التحذير من العرف الخاطئ والخداع اللفظي والتركيز على العقيدة وتأثيرها في العمل

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتمهم المجتبى، محمد وآله وصحبه مصابيح الدجى، ومن بهم اقتدى فاهتدى. (أما بعد)

فهذان أصلان مهمان من الأصول العشرين، التي وضعها الإمام حسن البنا رحمه الله ورضي عنه، لتكون أساسًا للفهم المشترك لمن سمَّاهم الإخوان: الإخوان المسلمين العاملين. فهم الإخوان الصادقون ومن عداهم، فهم لا زالوا في الطريق، أو لم تصل معرفتهم أو همتهم وإرادتهم إلى هذا المستوى الرفيع في جودة الفهم واستقامة السلوك، وارتفاع الدرجة، والارتقاء إلى دور البذل والتضحية، وقد سمَّاهم مرشدهم حسن البنا باسمهم المعبر: "الاخوان المجاهدين" في المقدمة الموجزة التي كتبها لرسالة "التعاليم"، التي تتضمن عشرة أركان، أولها: ركن الفهم، ويحسن بي أن أقتبس هذه المقدمة لأضعها في هذه السطور.

قال: "فهذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين، الذين آمنوا بسمو دعوتهم ، وقدسية فكرتهم ، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها ، أو يموتوا في سبيلها ، إلى هؤلاء الإخوان فقط أوجه هذه الكلمات ، وهي ليست دروساً تحفظ ، ولكنها تعليمات تنفذ ؛ فإلى العمل أيها الإخوان الصادقون: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:105)، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153)، أما غير هؤلاء، فلهم دروس ومحاضرات، وكتب ومقالات، ومظاهر وإداريات، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (البقرة:148)، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (النساء:95 ، الحديد:10)" اهـ

وهذان الأصلان اللذان نقدمهما اليوم هما: الأصل السادس عشر، والسابع عشر، وهما اللذان قال فيهما حسن البنا هذه الكلمات: "والعرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية , بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها، والوقوف عندها، كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين،  فالعبرة المسميات لا بالأسماء" .

"والعقيدة أساس العمل، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعاّ وإن اختلفت مرتبتا الطلب".

ففي الأصل الأول من الأصلين، ركز الأستاذ البنا على إبقاء الحقائق الشرعية، التي رضيها الشرع للناس، ورسم لها حدودا، وحدد لها ألقاظا لها دلالتها ومفهومها، فلا يجوز فتح الباب واسعا للناس، ليتلاعبوا بها، ويغيروا ويبدلوا فيها حسب أهوائهم، فإن هذا يضلل الناس عن الحقيقة الشرعية، وما وراءها من أحكام، تحدد مواقف الناس والتزاماتهم.

لهذا كان من الواجب على أهل العلم والدعوة من أهل الاختصاص، الذين يحملون المسؤولية، ويعرفوا أهمية الحفاظ على المشروعات والموروثات، وحمايتها من عبث العابثين، وتقولات المفترين، وتأويلات الكاذبين، بل تحترم هذه الألفاظ الشرعية، ويجب التأكد من حدود المعاني المقصودة بها، فلا تشطح بها يمينا وشمالا، حسب أهوائنا وأمزجتنا، أو حسب ثقافاتنا واتجاهاتنا، فهذا من أسباب الفتنة بين المؤمنين.

ولهذا حذر "البنا" مما سماه "الخداع اللفظي" في كل نواحي الدنيا والدين. فإنما جعل الله اللغة لتنقل المعاني للناس واضحة جلية، لا لتصبح ألفاظها وجملها وأساليبها "لعبة" في أيدي الناس، للتمويه بها على الخلق، ولتحريفها عما وضع الناس، كما رأينا  الباطنية، وبعض المغررين والمضللين، الذين أعطوا لبعض الألفاظ معاني من عند أنفسهم، غير المعاني الأصلية، وحملوها هم من المعاني ما يريدون.

وبهذا بطلت مهمة اللغة وألفاظها، ما دام كل إنسان قادرا على أن يحمل الألفاظ ما يريد هو، لا ما تحمله الألفاظ بحكم دلالتها الحقيقية والمجازية، التي تقوم عليها الأدلة.

وكذلك الأصل الثاني من أصلينا، وهو أن: "العقيدة أساس العمل..", فالعقيدة هي الأصل وهي الأساس وهي المنهج، والعمل هو: الفرع والبناء والنبع، ولا بد أن يبنى العمل على العقيدة، ومن لم يؤسس عمله بالعقيدة، فلا قيمة للعمل، ولهذا قال الله في شأن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (الفرقان:23) ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39).

وذكر البنا هنا أن: "العمل المتفرع من العقيدة، ينقسم إلى: عمل القلب، وعمل الجارحة. وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعاّ وإن اختلفت مرتبتا الطلب"، وفي أعمال القلوب قامت كتب التصوف والسلوك والأخلاق الإسلامية، وقام رجال كبار، ومدارس وجمعيات وطرق، بالتأليف والتدريس والتزكية العلمية للنفوس، وكانوا كما كان غيرهم من الناس- على تفاوت فيما بينهم، وإن لم يخرجوا عن الأمة المختارة المصطفاة- كما قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} (فاطر:32).

أقدم بهذه الكلمات هذين الأصلين من أصول الإمام البنا العشرين، لعلنا نحسن فهمهما، ويحسن العمل بهما، ويحسن الدعوة إليهما، ونضمهما إلى المجموعة الفكرية، التي تكونها، لتكون زادنا إلى الحق والخير في الدنيا والآخرة. والحمد لله رب العالمين.

الفقير إلى عفو ربه

يوسف القرضاوي

16ربيع الأول 1434هـ

28يناير 2013م