا من الطراز الرفيع والنقاش العميق، ونحن في الطريق قال الشيخ الحويني بلطفه المعهود، عندي مسائل أريد مناقشتها مع الشيخ القرضاوي ومعرفة أدلة اجتهاده فيها، ولا أستسيغ ذلك مع أول زيارة، فقلت له سأكفيك الأمر وأبدأ بالسؤال، فإن الشيخ القرضاوي يفرح جدا بالنقاش المثمر ويطلب المراجعة الواعية، واستمر المجلس ثلاث ساعات متصلة، حتى قال الشيخ الحويني لم يبق لنا إلا الشعر -وكلاهما شاعر- وأريد أن أروي عنك بعض شعرك، فذكر الشيخ القرضاوي أبياتا له، كما حرص الشيخ الحويني على أن يكتب له فضيلة الشيخ يوسف بخطه على ما أهداه من كتبه.

مع الشيخ المعصراوي

ومن أعظم الدروس العملية في تعامل الشيخ الحويني مع العلماء أو الدعاة وطلاب العلم، أنه إذا لقي واحدا منهم، كان حريصا على أن يفيد منه، ويحسن تحديد موطن الفائدة عنده ويسأل عنها، وعامة حظه من المجلس الإنصات بعد السؤال وطلب الفائدة، وفي آخر سني عمره كان على حال السلف في الانشغال بالقرآن الكريم، واغتنم وجود الشيخ أحمد المعصراوي شيخ عموم المقارئ المصرية، فختم عليه رواية حفص عن عاصم وبعدها أخذ رواية شعبة، وكان له دفتر خاص يكتب له الشيخ المعصراوي فيه، وسمعته يقول له هذه الكتابة هي خير ما أورثه لأولادي، وكان يتعامل مع الشيخ المعصراوي كما يتعامل أهل الخشية مع نسخة المصحف الشريف، وكان يُسر بلقائه في كل مرة كأنه في يوم العيد، ورأيت من إجلال الشيخ المعصراوي للشيخ الحويني والحرص على وصله والنزول على رغبته ما يصلح لإفراده بالكتابة، ومن ذلك أن الشيخ المعصراوي ظل زمنا يذهب يوميا لصلاة التراويح بالشيخ الحويني وأحبابه، ويتهجد معه في العشر الأواخر من رمضان، وورث هذا الود والتجلة، وحافظ على الطريقة نفسها، فضيلة الشيخ المقرئ صاحب بصائر التفسير د. عبدالسلام المجيدي .

وفي لقاء الوداع في المستشفى قبل وفاة الشيخ الحويني بأيام، دخلت لزيارته فوجدت عددا من أحبته، وانعقد لساني عن الكلام فنبهني أحد أولاده إلى أهمية الكلام معه عن أحوال المسلمين كالعادة فإن هذا يُسري عنه، فأخذت أتخير له، وطلبت من فضيلة الشيخ عبد الحي يوسف أن يخبره عن حال المسلمين في الصومال، وكان قافلا لتوه منها، فقال له إن لبيوتهم بالقرآن دويا كدوي النحل، فتهلل وجهه وابتسم، ثم قال وما أخبارهم مع السنة؟

.....

- المصدر: الجزيرة مباشر، 7-5-2025