صلاة المغرب التي لا تُنسى

بعد هذه الأحداث الجسام، وضرب الإخوة الذين اجترأوا على دق باب الزنزانة لاستسقاء الماء ليشربوا، ثم ضرب الأخ الصبور البطل حلمي مؤمن… وغير ذلك من الأحداث التي تراكمت؛ ظهرت بادرة غريبة من إدارة السجن لم تكن معهودة ولا متوقعة؛ فقد أراد باشجاويش السجن أمين السيد وأعوانه أن يتقربوا من الإخوان، ويعتذروا إليهم عما حدث في المدة الماضية، ويسألوهم العفو والصفح؛ فهم أهل للعفو والسماح، وأن يبدءوا معهم صفحة جديدة، وعفا الله عما سلف.

ويبدو -والله أعلم- أن هذه البادرة كانت مقدمة لسياسة جديدة، يريدون أن يداووا بها بعض جراح نفوس الإخوان، حين بدءوا يفكرون في الإفراج عنهم بالتدريج. وقد قيل: إن هذا الانفتاح كان بناء على وساطة من الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية.

على كل حال نودي على الإخوان بعد أن فُتحت الزنازين، ونزل الإخوان من الدورين الثاني والثالث، وانضموا إلى إخوانهم من نزلاء الدور الأول في ساحة السجن الفسيحة. وجلس الجميع كأن على رؤوسهم الطير، وطُلب من أحدهم أن يبتدئ هذا الجمع بتلاوة من القرآن الكريم، فقرأ أحد الإخوة آيات كريمة من سورة آل عمران؛ مما نزل في محنة غزوة أحد، ابتداء من قول الله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} إلى قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 138-148). وكانت هذه الآيات بردًا وسلامًا على قلوب الإخوان.

ثم طُلب من الإخوان أن يتكلم واحد منهم؛ ليعلن عن عفو الإخوان عما أصابهم، وصفحهم عمن أساء إليهم، فتطوع بالكلام عنهم فضيلة الأخ الواعظ الجليل الشيخ مختار الهايج -وكان له من اسمه نصيب- قائلًا بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله: إني لا يسعني إلا أن أزف خالص تهنئتي إلى جنود مصر البواسل حرس السجن على انتصاراتهم في معاركهم المتواصلة ضد نزلاء السجن من مواطنيهم الذين لم يقترفوا جرمًا إلا أن يقولوا: ربنا الله.. أهنئهم بهذه الانتصارات الساحقة التي حققوها وأخضعوا بها رقاب المسجونين، وأتمنى لهم من كل قلبي انتصارات مماثلة على اليهود المغتصبين في أرض فلسطين!!

وما كاد الشيخ مختار يتم كلمته حتى تكهرب الجو، وتطاير الشرر، وهيج الشيخ الهايج عش الدبابير، وعادت ريمة لعادتها القديمة، ورُد الإخوان إلى الزنازين، وأُخذ الشيخ الهايج إلى زنزانة انفرادية؛ عقوبة له على سخريته بالسجانين. حتى أذن بالانفراج مرة أخرى. وقد قال الشاعر: اشتدي أزمة تنفرجي  **  قد آذن ليلك بالبلج

ومن الوقائع التي أذكرها ولا أنساها، ويذكرها معي كثير من الإخوة، ويذكرونني بها كلما لقوني: صلاة المغرب الوحيدة التي سُمح لنا أن نؤديها كلنا جماعة في السجن الحربي، بعد أن بدأت الغيوم تتكشف، والأحوال تتحسن، وكان باكورة ذلك أن نودي علينا لنقيم الجماعة في ساحة السجن، ودوى الأذان في ساحة السجن: الله أكبر، الله أكبر، وتجمع كل الإخوان من أدوار السجن الثلاثة، ونحن لا نكاد نصدق ما يجري: أحلم هذا أم حقيقة؟!

وقدمني الإخوان لأؤمهم في صلاة المغرب، واعترتني حالة من الرقة والخشوع لا أنسى حلاوتها، وتلوت القرآن بصوت مؤثر يكاد يهز أركان السجن الأربعة، قرأت في الركعتين الربع الأخير من سورة آل عمران: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ومررت بالآيات التي تتضمن دعاء أولي الألباب {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

وكان من هذه الأدعية {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}.

كنت أشعر كأني لا أقف على الأرض، ولكني أحلق في أفق عال، وكنت كأنما أسمع رجفات قلوب الإخوان من خلفي، وأنا أتلو الآيات من خواتيم سورة آل عمران. وكأنما أجد في الآيات معانيَ جديدة ما كنت أجدها من قبل، حتى انتهيت إلى ختام السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

وقد وجدتني أقرؤها هكذا:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

وسلمت وسلم الإخوان، ووجدت الدموع على الخدود، لا أدري أهي دموع الخشية، أم دموع الرحمة، أم دموع الفرحة؟

يا سبحان الله، كيف أصبحت ساحة السجن التي طالما كانت ساحة للتعذيب والتكدير، والتي عوقبنا فيها ليلة المحاكمة المشهودة، والتي كم نصبت فيها "العروسة" (صليب خشبي يحتضنه المعذب موثوق الأيدي والأرجل، ويجلد عليه) لعقاب "المتمردين"، والتي شهدنا فيها الضرب الوحشي للأخ حلمي مؤمن، والتي جُمعت فيها المصاحف وحُرقت… وغيرها وغيرها، كيف تحولت إلى جامع كبير لمثل هذه الصلاة التاريخية؟! لا نقول إلا: سبحان مغير الأحوال!

ووقف جنود السجن مشدوهين متأثرين من هذه الصلاة. وطلب إليّ الإخوان بعد الصلاة أن ألقي كلمة، فاعتذرت، فلم تكن عندي رغبة في الكلام بعد هذه الصلاة. فتقدم الأخ الأستاذ فريد عبد الخالق، فقال: إنها والله فرصة تُغتنم، وإنما لكل امرئ ما نوى. وألقى كلمة توجيهية، بعث بها الأمل في النفوس، وأن الفجر قريب، وأنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.

ولكن هذه الصلاة الحلوة التي قرت بها الأعين، واطمأنت بها القلوب؛ لم تتكرر بعد ذلك، فكانت هي الأولى والأخيرة، ويبدو أنهم شاهدوا بأعينهم أثر هذه الصلاة الجماعية في تثبيت الأفئدة، وشد العزائم؛ فلم يسمحوا لنا بصلاة أخرى على غرارها، حتى فُتحت الزنازين، وأذن لنا بالاختلاط، والزيارات، عند بداية الإفراجات؛ سمحوا لنا بصلاة الجماعة داخل كل زنزانة، أو لا مانع أن يجتمع أكثر من أفراد زنزانة للصلاة، ولكن داخل الزنازين.

وظل الإخوة يذكرون هذه الصلاة بعد مرور السنين، ويذكرونني بها إذا لقوني. أذكر أني أول ما لقيت الأخ "يوسف ندا" في سويسرا في السبعينيات قال لي: هل تذكر صلاة المغرب التي أممتنا فيها في السجن الحربي؟! قلت: وهل مثل هذه الصلاة تُنسى؟! إني لم أشعر في حياتي بحلاوة صلاة تساوي أو تداني هذه الصلاة التي أحسست وتذوقت فيها قول رسولنا الحبيب: "وجُعلت قرة عيني في الصلاة"!!

بين رمضانين.. توسعة وفرج بعد ضيق وشدة

وصمنا رمضان آخر في السجن، ولكن ما أعظم الفرق بين الرمضانين! كان رمضان الأول في عهد شدة ومجاعة وتضييق في كل شيء، وجاء رمضان الآخر ونحن في حالة يسر وشبع وتوسعة في كل شيء. لم نعرف في رمضان الماضي أكل "الخشاف" من الزبيب والتين، ولا شرب قمر الدين، وفي رمضان هذا كان لدى الإخوة الموسرين من هذا الكثير، وكانوا يجودون على إخوانهم الفقراء من أمثالنا، بل كانوا يقاسمونهم كل ما عندهم ولا يستأثرون عليهم بشيء.

كنا في رمضان الماضي نخاف أن نجهر في الزنازين بقراءة القرآن أو بصلاة التراويح، فهذا من الممنوعات؛ فأمسينا اليوم نتلو القرآن جهارًا، ونصلي التراويح علنًا، دون أن يلومنا أحد؛ فسبحان مغير الأحوال.

كان الإخوة يقدمونني لأصلي بهم في إحدى زنازين الركن، وهي عادة أوسع من غيرها، وكان يصلي ورائي عدد من الإخوة الكبار: عبد العزيز كامل، وتوفيق الشاوي، وفريد عبد الخالق، وأحمد الملط، وأحمد العسال، ويوسف توبة، وكامل سليم، والحاج عبد الحكيم شاهين… وآخرون لا أذكرهم.

السماح بالزيارة

ومما سُمح به أخيرًا للمعتقلين: زيارة أقاربهم لهم، وقبول الرسائل والطرود الواصلة من ذويهم إليهم، وكان هذا محظورًا تمامًا. وكان جل الذين انتفعوا بهذه الزيارات -وخصوصًا في مناسبات معينة مثل عيد الفطر وعيد الأضحى، وما سُمّي عيد الأم في 21 مارس- إخوان القاهرة والجيزة؛ فهم الذين علموا بهذا الإذن، وأبلغ بعضهم بعضًا بذلك. أما أبناء الأقاليم، فقلما يعرفون بذلك إلا بعد أن يفوت الأوان.

وقد التقت في هذه الزيارات الوجوه بالوجوه، وتصافحت الأيدي، وتعانقت الأبدان، وذرفت الأعين الدموع، دموع الفرح باللقاء بعد الشوق والحرمان الطويل على نحو ما قال القائل:

ورد الكتاب من الحبيب بأنه  **  سيزورني فاستعرت أجفاني

غلب السرور علي حتى إنه  **  من فرط ما قد سرني أبكاني

يا عين قد صار البكا لك عادة  **  تبكين في فرح وفي أحزان

وفي أيام الزيارات حدثت مفاجآت مذهلة، ومفارقات عجيبة، خليقة أن تفتت الأكباد، وتقطع نياط الفؤاد. فكم من إخوة جاءوا ليزوروا أخاهم الذي اعتقل من بينهم فلم يجدوه، وكم من أم اختُطف وحيدها من بين أحضانها، فلم تجد له أثرًا، ولم تسمع عنه خبرًا، ولم يجرؤ أحد أن يفضي إليها بسره؛ فقد خر شهيدًا في أتون العذاب، ووري جسده التراب، وهذه الحالة هي التي عبرت عنها في قصيدتي: "أم زائرة ولا مزور"!

قدمت إلى السجن الكبير يهزها  **  فرح اللقا ببدرها الموعود
وقفت مع الزوار ترقب لحظة  **  عدت بعمر في الزمان مديد
هي لحظة اللقيا الحبيبة بعدما  **  ذاقت عذاب البعد والتشريد
طال انتظار الأم أصعب برهة  **  ممزوجة الخفقات بالتنهيد
رأت النساء مزغردات حولها  **  فرحًا بلقيا ابن وضم حفيد
إلا فتاها! يا ترى ما عاقه؟!  **  أو لم يزل في القيد والتصفيد؟
أَم يا ترى يشكو السقام؟ فديته  **  بالنفس! أسئلة بغير ردود!
فرغ الفؤاد من التصبر بعدما  **  يئست فليس الصبر دون حدود
صاحت مزمجرة كنمرة غابة  **  لم قد تأخر فارسي ووحيدي؟!
ما بالكم لا تنطقون؟ هبلتموا!!  **  أين الرجاء، الحلم، أين عمودى؟
خرس الجميع، سوى دموع أحبة  **  والدمع خير معبر وشهيد
صرخت، وقد وعت الحقيقة مرة  **  لا!.. لا! أعيدوا لي بني.. وليدي!
خرت من الإغماء، هد بناءها  **  نبأ يزلزل ركن أي مشـــــــيد
قُتل الفتى، والأم لا تدري به  **  من بعد ليلة خطفه المشهود
كم عذبوه وهو يحتمل الأذى  **  بثبات أطواد، وقلب أسود
راموه معترفًا بما لم يأته  **  فأبى إباء الفارس الصنديد
لم يغره وعد بما منوه من  **  دنيا، ولم يحفل بهول وعيد
فتكالبوا مثل السباع لنهشه  **  صُنع الجبان الخائن الرعديد
صبوا عليه عذابهم ونكالهم  **  بأكف سفاح وقلب حقود
حتى قضى نحبًا، وأسلم روحه  **  متغنيًا بشهادة التوحيد
لم ينهزم، والله، بل هزم الألى  **  قتلوه قتلة مؤمني الأخدود

رحمى لها! وقد استردت وعيها  ** وغدت تصيح بحسرة وشرود
قتلوك يا ولدي! ألا شُلَّت يد  **  مُدَت إليك بقسوة وجحود
ما كان جرمك يا بني ولم تكن  **  في الناس غير الطاهر المحمود
لو أنهم سألوا المكارم والتقى  **  والبر عنك، لَكُنّ خير شهود
هل كان جرمك أن عزفت عن الخنا  **  وعففت عن ورد لهم مورود
هل كان جرمك أن تعيش لفكرة  **  لا للمجون ولا ابنة العنقود
تدعو لنهج الله نهج محمدٍ  **  لا نهج فرعون، ولا نمرود
كم أرَّقتك هموم أمتك التي  **  كسرت جحافلها أمام يهود
هام الشبيبة في سعاد، ولم تهم  **  إلا بسعد تراثنا وسعيد
عشقوا ملاهيهم وعشقك مصحف  **  تتلوه بالترتيل والتجويد
ما كنت تصحب غير أرباب التقى  **  من صائمين وركع وسجود
لم تحن رأسك للطغاة، ولم تدن  **  يومًا لغير الواحد المعبود
ووقفت في صف الضعيف، ولم تمل  **  نحو القوي ورفده المرفود
لم ترض يومًا أن تباع بضاعة  **  للأجنبي وماله الممدود
وأبيت تركع للجبابرة الألى  **  حكموا، ولم يك حكمهم برشيد
ورفعت بالتوحيد رأسك عاليًا  **  قُتل الألى قتلوك للتوحيد    

يا ويل أرض تسجن الأطهار من  **  أبنائها في غلظة وكنود
ويبيت فيها الفرد حرًّا آمنًا  **  ما عاش عيش الفاجر العربيد
كم كنت آمل أن أراك، وإن تكن  **  أمسيت ترسف في دم وصديد
يا يوم عيد قد رجوت صباحه  **  ففجعتني، لا كنت يوم العيد
عادت عيون الأمهات قريرة  **  بلقاء أبناء، وضم كبود
ورجعت بالحسرات تأكل مهجتي  **  ورجعت بالعبرات فوق خدودي
أضناني الثكل الحزين، فليتني  **  ووريت قبل اليوم بطن لحود
ما الأرض إلا غابة قد موهت  **  بزخارف العمران والتشييد
ما أهلها إلا وحوش غطيت  **  أنيابها بملابس وبرود
ضاقت علي الأرض وهي فسيحة  **  ما أضيق الدنيا بدون شهيدي

ومن دلائل الانفراج، وبشائر الإفراج؛ عودة الكتب التي كانوا قد صادروها منا، وقد فرحنا برجوعها إلينا كما تفرح الأم بوحيدها إذا عاد إليها بعد سفر وطول اغتراب. وشرعنا ننظم القراءة فيها، ويتبادلها بعضنا من بعض. وأذكر أننا قرأنا في تلك الفترة بعض الفصول من كتاب "نيل الأوطار" للشوكاني، وخصوصًا في أبواب البيوع وما يتعلق بها، وكنت أقرؤها أنا والأخ أحمد العسال، والأخ يوسف علي يوسف نوبة، الذي كان له وقفات وتعليقات جيدة من وجهة النظر الاقتصادية التي درسها، وقد عرفت في هذا أن تكامل الاختصاصات وتلاقحها في الدراسة يمكن أن يكون له ثمرات طيبة، تفيد الطرفين جميعًا، بخلاف العزلة الثقافية؛ فإنها لا تثمر إلا الجمود والانغلاق.