دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

ربنا لك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئتَ من شيء بعد، وصلاةً وسلامًا على من أرسلته رحمة للعاملين، وحُجَّة على الناس أجمعين، وبعثته ليتمم مكارم الأخلاق، ويختم رسالات النبيين، ونزَّلت عليه الكتاب، {تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} [النحل: 89]، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد ...

فإن الإسلام رسالة قِيَم وأخلاق في الدرجة الأولى، حتى صح عن النبي صصص أنه قال: «إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق»، فحصر رسالته في هذه المهمة الأخلاقية، ولا غرو أن ربط الأخلاق بالعقيدة، حتى نفى الإيمان عمن لا أمانة له، وعمن بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع، وعمن زنى أو سرق أو شرب الخمر... وجعل من لوازم الإيمان: صلة الرحم، وإكرام الجار، وقول الخير: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».

كما ربط الأخلاق بالعبادات، وجعلها من ثمراتها وفوائدها، فإقامة الصلاة: {تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]، والزكاة: {تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103]، والصيام: {لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، والحج لا ينال الله منه هَدْي ولا لحم ولا دم: {وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡ} [الحج: 37] .

وإذا لم تؤت هذه العبادات أُكلها في الأخلاق والسلوك فقد فقدت قيمتها عند الله: «رُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر، ورُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع» ، «مَن لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» ، كما ربط الإسلام المعاملات بالأخلاق أيضًا، من الصدق والأمانة والعدل والإحسان والبر والصلة والمرحمة.

وربط الحياة كلها بالأخلاق، فلا انفصال بين العلم والأخلاق، ولا بين السياسة والأخلاق، ولا بين الاقتصاد والأخلاق، ولا بين الحرب والأخلاق، فالأخلاق لُحْمَة الحياة الإسلامية وسَدَاها.

ومثل الأخلاق: القيم، سواء أكانت قِيَمًا دينية ربانية، وعلى رأسها الإيمان بالله تعالى، وبرسالاته، وبالجزاء العادل في الآخرة، وما يثمره هذا الإيمان من قيم أخرى مثل حب الله تعالى والرجاء في رحمته، والخشية من عقابه، والتوكل عليه، والإخلاص له.

أم كانت قيمًا إنسانية مثل: الحرية، والكرامة، والعدل، ورعاية الفطرة، والاعتدال أو الوسطية، واحترام الحقوق، والمساواة بين الناس، والرحمة بالضعفاء ... إلى آخر تلك المعاني الجميلة.

وهذا البحث عن «القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي»، وعن أهميتها ومكانتها وتأثيرها في مجالات الاقتصاد المختلفة، من إنتاج واستهلاك، وتوزيع وتداول، بيَّنتُ فيه أن أبرز ما يميز الاقتصاد الإسلامي عن غيره من مذاهب الاقتصاد الوضعي: أنه اقتصاد قيم وأخلاق.

وهو بحث موثَّق بأدلته من القرآن والسنة، وهما المصدران المعصومان الهاديان، فمن اهتدى بهما فلن يضل، ومن اعتصم بحبلهما فلن يزل.

والاعتصام بهذين الأصلين الربانيين الخالدين، لا يغنينا عن الرجوع إلى علماء الأمة وأئمتها الراسخين، للاستفادة من علومهم في الشرح والبيان والاستنباط، ولا يُتصور في أي علم كان - ديني أو دنيوي - أن يبدأ عالِم من الصفر، ويطرح التراث الهائل الذي تكوّن على مر الأجيال، وساهمت فيه عبقريات شَتَّى.

وقد التزمتُ في هذا الكتاب ألا أستدل إلا بحديث صحيح أو حسن، إذ لا حجة في غيرهما، ولا أحتج بحديث ضعيف بيّن الضعف وإذا ذكرت حديثًا ضعيفًا - على ندرة - فإنما يكون للاستئناس لا للاحتجاج.

وهذا اقتضاني أن أبين درجة الأحاديث، وأسندها إلى مصادرها، وأذكر مَن صححها أو حسَّنها أو - على الأقل - وثَّق رواتها. وهذا ما ألتزمه أبدًا، على ما فيه من جهد، ولكنه جهد غير ضائع.

أقل هذا البحث جديد، وأكثره قديم، كتبته منذ أكثر من ربع قرن، فصولًا متناثرة، لم يتيسر لي أن أجمع شتاتها، وأنظمها في عقد، وعندي كثير من البحوث على هذه الصورة، ولا أدري: أيتسع العمر، ويمدني الله بتوفيقه لتهيئتها وإتمامها وإخراجها للناس أم لا؟ ولا أدري أيضًا: هل أثَّر مرور الزمن، وتغير كثير من الأوضاع، وتطور الدراسات الاقتصادية، وبخاصة الإسلامية، في القيمة العلمية لهذه الصحائف أو لا؟

ومهما يكن الأمر فهذه رؤيتي، وهذا جهدي، عسى أن يكون فيه بعض ما ينفعن ويضيء شمعة على الطريق، ولكل مجتهد نصيب، وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والله المسئول أن يجعل نيّتنا خالصة لوجهه.

وأشكر لمجموعة دلّة البركة، فهي التي استحثتني على كتابة أصل هذا البحث وتقديمه في ندوتها التي عقدتها في شهر أكتوبر سنة (1993م) بالقاهرة، بالمشاركة مع بيت التمويل المصري السعودي حول «تعريف الإعلاميين بالاقتصاد الإسلامي»، ثم أضفت إلى البحث الأصلي مباحث أخرى، حتى ظهر بهذه الصورة.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الفقير إلى عفو مولاه

الدكتور يوسف القرضاوي

القاهرة: المحرَّم (1415هـ) الموافق يوليو (1994م)