ابن القرية والكتاب.. ملامح سيرة ومسيرة ج4
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن يبذل في نصرة الحق جهده.
وبعد ...
فهذا هو الجزء الرابع من ملامح سيرة ومسيرة «ابن القرية والكتاب»، وهو يشمل بضعة عشر عاما «حوالي 18 عامًا» من هذه السيرة والمسيرة: وهي سنوات حافلة بالأحداث على المستوى الشخصي، والمحلي والعربي والإسلامي والعالمي:
على المستوى الشخصي تخرج كل أبنائي، وتزوج كل بناتي، وأمسيت جدًّا لعدد من الأحفاد والحفيدات كلهم من بناتي، وعينت عميدًا لكلية الشريعة ومديرًا لمركز بحوث السنة والسيرة. ونجحت في الدعوة إلى تأسيس الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت، وعملت رئيسًا لهيئة الرقابة الشرعية لعدد من المصارف الإسلامية، كما اخترت عضوًا في المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، وعضوًا في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن «مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي» وعضو مجلس أمناء مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، وعضو مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية بالخرطوم، وغيرها، كما حصلت في هذه الفترة على بعض الجوائز العالمية.
وعلى المستوى العربي والإسلامي، انتصرت ثورة الإمام الخميني في إيران، وقامت الحرب العراقية الإيرانية، ووقع غزو صدام حسين للكويت، وانتصرت ثورة الإنقاذ في السودان، وقام أول حزب سياسي إسلامي رسميَّا في الجزائر «حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، وانتصر المجاهدون الأفغان على الاتحاد السوفييتي، وكان ذلك من أسباب انهيار هذا الكيان الكبير، ولكن الأفغان الذين انتصروا على السوفييت لم ينتصروا على أنفسهم، وكما قلت لهم: لقد أحسنتم أن تموتوا في سبيل الله، ولم تحسنوا أن تعيشوا معًا في سبيل الله!
وفيها بدأت مسيرة الدعوة إلى السلام أو الاستسلام مع إسرائيل، ابتداء بـ «كامب ديفيد» وانتهاء بأوسلو، وبدأ كثير من العرب يقتربون - سرًّا أو علنًا - مع إسرائيل.
وفيها انتشرت جماعات «الجهاد» التي ترى فرضية استخدام العنف في مقاومة الحكام، واغتيل الرئيس المصري أنور السادات على يد إحداها.
وفيها انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى في فلسطين، وظهور أطفال الحجارة، الذين يقاومون دبابات العدو مصفّحاته بقذف الحصا والحجار.
وفيها أُسِّست حركة المقاومة الإسلامية «حماس» في فلسطين، مولودة من رحم الإخوان المسلمين في فلسطين، كما أسست ذراعها العسكري «كتائب عز الدين القسام».
واشتدّ ساعد الصحوة الإسلامية في الجزائر، واتَّسع نطاقها، واكتسح الإسلاميون فيها الانتخابات التشريعية، وعُطِّلت نتائجها، وقبض العسكر على أزمّة الحكم، وكانت فتنة عارمة في البلاد بين الحكومة العسكرية والمسلحين الإسلاميين.
وتفوقت في تركيا الحركة الإسلامية التي يقودها الرجل الأكاديمي المصلح المناضل د. نجم الدين أربكان، لينقل المسيرة إلى مرحلة جديدة، بعقلية جديدة.
وفي باكستان ظهر الجنرال ضياء الحق، القائد الذي أعلن ولاءه للإسلام وشريعته وقيمه، فأبت الصليبية الغربية إلا أن تخطط لاغتياله. وتوفي الإمام ابو الأعلى المودودي، وخَلَفه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، قادوا مسيرة الدعوة وسط التيارات الهائجة والأمواج المتلاطمة، كما انتشرت دعوة الإخوان المسلمين في نحو سبعين قطرًا في أنحاء العالم.
ونشطت الدعوة السلفية في أقطار شتى، يسندها النفوذ السعودي والمال السعودي، ونشاط الدعاة السعوديين، وغير السعوديين، وإن كانت في داخلها قد انقسمت إلى اتجاهات مختلفة من ناحية تبني العنف أو عدمه، ومن ناحية التعامل مع الآخر.
وعلى المستوى العالمي، انتهزت أمريكا فرصة غزو الكويت لتقود تحالفًا دوليًّا ضد العراق، لتضرب أقوى جيش في المنطقة يهدد إسرائيل، بعد أن أخرجت جيش مصر من المعركة نهائيا باتفاقية «كامب ديفيد» ، ودخلت أمريكا المنطقة عسكريًّا وسياسيًّا بطلب حكامها، لتستقر فيها ولا تخرج منها، إلا أن يشاء ربي شيئًا.
وقام الاتحاد الأوربي وأصبح حقيقة واقعة، على حين بقى العرب والمسلمون شراذم، وقد تفرقوا شيعًا وأحزابًا، كل حزب بما لديهم فرحون.
وقد تميزت هذه السنوات بأمرين لهما أهمية قصوى في حياتي:
الأول: الانتشار الكبير لي في أنحاء العالم في الشرق والغرب، وزيارة كل قارات العالم حتى أستراليا، وأمريكا الجنوبية، حتى سمّاني بعض الزملاء في ذلك الوقت: الشيخ الطائر! والحقيقة أني كنت دائم الأسفار والتجوال من بلد إلى آخر، فلا أكاد يستقبلني أهلي إلا وهم يستعدون لوداعي.
والثاني: ظهور المد الإسلامي أو الصحوة الإسلامية بقوة في تلك المرحلة، وقد كنت أعتبر هذه الصحوة جزءًا مني، كأنما هي ولدي وفلذة كبدي، وكنت حريصًا أبلغ الحرص على حسن نمائها: إيمانيًّا وفكريًّا وخلقيًّا، وألا تُغذَّى بأغذية ضارة أو ملوثة وأن يقود زمامها من يملكون الحكمة والبصيرة، إلى جانب التقوى والأمانة، وكنت أقول دائمًا: أخشى على الصحوة أن تتآكل من الداخل قبل أن تُضْرَب من الخارج.
ومن خلال هذه المذكرات سيمرّ القارئ بمعظم أحداث العصر في منطقتنا العربية والإسلامية، بحكم أني أعيش في قلب هذه المنطقة، وقلب هذه الأحداث، وقد قدر لي في هذه المرحلة أن أتفاءل بها ومعها متأثرًا ومؤثرًا، ولذلك يصعب أن تفصل ما هو شخصي عما هو عام، فقد كنا نعيش هموم الأمة، وآلامها وآمالها، عليها نمسي ونصبح، وننام ونستيقظ، ونسكن ونتحرك.
وأريد أن أستسمح القارئ الكريم لهذا الجزء من المذكرات، إذا وجد خطأ في بعض التواريخ، فكل اعتمادي فيها على الذاكرة، ولم أكتب فيها صفحة واحدة إلا ما كان من رسائل أو نحو ذلك، والذاكرة تصيب وتخطئ، فكيف بها إذا شاخت؟
كانت الذاكرة بالنسبة لأيام الصبا والشباب والكهولة: حديدية، لا يكاد يتفلّت منها شيء، أو يلتبس عليها شيء، أما في عهد الشيخوخة، فمهما تكن الذاكرة قوية، فلابد من أن يفوتها شيء، أو تختلط عليها بعض الأشياء، ولكن هذا في التفصيلات والجزئيات لا في القضايا الكلية، والأمور الجوهرية. والحمد لله رب العالمين.
هذا وكنت قد نشرت هذا الجزء من المذكرات في بعض الصحف في قطر والجزائر والمغرب في شهر رمضان 1429هـ، ثم اكتشفت أن هناك أحداثًا مهمة وقعت في تلك الفترة كنت نسيتها، فلم أسجّلها، ولم أعلّق عليها، كما حذفت بعض الأحداث كنت ذكرتها قبل أوانها، وإنما أوانها في الجزء الخامس إن شاء الله، كما عثرت على وثائق ذات قيمة كانت ضائعة مني، فكان لابد لي من أن أضيفها.
هذا، وقد تحدثت بعض الصحف عن مذكراتي في الأجزاء الثلاثة التي نشرت وأثنت عليها، ولكنها أشارت إلى أني أهتم بالإيجابيات، ولا أذكر السلبيات.
ولا أدري: ماذا تعنى تماما بـ «السلبيات»؟ أتعني: أن المرء إذا زلّت قدمه يوما، وارتكب معصية استتر بها، ولم يعرفها الناس: يكشف ستر الله عليه، ويقول للناس: لقد فعلت كذا وكذا على طريقة اعترافات الغربيين؟! وماذا يستفيد الناس من وراء ذلك إلا تهوين المعصية على الخلق!
على أن تربيتنا الإسلامية تمنعنا من ذلك، ففي الحديث النبوي المتفق عليه: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الجهار أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله تعالى».
أما الخطأ في الآراء والمواقف الفكرية والسياسية، فنحن نؤمن بأن لا عصمة لبشر بعد رسول الله صصص، وليس في العلم كبير. وكل عالم يؤخذ منه ويرد عليه، وما اجتهد فيه فأصاب فله أجران، وما أخطأ فيه فله أجر واحد. وهذا من روائع الإسلام.
وأما السلبيات التي يجب كشفها ونقدها حقا أما الخطأ في الآراء والمواقف الفكرية والسياسية، فنحن نؤمن بأن لا عصمة لبشر بعد رسول الله صصص، وليس في العلم كبير، وكل عالم يؤخذ منه ويرد عليه، وما اجتهد فيه فأصاب فله أجران، وما أخطأ فيه فله أجر واحد، وهذا من روائع الإسلام حقا، حقا، فهي ما يتعلق بالجماعة والأمة، وهو ما أعتقد أني قمت به في حدود معلوماتي وقدراتي، وربما أصابني في ذلك ما أصابني، ولا سيما من المتعصبين للأشخاص والأفكار، سواء من الإسلاميين أم من القوميين.
ولابد للمرء من أن يوطِّن نفسه على احتمال مثل هذه الانتقادات - أو الاتهامات - مادام يؤمن بأنه يقول كلمة الحق كما يراها، وليس عليه أن يرضي جميع الاتجاهات، وجميع أصناف الناس، فهذه غاية لا تدرك، وأمنية لا تنال، وحسب المؤمن أن يرضي ربه، وإن سخط عليه الساخطون.
{رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
يوسف القرضاوي
الدوحة في: المحرم 1431 هـ
يناير 2010 م.